كانت المحكمة المركزية التابعة لمجلس القضاء الأعلى في حوران قد أصدرت الأسبوع الماضي تعميماً موجهاً إلى جميع الحواجز المحاذية لمناطق النظام، تطلب فيه منها عدم السماح بتوجّه السيارات المحملة بالقمح إلى مناطق النظام، وأن تتمّ مصادرة السيارة وحمولتها وتسليمها إلى المحكمة المركزية في حوران في حال امتناع السائقين.
جاء هذا بعد أسابيع من حديثٍ عن أزمة خبز بدا أنها قادمة حتماً إلى مناطق الجنوب السوري الخارجة عن سيطرة النظام، كان قد بدأ يتصاعد منذ أن وجّهت منظمة فاب رسالة في أواسط آذار الماضي إلى المجالس المحلية في درعا والقنيطرة، تقول فيها: «تودّ الجهة المانحة لمشروع فاب إبلاغكم أنه لن يتم تجديد المنحة، حيث من المقرر أن ينتهي المشروع بنهاية 2018. لتنفيذ ذلك سيقوم فاب بإنقاص الكميات تدريجياً من أول شهر نيسان 2018».

عن منحة فاب
يقول الأستاذ عماد عبد العزيز، وهو رئيس المجلس المحلي لبلدة معربة: «بدأ مشروع فاب عام 2013، وهو منحة أمريكية يتم بموجبها تقديم كمية من الطحين الخاص بالأفران، إلى المناطق الخارجة عن سيطرة النظام في محافظتي درعا والقنيطرة. تنفذه منظمة وتد نقلاً وتوزيعاً، وتغطي الكمية نسبة 30% من احتياجات السكان البالغ إجمالي عددهم حوالي 800 ألف نسمة. تصل كمية منحة الطحين إلى ما يقارب 2400 طن أسبوعياً، توزَّع بشكل حصص على المجالس المحلية، وتستكمل المجالس حاجات القرية التي لا تلبيها المنحة عن طريق شراء الطحين من النظام بواسطة تجار، أو شرائه من الفلاحين».
خلفية القرار وتبعاته
صرّحت فاب بأن المشروع كان منحة، ومن طبيعة المنح أن تنتهي، وبرأي المهندس منير القسيم، وهو عضو سابق في مجلس محافظة درعا الحرة، ورئيس المجلس المحلي لبلدة غصم حالياً: «صحيحٌ أن لكل مشروع بداية ونهاية، ولكني أعتقد أن إيقاف المنحة له خلفية سياسية، فهو تزامنَ مع قرار خفض كافة الكميات الإغاثية الداخلة إلى الجنوب، ومع قرار وقف الدعم المادي لفصائل الجيش الحر، ويمكن القول إنه حصار غير معلن».
سيؤثر القرار سلباً على جانب أساسي من جوانب الحياة المعيشية والاقتصادية للسكّان، ألا وهو رغيف الخبز، ومن المتوقع أن يرتفع ثمن ربطة الخبز، التي يتراوح سعرها بين 100 إلى 150 ليرة سورية الآن، إلى أكثر من الضعف، بحسب بعض رؤساء المجالس المحلية، كما سيضع كافة الجهات المحلية والمدنية أمام تحديات كبرى لتأمين الطحين.
يقول السيد القسيم: «أدّى سوء إدارة القائمين على المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وارتباط إداراتهم بسياسات بعض الدول الخارجية، إلى إبعاد المنطقة عن تلبية احتياجاتها داخلياً في أي مجال كان. وأدّى عدم وجود مكتب تخطيط أو هيئة مستقلة مختصة ومعنية بدراسة الأزمات مستقبلياً في المنطقة، إلى مواجهة مآزق وتحديات كبرى، كان منها إيقاف منحة الطحين، والتي سنواجه بسببها مشكلات ناتجة عن عدم قدرة مجلسيّ محافظتيّ درعا والقنيطرة ومديرية الحبوب والمطاحن التابعة للحكومة السورية المؤقتة، على شراء القمح المنتج في الجنوب السوري، لعدم توافر السيولة المالية. وتعاني المنطقة من عدم وجود مطاحن مجهزة وذات إنتاجية عالية، فيما عدا مطحنة واحدة في بلدة نصيب، تصل طاقتها الإنتاجية إلى حوالي 700 طن شهرياً، وهي كمية ضئيلة لا تغطي حاجة السكان من الطحين. وعلاوة على هذا كله، ليس لدينا القدرة على ضبط عمليات تهريب القمح إلى مناطق سيطرة النظام، الذي عمد مؤخراً إلى لعبة اقتصادية، وهي رفع سعر كيلو القمح ليصبح أعلى من سعر كيلو الطحين، حيث يصل سعر القمح إلى 175 ليرة سورية وكيلو الطحين 150 ليرة سورية، وغايته من ذلك سحب كامل كمية القمح من المنطقة في ظل غياب قدراتنا المالية والتخطيطية».
