على جزء من شاطئ مدينة سوريّة هادئة، طرطوس، تجتمع عدة مقاه أذكرُ أنها كانت قليلة العدد عندما كنتُ طفلاً في نهاية التسعينيات، حتى أنه كان يمكن عدّها على أصابع اليد الواحدة، ومن بين تلك المقاهي كانت «قهوة اسبيرو».
لم يكن ذلك المكان المكوّن من طابق أرضي واحد مقهىً دائماً، وقال لي بعض كبار السن إنه في زمن من الأزمان كان مسلخاً للحم البقر، وهناك أحاديث عديدة أخرى حول ما كانت عليه اسبيرو عبر مراحل مختلفة من تاريخها، فشخصٌ يقول إنها كانت جزءاً من سور القلعة التي بناها الصليبيون على شواطئ طرطوس لحماية طريق الحج إلى القدس، وآخرٌ يقول إنها كانت إسطبلاً للخيول في زمن ما. وثمة روايات غيرها أيضاً، لكني لم أستطع العثور على رواية تجزم بما كانت عليه قبل أن تصير مقهى مباشرةً، فمن طبيعة الذاكرة الشعبية أن تنسج القصص والروايات، وتختلط فيها الحقائق بالخيال.
عرفتُ اسبيرو في فترات شبابي الأولى، مبنىً حجريٌ قديمٌ جداً، والأرجح أنه مبنيٌّ على الطريقة الصليبية، فهو من الداخل يأخذُ شكلَ قناطر من حجر رملي بني اللون تأكله الرطوبة مع مرور الوقت، أمامه فسحة مغطاة بالقرميد للوقاية من المطر، غير أن السقف القرميدي كان مملوءً بالثقوب والقطع الناقصة منذ رأيته أول مرة، وكانت ألواح القرميد مرفوعةً على حوامل حديدية أكلها الصدأ.
في تلك الأيام كنّا نهربُ من مدارسنا الشبيهة بالمعتقلات، وكانت العادة أن نذهب إلى أحد المقاهي الخمس القريبة من بعضها على شاطئ البحر. تقع اسبيرو في مواجهة مرفأ القوارب التي تُبحرُ إلى الجزيرة الصغيرة المقابلة للمدينة، أرواد، وللوهلة الأولى كان المرء يظنّ أنها مكانٌ مهجور، إذ لم يكن أحد يهتم بنظافتها أو ترميمها.
تقدّمُ اسبيرو المتة ضمن المشاريب الأساسية فيها، مثل سائر المقاهي في طرطوس، ولا يوجد من يطالبك بتجديد مشروبك مهما طالت فترة جلوسك، مع استمرار تقديم أباريق الماء الساخن المملوء بالكلس بالداخل والمهترئ من الخارج. كما كان من الممكن ألّا تدفع ثمن المشروب في أحيان كثيرة، وهو ثمن منخفضٌ أساساً.
رغم جمال القناطر الحجرية الداخلية، إلا أنه يبدو عليها التعب، ويتساقط فتاتٌ منها بين الحين والآخر على رؤوس رواد المقهى، القليلين من حيث العدد مقارنةً مع المقاهي الأخرى، فلم يكن عدد زوارها كبيراً وقتَ بدأتُ بالتردّد عليها. كان هناك فئتان فقط، الفئة الأولى من كبار السن من أبناء أحياء طرطوس القديمة القريبة منها، الساحة والخندق، أو من جزيرة أرواد، الذين هم من أصدقاء الأخوين (الخال ونخلة)، اللذين استأجرا المكان منذ سنوات طويلة. غالباً ما كان الروّاد من هذه الفئة يأتون في أوقات الصباح، بعد رحلة الصيد ربما، أو قبل الذهاب للعمل، ويتبادلون الأحاديث بصوت مرتفع، بلهجتهم المحلية المميزة، وسرعان ما يتناقص عددهم مع مرور ساعات الصباح الأولى، لتأتي بعدهم الفئة الثانية، الشباب الهاربون من مجتمعاتهم النمطية، ومن مدارس الأب القائد المصمّمة بحيث كانت تبدو لي عقوبة أكثر منها عملية تعليم.
