لم يحصل مؤتمر أستانا الأخير، والذي أنهى أعماله يوم الثلاثاء الماضي، على كثير من الاهتمام، ليس فقط لأن وظيفته الرئيسية التي حولت الأنظار إليه عبر رعايته لمذكرة «خفض التصعيد» قد انتهت عملياً، بعد سيطرة النظام على كل من الغوطة الشرقية والقلمون الشرقي وأحياء جنوب دمشق وريف حمص الشمالي، وتهجير أعداد كبيرة من أهالي تلك المناطق، بل لأن التوازن بين القوى الثلاث (إيران وروسيا وتركيا) الذي ساهم بخلق أساس مؤتمر أستانا قد تعرض للاهتزاز خلال الأيام الماضية، بعد خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، والضربة الإسرائيلية الموسّعة على قواعد ونقاط إيرانية في سوريا. لقد ضاقت الهوامش أمام التحرك الإيراني، خطأٌ واحد آخر قد يعني حرباً.
في نهاية الجولة الأخيرة من أستانا قال الجانب الروسي إن الجولة التالية ستُعقَد في مدينة سوتشي الروسية، وستركّزُ أكثر على المسار السياسي. التصريحُ ليس مستغرباً، فقد انتهت مهمة أستانا العسكرية، بعد أن تمكنت روسيا والنظام السوري، وعبر مجازر متتالية في الغوطة الشرقية، من السيطرة على المنطقة وتهجير عدد كبير من أهلها، ليتم بعدها تهجير أهالي القلمون الشرقي وجنوب دمشق وريف حمص الشمالي فيما كان شبح الضربة الكيماوية في دوما ماثلاً أمامهم. لا أحد في سوريا يريد تجربة صلابة الردود الدولية بعد ما كل ما جرى.
في الوقت الذي تتوالى فيه الأخبار من ريف حمص عن دخول قوات وميليشيات النظام السوري إلى البلدات، وقيامها بأعمال نهب في تلك المناطق بعد أن وعد الروس بضبط الأوضاع فيها، نسمع تصريحات بشار أسد من سوتشي الروسية، التي وصلها في زيارة «عمل» للقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عن العودة إلى المسار السياسي. الروس إذاً يعدون بقدرتهم على دفع النظام مجدداً إلى المسار السياسي في جنيف، وبإرسال وفد من الخبراء لبدء العمل على سلة الدستور التي أعدّها فريق المبعوث الدولي ستيفان ديمستورا.
لكن على ما يبدو أن الوعود الروسية قد تتضمن أكثر من ذلك، فموسكو تريد إيصال رسالة بأن بشار الأسد اليوم هو دُميتها الخاصة، وبما أن الأخير غير قادر على القول لخامنئي إنه ليس لعبة في يده كما طلب منه وزير الدفاع الإسرائيلي في تغريدة على تويتر الأسبوع الماضي، فإن بوتين سيتكفّلُ بالمهمة، لكن السؤال الذي تطرحه قراءة هذه التلميحات والتصريحات الروسية؛ هل بإمكان موسكو فعلاً أن تفي بوعدها، أي أن تكون قادرة على التحكم بمفاصل الأمور في سوريا بعيداً عن طهران؟ وهل سترضى الأخيرة بالخروج من سوريا بهذه البساطة؟
الإجابة على السؤال تحتاج إلى قياس مدى القدرات الإيرانية في سوريا اليوم، وهي كبيرة بما فيه الكفاية ليكون رحيلها أمراً خارج نطاق قدرة أية قوة لا تريد الدخول في حرب في سوريا، لكن الأهم من ذلك هو استراتيجيات النظام الإيراني في سوريا، فقد أظهرت الضربة الإسرائيلية الأخيرة التي كانت الأوسع منذ عام 2011، والأولى من نوعها باعتبارها استهدفت أهدافاً عسكرية إيرانية بشكل واسع، أظهرت هذه الضربة أن الانتشار العسكري الإيراني في سوريا مكشوف أمام الطيران الإسرائيلي الذي يمتلك المبادرة والقدرة على تدميره خلال وقت قصير، كما أن خطوط الإمداد وقواعد إدارة العمليات التي حرصت طهران على إدارتها بشكل مباشر في عدة نقاط حيوية تمتد من جنوب حلب إلى مطار دمشق الدولي، غير قادرة على أن تكون آمنة من ضربات تجعلها مُعطَّلَة تماماً في حال اندلعت حرب واسعة أو حتى ضيقة النطاق في سوريا، الأمر الذي يجعلها غير مفيدة وسط الترتيبات الجديدة التي تُبنَى على نهاية وجود قوات المعارضة وسط سوريا وانحسارها إلى محافظة درعا جنوباً وإدلب شمالاً، مما يُضعف إمكانيات تهديد المناطق الحيوية كالعاصمة، وإن كان لا ينهيها نهائياً في ظل الوضع القلق الذي تعيشه المنطقة خلال الأسابيع الماضية.
