في تعليقه على انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، قال الرئيس الإيراني حسن روحاني أن إيران ستلتزم بالاتفاق النووي «رغم أنف ترامب». التصريح ذو النبرة العالية يُعتبر، في الحقيقة، تراجعاً إيرانياً عن التصعيد بعد الضربة الكبيرة التي تعرضت لها مواقعها في سوريا ليل الأربعاء الماضي.
وقد أتى تصريح روحاني في سياق التعقيب على تصريحات الدول الأوربية الكبيرة (ألمانيا وفرنسا وبريطانيا) حول استمرارها بالاتفاق الموقع من قبل الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن بالإضافة إلى ألمانيا مع إيران قبل أكثر من عامين، وعلى الرغم من التحرك الدبلوماسي الأوروبي السريع لتهدئة الأجواء بعد إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب انسحاب بلاده من الاتفاق النووي، الذي وصفه بالسيء، إلا أن ذلك لا يعني حقيقةً قدرة هذه الدول أو نيتها الإبقاء على الاتفاق «رغم أنف أميركا»، فالدور الذي تضطلع به أوروبا الآن هو تمهيد الأجواء لجولة تفاوضية قد تقود إلى اتفاق جديد يناسب تطلعات الإدارة الأمريكية، والتي ستشمل هذه المرة الوجود الإيراني في سوريا بشكل أساسي، وبرنامج طهران للصواريخ البالستية وخطتها لنشر تلك الأسلحة في كل من سوريا ولبنان.
لكن النافذة التي يسعى الأوروبيون لتركها مفتوحة لن تستمر كذلك طويلاً على ما يبدو، فقد أنذر «مجلس خبراء القيادة» -المخول بانتخاب أعلى سلطة في إيران- الحكومة الإيرانية بضرورة الحصول على ضمانات واضحة للحفاظ على المكاسب الإيرانية في حال أرادت الاستمرار في الاتفاق، وقد قال بيان باسم المجلس نشرته الوكالات الرسمية في إيران: «إن الجهاز الدبلوماسي في إيران (…) في بعض الحالات لم يراعِ الخطوط الحمراء، وفي حين نفذت إيران جميع التزاماتها، إلا أنها لم تحصل على ضمانٍ لازم للطرف المقابل، وتوفرت الأرضية لانسحاب ترامب من الاتفاق. والبقاء في هذا الاتفاق دون الحصول على ضمانات صريحة وواضحة، لا شك أنه لن يضمن مصالحنا الوطنية».
ويكشف هذا البيان، بالإضافة إلى تصريحات خامنئي، عن نوع الضغوط التي يتعرض لها التيار الذي يقوده الرئيس روحاني، المتمسك بالاتفاق. وعلى الرغم من أن هذا الصدام هو، على الأغلب، نوع من توزيع الأدوار بين المسؤولين الإيرانيين، الذين يحرصون على عدم تطور الأمور إلى صدام مفتوح مع الولايات المتحدة، إلا أن الوضع الذي خلقه انسحاب ترامب من الاتفاق يعني أن ضمان استمراره شبه معدوم حتى مع إعلان الصين رسمياً بقاءها ضمن الاتفاق.
فقد كان الدعم البارد الذي حصل عليه وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف في بكين، التي كانت محطته الأولى ضمن جولة دبلوماسية في محاولة للحفاظ على الاتفاق النووي، مجرد بوليصة تأمين حول استمرار بكين في استيراد النفط من إيران في حال إعلان عقوبات أوسع عليها. في المقابل، لا تبدو الصين متحمسة لدعم النظام الإيراني لمدىً أبعد من هذا. ويبدو تعويل ظريف في تصريحاته الأخيرة على الدول الأوروبية بشكل رئيسي مؤشراً لفهم ترتيب الأولويات، فهذه الدول هي التي ستحدد بالفعل مدى استمرار الاتفاق، والذي يضمن لإيران القدرة على اجتذاب استثمارات أوروبية تعد جوهرية لتنشيط الاقتصاد المحلي، الذي يعاني من آثار عقوبات طويلة المدى، ومن كساد وتراجع يهدد استقرار البلاد.
لكن الشركات الأوروبية لا تستطيع الدخول في مغامرة قد تُخرجها من السوق الأميركيّة، وهو ما لم يعد مجرد تكهنات بعد تصريحات جون بولتون، مستشار الأمن القومي الأميركي لقناة سي إن إن، إذ أكّد بولتون احتمال فرض عقوبات على شركات أوروبية تتجاوز الحظر الأمريكي. لكن هذا التصريح أتى أيضاً، بدوره، في سياق توزيع الأدوار في واشنطن، ففي مقابله صرّح وزير الخارجية، مايك بومبيو، لقناة فوكس نيوز: «آمل أن نتوصل في الأيام والأسابيع المقبلة إلى اتفاق يمكن تطبيقه في واقع الأمر، اتفاق يحمي العالم حقاً من السلوك الإيراني السيء»، مضيفاً أن الانسحاب الأميركي من الاتفاق لم يكن موجهاً ضد الأوروبيين.
يصرّح الإسرائيليون، بدورهم، بوجهة نظرهم المتشددة حول الاتفاق مع إيران، إذ تنظر إسرائيل إلى أي نفوذ عسكري لطهران في سوريا على أنه تهديد يجب التخلص منه. وقد كانت الضربة الموسعة على أهداف إيرانية في سوريا الأسبوع الماضي إنذاراً حول مدى جديتهم في التعامل مع ذلك الخطر، إلا أنهم، في الحقيقة، لا يمتلكون خيارات أوسع للتعامل مع هذا التهديد. فعدا عن موقف واشنطن الأخير، لا يمتلك الإسرائيليون أدوات سياسية أو عسكرية قادرة على إنهاء الوجود الإيراني في سوريا بشكل فعّال دون الدخول في حرب قد تشمل المنطقة بأسرها.
تتعامل إيران اليوم مع واقع صعب للغاية، إذ تشعر بتهديد كبير يواجه حضورها العسكري في سوريا، دون أن تمتلك هي الأخرى قدرة على المواجهة العسكرية الشاملة. وبصرف النظر عن تهديداتها بإشعال المنطقة، فإنها غير قادرة على الرد على أي ضربات إسرائيلية تشمل مواقعها الحساسة ضمن الأراضي السورية.
أمام ما سبق، قد ترى إيران نفسها مدفوعة إلى إعادة رسم استراتيجياتها وطرق نشر قواتها، بالإضافة إلى إعادة دراسة طرق نقل الأسلحة. فالتفوّق الجوّي الإسرائيلي قد يلغي إمكانية وجود طرق آمنة، وفيما قد تلعب ميليشيا حزب الله، الذراع اللبناني لإيران، دوراً أكبر في الاستراتيجية الجديدة نتيجة سيطرتها على مناطق حيوية من القلمون السوري، إلا أن ذلك سيعيد الإيرانيين إلى وضعٍ لا يسمح بتغيير موازين القِوى عبر نقل أسلحة أكبر وأكثر تطوراً إلى سوريا ولبنان.
قد يبدو التوصّل إلى اتفاق جديد هو الخيار الوحيد المتاح للجميع إن أرادوا تجنب وقوع الحرب، لكن الوضع الحالي سيقود -على الأرجح- لحالة مائعة تجمع بين التصعيد وانسداد الأفق السياسي، دون السعي للانخراط في حرب شاملة. هذه عوامل مرتبطة فيما بينها بشعرةٍ لا يمكن توقّع موعد انقطاعها.