في كل صباح يأتي الخال الذي يحبّ أن نناديه بهذا الاسم، والذي كان في غابر الزمن منتسباً للحزب السوري القومي الاجتماعي، قبل أن يتركه متأخراً، وهو يعرف كل أبناء المدينة من شماليها وجنوبيها وشرقيها وأروادها. كان عندما يلتقي بشخص جديد يسأله عن أهله وأقاربه، ولا يكّل عن السؤال إلى أن يعرف أحداً منهم، وغالباً ما كان يعرف أحداً من دائرة الشخص الأولى أو الثانية على أبعد تقدير، فإن لم يعرف أهله عرف واحداً من أعمامه أو أخواله. أما نخلة، وهو شقيق الخال، فكان يأتي في فترة الظهيرة بشخصية مختلفة جداً عن شخصية الخال، فلا يخاطب أشخاصاً لا يعرفهم، ويحاول أن يتأنق باللباس ويكثر من توبيخ العاملين في المقهى بسبب وبلا سبب.
في الفترة التي كنتُ فيها مواظباً على الذهاب إلى اسبيرو، كان يتواجد فيها عاملان فقط، عصام الذي كان يأتي من أحد الضواحي القريبة من المدينة كل صباح ليفتح المكان لزواره الصباحيين، وكان يُكثر من مجاملة الزبائن، خاصةً البحارة منهم. وعندما سألته مرة عن سبب تودّده لهم بشكل خاص، قال متفاخراً: «هؤلاء يسافرون في البحار، ويقبضون بالعملة الصعبة، العملة السورية لا تعني لهم الكثير».
أما العامل الثاني فهو محسن، وكان دوامه من فترة بعد الظهيرة إلى منتصف الليل، وبسبب بُعد قريته عن المدينة كان ينام في اسبيرو، في إحدى زواياها المهملة. في فترة دوام محسن تكون فئة الزوار مختلفة، وهم الشباب المصرّون على هدر الوقت في أي شيء غير الدراسة، والمعترضون على كل شيء. كانت علاقتنا مع محسن أمتنَ من عصام، وكنا نتبادل معه بين الحين والآخر الأحاديث، الجديّة منها والطريفة.
كان هذا حال «قهوة اسبيرو» عندما بدأتُ بالذهاب إليها بشكل منتظم، لكنه لم يكن حالها دائماً، ففي فترة كأس العالم لكرة القدم عام 2006 كانت أحدَ أنجح المقاهي، كانت مكتظةً بالزوار الذين كانوا يحضرون مباريات كأس العالم وفيها كثيرٌ من العمال، لكن مع نقص الاهتمام بها من قبل القائمين عليها، وكثرة المقاهي التي بدأت تنافسها، انخفضَ هذا العدد تدريجياً منذ 2007، وهي السنة نفسها التي زرتها فيها للمرة الأولى مع أحد الأصدقاء، لأكتشف ما يميّزها عن باقي الأماكن في مدينة مثل طرطوس.
عندما زرتُها أول مرة كان يبدو واضحاً سوء الخدمة فيها، وانخفاضُ عدد المشاريب الممكنة، المتة أو الشاي، أو القهوة سيئة الطعم التي تُحضَّر على عجل في مطبخ يبدو أنه يحتاج للتعقيم من كثرة الأوساخ. وفي أحيان كثيرة كنا نحن نعدّ المشاريب لأنفسنا بعد أن اعتدنا المكان، دون الطلب من عصام أو محسن.
كان عدد زوارها الأسبوعي لا يتجاوز بضعة عشرات من الأشخاص، مما جعلهم جميعاً يعرفون بعضهم بعضاً، على اختلافاتهم الطبقية والدينية والفكرية من مجمل مكونات البلد.
لم يكن هناك حدودٌ للمزاح، ولا شيء فوق حدّ السخرية والضحك، خاصة المعتقدات البالية، وعادات أهل المدينة النمطية، التي كانت تدعو للجنون بالنسبة لنا. كنا نرى عائلات المدينة تسعى للتشابه في كل شيء، من الملابس إلى طرق التفكير إلى العادات الموروثة التي لا يعلمون لماذا يتوارثونها جيلاً بعد جيل. كانوا جميعاً يتمنون أن يكون أولادهم أطباء أو مهندسين على أقل تقدير، ويضغطون في هذا الاتجاه مهما كانت رغبة أولادهم، وكأنه هوسٌ يجب علاجه.