ضمن هذا السياق، لا تمتلك الاستراتيجية الإيرانية أفقاً، مما قد يدفع الحرس الثوري والنظام في طهران إلى تغييرها، ضمن عدة مراحل قد تكون إحداها الاعتماد على الميليشيات المحلية وميليشيا «حزب الله» في الحفاظ على المكاسب المحليّة ضمن بعض المناطق الحيوية في سوريا، مع الانسحاب من تلك القواعد. وإذا ما كان هذا الاحتمال وارداً بالنسبة لطهران تحت تأثير الضغوط التي تحيط بوجودها العسكري في سوريا، فإنه سيكون هدية كبرى لموسكو، لأن الأخيرة ستصبح الطرف الأقوى في سوريا دون الدخول بصِدام مع طهران. في الحقيقة، مثلُ هذا السيناريو سيجعل من مصلحة طهران أن تفسح المجال أكثر لموسكو لتتصدر الواجهة باعتبارها الطرف الأهم في سوريا، لكن حسابات المنطق هذه لن تنطبق بالضرورة على حسابات الواقع، فقد علّمتنا التجارب أنها ليست المُحدِّدَ الوحيد لما سيحدث.
فقد يعتبر الحرس الثوري، الذي يحتفل دوماً بسيطرته على أربعة عواصم عربية، أن تراجُعه عن أحدها ربما يفتح الباب أمام خروجه من العواصم الأخرى. في بغداد هتف أنصار تحالف «سائرون» المدعوم من مقتدى الصدر وعدة أحزاب عراقية ضد إيران قبل يومين فقط، والتراجُع من دمشق قد يكون فرصة لهذا التيار للحصول على حيّز أوسع، ووفق هذا التصور سيكون إصرار طهران على إثبات وجودها في سوريا أكثر أهمية من أي وقت، فهي لا تريد أن تظهر بصورة المهزومة، وخاصة بعد ضربة مُذِلّة من الطيران الإسرائيلي، وفي هذه الحالة لن تكون الوعود الروسية التي بدأنا الحديث عنها بأفضل من وعودها لأهالي ريف حمص الشمالي بعدم دخول قوات النظام.
يسعى بوتين إلى الاستثمار في الحالة القلقة للأسهم الإيرانية بعد خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، لكن من المستبعد أن يكون بإمكانه لوحده إخراج إيران دون رضاها من سوريا حتى شكلياً، بالمقابل فإن الرد الأمريكي والإسرائيلي على مثل هذه التلميحات قد يزيد من الحماسة تجاهها، أو يُقلّلُ منها.
في الوقت الحالي، يبدو بوتين مرتاحاً، أسعارُ خام برينت تجاوزت حاجز الثمانين دولار أمس، فيما يصرّحُ الناطق باسمه أن بشار الأسد أتى إلى سوتشي في رحلة عمل، دون أن يصفها بزيارة رسمية. إنه إعلانٌ عن زيارة مندوب روسي لرئيسه في مقره في سوتشي، حيث يعرض الروس أن يقيموا مساراً سياسياً «نهائياً» يكون فيه المندوب متجاوباً وجاهزاً لتقديم الشكليات التي يتطلبها الأمر للحصول على شرعية دولية من جديد.