إجراءات وحلول
التواصلُ مع دار العدل والجهات العسكرية لمنع خروج القمح باتجاه مناطق سيطرة النظام، والبحث عن مصادر داخلية لتمويل عمليات شراء القمح من المزارعين، هي قرارات أوليّة أنتجها اجتماعٌ عُقِدَ في نيسان الماضي، بين مجلسيّ محافظتيّ درعا والقنيطرة والمجالس المحلية من طرف، وممثلين عن منظمة وتد من طرف آخر، كما أخبرنا السيد منير القسيم. وكان القرار المشار إليه أعلاه، الصادر عن مجلس القضاء الأعلى في حوران، والمتعلق بمنع بيع القمح إلى مناطق سيطرة النظام، من أوائل الإجراءات المتخذة في هذا السياق.
يبدو واضحاً أن الاعتماد الكلّي على المِنح والدعم الخارجي منذ البداية، كان السبب الذي قاد إلى الوضع الراهن اليوم، إذ تنتج حوران كميات من القمح كان يمكن أن تلبي معظم الاحتياجات، لكن لم يكن هناك سياسات مناسبة لاستثمار هذا الإنتاج، واليوم يبدو التفكير جدياً بالاعتماد على الإمكانات المحليّة للوصول إلى حالة من الاكتفاء الذاتي، وهو ما أكد عليه السيدان عبد العزيز والقسيم. وقد أضاف القسيم: «خلق الدعم المقدم خارجياً وعلى مدار سنوات سبع، خاصة طرود المعونات الغذائية، حالة من الاتكالية لدى الأفراد وشعوراً بالتبعية للجهات المانحة والداعمة. ولم تصبَّ المساعدات يوماً في مصلحة الشعب، فهي لم تكن أكثر من وسيلة ضغط سياسية».
استقراء آخر
السيد «أحمد»، وهو اسم مستعارٌ لناشط مدني وإعلامي في درعا، توقفّ عند عدد من النقاط التي يظنها هامة للإحاطة بموضوع إيقاف منحة الطحين، فهو يقول: «بعد سيطرة الفصائل المسلحة المعارضة على صوامع الحبوب في غرز عام 2014، والتي كانت تحوي على ناتج درعا من القمح لعامين متتالين، رفعت بعض المنظمات مشاريع تهدف لإدخال المطاحن إلى المنطقة، إلا أن تلك المشاريع قوبلت بالرفض، وبقي القمح في الصوامع حتى تعفّنَ وأصبحَ غير قابل للاستهلاك. وبقيت الحدود بين الأردن ومناطق درعا الخارجة عن سيطرة النظام مغلقة، ولم تُفتح لتصريف القمح المخزن في الصوامع أو لتصدير محصول درعا من القمح، رغم طلب المجالس المحلية من الأردن أن يشتري القمح بدلاً من النظام. هذا وبقيت حكومة الائتلاف ترزح تحت وطأة وضع مادي سيء لم يمكّنها من شراء القمح المنتج داخلياً في درعا والقنيطرة. وفي أواخر شهر نيسان 2018 أُشيع عن إلقاء أطنان من القمح في وادي الزيدي في الطيبة، بعد تلفها نتيجة سوء التخزين».
ويبدي السيد «أحمد» تعجّبه من أن المطحنة الوحيدة الفاعلة في درعا، والتي كانت موجودة قبل اندلاع المعارك أصلاً، متواجدة في جمرك نصيب الحدودي، ويشرف عليها حالياً فصيل عسكري تابع لغرفة عمليات الموك. وهو يخلص إلى نتيجة مفادها: «عانت المناطق الخارجة عن سيطرة النظام في محافظة درعا من مسألة تصريف ناتجها من القمح لخمسة أعوام متتالية، دون اتخاذ أي إجراء حقيقي من قبل المعارضة والدول الضامنة والداعمة لها، مما دفع المزارعين والفلاحين لتصريف محاصيلهم عند النظام». ويضيف: «هنالك إشارات استفهام عديدة حول ترهيب السكان من مسألة فقدان الطحين، وحول قرار إيقاف منحة الطحين، بالتزامن مع أحاديث عن إقامة حكم ذاتي أو حكومة فدرالية في المنطقة الجنوبية».
يبدو أن إنتاج درعا من القمح كافٍ تماماً في حال اتخاذ إجراءات تتعلق بتأمين المطاحن وتنظيم عملية شراء القمح من المزارعين لتحويله إلى طحين ثم خبز، لكن بدون اتخاذ إجراءات كهذه فإن جميع الإجراءات الأخرى لن تكون مفيدة على الأرجح، وسيبقى خبز أبناء حوران رهناً بالخارج، سواء كان هذا الخارج جهات داعمة، أو النظام نفسه.