في ذلك الوقت، كنتُ كغيري من شباب المدينة الصغيرة، أبحثُ عن أسلوب لأملأ وقتي ريثما أنتهي من فترة الدراسة الثانوية، ويتحدّد مصيري على أساس تحصيلي الدراسي في الامتحان الأخير، في تلك الطريقة من التدريس التي تقتل التميّز والاختلاف.
على مختلف انتماءات عائلات الشباب الذين كانوا يرتادون اسبيرو، كان هناك شيءٌ يجمعهم، وهو النظر إلى أن المستقبل في البلاد مسدود ولا أمل يرتجى منه، وأن الحلّ هو الهجرة. كانوا يتباهون باختلاف كل شيء فيهم، من طريقة حياتهم اليومية إلى أنواع الموسيقى التي يسمعونها إلى الملابس، فترى مثلاً على الطاولة الدائرية نفسها خمسة أشخاص؛ شخصٌ يغطيه اللون الأسود ويتباهى بأنه لا يسمع إلّا الموسيقا الصاخبة (الميتال)، وعلى يمينه بحارٌ شابٌ بدأ رحلة تجاربه البحرية حديثاً، يرتدي طقماً دون ربطة عنق، وعلى يساره شاب آخر بأزياء الهيب هوب، من بناطلين «سالتة» وكنزات واسعة، وشخصين في اللباس المدرسي. يتبادلون النكات والاستهزاء، فتراهم يتنقلون بالاستهزاء من موضوع إلى آخر، كأنهم يحاربون الصور النمطية للمجتمع بالسخرية منها. أذكرُ أن بعض الشباب من رّواد اسبيرو تعرضوا للاعتقالات ومساءلة أمنيّة بحجة أنهم من عبدة شيطان.
نعم، لقد كنا مختلفين، وكان الاختلافُ هو مصدر الضحك الدائم، فإن لم يكن الشخص واثقاً من نفسه، أو كان غريباً عن الأجواء السائدة، سيظنّ أن هناك كرهاً أو ضغينةً في قلوب المستهزئين، لكنه بعد قليل سينتبه إلى أنهم ينتقلون من موضوعٍ إلى آخر، ويتعاملون مع كل ما يُثار من أحاديث بسخرية شديدة، وكأن هناك ما يشبه حلقات من الحوار والتشجيع على التفكير، لكنه كان تفكيراً كسولاً بلا قراءة.
الغريب في ذاك المكان، أن أحداً لم يكن يتواعد مع آخر للذهاب إليه، بل في أي وقت يذهب أحدنا فيه، سيجد أشخاصاً يعرفهم ويمكنه أن يقضي الوقت معهم بالمزاح أو النقاش، وفي بعض الحالات كنتُ أجدُ ثلاث طاولات أو أكثر، يمكنني التنقّل فيما بينها وتمضية الوقت.
كنا نعتبر أن اسبيرو هي المكان «الأناركيست» الوحيد في المدينة، وكان عدد الساعات التي نقضيها هناك طويلاً، لأننا كنا نقضي الوقت المخصص للمدرسة فيها، ثم نذهب إلى المنزل لنغيّر لباس المدرسة البشع، ونعود إليها. هناك تحت قبة المقهى لم يكن يوجد أحاديث ممنوعة، وكل شيء قابل للضحك، فلا يقول لك أحدٌ إن هذا الخطاب أو الحديث أكبر من أن نتناقش به، قاصداً إنهاء الحوار، بل في أغلب الأحوال سينتظرك لتنهي حديثكَ إذا كان جديّاً، ليبدأ بالاستهزاء مما كنتَ تقوله أو منك أو من الكوكب كلّه، فالساعات الكثيرة التي كنا نقضيها هناك كانت تجعل من المستحيل أن نرفض أي دعوة للضحك، حتى إن كان الضحك على أحد الجالسين.
عندما بدأت الثورة السورية، تراجعت رغبة كثيرين بالهجرة وتجدّد الأمل في البداية، لكن سرعان ما فُقِدَ هذا الأمل، وتأثرت العلاقات في اسبيرو كما حدث في كل مكان، ليظهر شرخٌ لا يمكن إخفاؤه. كانت طرطوس كلها، ليس فقط المقهى، يطغى عليها الطابع الموالي أكثر فأكثر، ولكن رغم ذلك، سمحت العلاقات المتينة لي أن أعبّرَ عن رأيي بكل صراحة دون خوفٍ أو حَذَر. كان هناك من يجادلني ويخالفني الرأي، وهناك من يوافقني حول أن النظام يرتكب أخطاء لا تغتفر، وعلينا التخلّص منه.
بدأ رواد المقهى بالتناقص، فمنهم من هاجر من البلد، ومنهم من التحق بالجيش، ومنهم من أصبح مشغولاً بالعمل بسبب تدهور الحالة الاقتصادية، ومنهم من كفّ عن النزول إلى المقهى بسبب توتر الأجواء في البلاد عموماً، ومنهم من ذهبوا إلى المعتقلات إثر مشاركتهم في المظاهرات التي كانت تعمّ البلاد، أو نتيجة تقرير من أحد مخبريّ النظام. الطريف أن بعض من تمّ اعتقالهم قبل الثورة على أنهم من عبدة الشيطان بسبب لباسهم الأسود، اعتُقِلوا بعد الثورة على أنهم من السلفيين أو الإخوان المسلمين.
في العام 2013 تقلّص عدد زوار المقهى أكثر فأكثر، بعد أن كان قليلاً أصلاً، إذ أن أغلبنا اجتاز مرحلة الدراسة الثانوية، وانتقلنا إلى الجامعات أو المعاهد. في زياراتي الأخيرة المتقطعة إلى اسبيرو، لاحظتُ بدء انتشار تدخين الحشيش بين بعض روادها، وسرعان ما أنتقل مجموعة من الشباب لتناول الحبوب هرباً من الواقع، ومن الضغوطات الأمنية والاجتماعية التي أصبحت تحاصر كل أوجه الاختلاف والتنوّع في المدينة، خوفاً من «المؤامرة الكونية» التي نجح إعلام النظام بتسويقها. هذه الظروف غيرت طبيعة المكان، وسمحت لفئة جديدة بالتواجد فيه.
في أيامها الأخيرة، عرفتُ أن اسبيرو أصبحت مكاناً لتعاطي الحشيش والحبوب المخدرة، ولم يعد هناك أي تقبّل للاختلاف والتنوع فيها، هكذا إلى أن أُغلقت بالكامل وأصبحت مكاناً مهجوراً على الشاطئ، كأنه لا ذكريات لها ولا روح فيها، وبدأت بالتداعي والزوال.
تم إغلاقها في نهاية العام 2013، وهاجر أغلب من أعرفهم من روادها إلى الخارج، وفي صورة رأيتها لاسبيرو منذ أشهر قليلة، كانت مهجورة، انهدمت أجزاء من الجدار المحيط بساحتها الخارجية، وتساقطَ أغلب قرميدها. أصبحت خرابةً، تتطاول المقاهي المجاورة على مساحتها المفترضة عندما تزدحم بالزبائن، حتى أنها بدت بالنسبة لي مشابهة لسوريا كلّها اليوم، مُدمرة هجرها أهلها قسراً أو هرباً، ويتمّ استغلال مساحتها من قبل الآخرين.
لن تعود اسبيرو إلى ما كانت عليه، كما هو حال سوريا، لكن أحداً لا يعلم ما الذي يخفيه المستقبل لها. هل ستُستبدل بمشروع سياحي حديث، كأن يتمّ بناء فندق مطلّ على البحر فوقها، يمكنني أن أجزم منذ الآن أن مشاعري نحوه ستكون الكره؟ أم أنها ستبقى على ما هي عليه، لتأكل داخلها الرطوبة، وتمتدَّ طاولات المقاهي الأخرى وتستفيد من ساحتها.