في أوائل شهر أيار الجاري، أطلقت قوات سوريا الديموقراطية، بدعم من التحالف الدولي، المرحلة الثالثة من عملية عاصفة الجزيرة، بهدف السيطرة على ما تبقى من مناطق تواجد تنظيم الدولة على الضفة الشمالية لنهر الفرات، وإخراجه منها. ولا تزال المعركة مستمرة حتى اللحظة بعنف متفاوت، وهي أفضت حتى الآن إلى تحقيق قسد تقدماً على عدة محاور.
كانت الحرب على داعش في محافظة دير الزور قد دخلت منعطفاً جديداً بعد منتصف العام 2017، يبدو واضحاً أنه كان ناتجاً عن توافق روسي أمريكي، إذ تم تقسيم المنطقة إلى شمال وجنوب نهر الفرات، وفي التوقيت ذاته تماماً، وعلى نحو بدا فيه أنه سباقٌ على السيطرة، أطلقَ نظام الاسد مدعوماً بالمليشيات الإيرانية من قواعده شرق حمص عملية باتجاه محافظة دير الزور في جنوب النهر، ليسيطر خلال ما يقرب من ستة أشهر على كامل مدينة دير الزور وريفها الشرقي على طول الضفة الجنوبية للفرات حتى مدينة البوكمال بطول نحو 110 كم، لتصبح مجمل مناطق جنوب النهر تحت سيطرته عدا بعض الجيوب في البادية وعلى الحدود العراقية، التي لا يزال التنظيم حتى اللحظة يشن منها هجمات باتجاه أماكن تواجد النظام وحلفائه.
أمّا في شمال نهر الفرات الذي كان من نصيب قسد، فقد أطلقت الأخيرة عملية عاصفة الجزيرة من أجل السيطرة على مجمل منطقة الجزيرة وإخراج تنظيم الدولة منها، انطلاقاً من قواعدها في الرقة وريف الحسكة الجنوبي، خاصة الشدادي.
استطاعت قسد بمساندة طيران التحالف السيطرة على مساحة واسعة تمتد على طول 150 كم تقريباً خلال الأشهر الأولى من العمليات العسكرية، والتي تم تقسيمها إلى مرحلتين، استطاعت قسد في نهاية الثانية منهما الوصول إلى أطراف مدينة هجين، مسيطرة على مدن البصيرة وأبو حمام وغرانيج (الشعيطات)، لتبقى تحت سيطرة داعش مساحة تقارب 600 كم مربع، تمتد من قرية البحرة حتى الحدود العراقية السورية وأطراف مدينة البوكمال الشمالية. تراجعت العمليات تدريجياً، ثم توقفت تماماً أواسط آذار الماضي، لأسباب عدة لعلّ أبرزها مشاركة قسد في معارك عفرين ضد القوات التركية والفصائل المدعومة من قبلها.
المنطقة التي بقيت تحت سيطرة التنظيم على الضفة الشمالية لنهر الفرات تضمّ ثلاثة مدن متوسطة المساحة وعدة قرى، وهذه المدن هي: هجين التي يبلغ عدد سكانها حوالي 95 ألف نسمة وتتبع لها قرى البحرة وأبو الخاطر وأبو الحسن؛ والشعفة التي يبلغ تعداد سكانها نحو 30 ألف نسمة تقريباً وتتبع لها بعض القرى الصغيرة؛ والسوسة وتعداد سكانها 50 ألف تقريباً وتتبع لها قرى صغيرة مثل البوبدران والسفافنة والباغوز، وهي تلتقي مع مدينة البوكمال في حدودها الإدارية.
هذه المدن والبلدات والقرى كانت قد خضعت لسيطرة الجيش السوري الحر في فترات متفاوتة من نهاية العام 2012 وبداية 2013، ثم سقطت بيد تنظيم الدولة بشكل سريع منتصف العام 2014، بعد أن تقدّم إليها من محورين؛ الأراضي العراقية من الشرق، وقرى وبلدات الشعيطات من الغرب. كانت سيطرة التنظيم على هذه المنطقة سهلة إثر المجازر المروعة التي ارتكبها في مناطق الشعيطات، وما خلفته من رعب كبير.
تهدف المرحلة الثالثة من معركة عاصفة الجزيرة التي تدور فصولها الآن إلى السيطرة على هذه المنطقة، التي يتواجد فيها عددٌ كبيرٌ من مقاتلي داعش، كانوا قد انسحبوا إليها بسبب طبيعتها الجغرافية، إذ أنها تقع بين نهر الفرات قبيل دخوله الأراضي العراقية، وسلسلة هضاب صغيرة في الشمال مرتبطة مع البادية الممتدة حتى ريف الحسكة الجنوبي ومتداخلة مع الحدود العراقية. يستمدّ التنظيم قوّته في المنطقة من متاخمتها للحدود العراقية حيث قوة التنظيم المستمرة في البادية العراقية، ومن وجود سلسلة من التلال على الحدود تجعل من قدرة عناصره على الاختباء والتمويه كبيرة، وكذلك إمكانية التواصل مع الجيوب المتبقية في الجهة الجنوبية المقابلة لنهر الفرات حيث يسيطر نظام الأسد وحلفاؤه، وذلك بالانتقال عبر نهر الفرات أو عبر الحدود العراقية السورية.
لمواجهة هذا الواقع تعتمد قسد وقوات التحالف استراتيجية محاصرة التنظيم وقطع خطوط الأمداد عنه، وهو ما يتطلب أمرين؛ الأول هو السيطرة على الشريط الحدودي مع العراق شمال نقطة دخول نهر الفرات إلى الأراضي العراقية، وذلك لمنع دخول وخروج العناصر والآليات، ولقطع خطوط الإمداد عبر البادية ومنع هروب المقاتلين منها، وبالتالي محاصرة عناصر التنظيم من جهة البادية وإجبارهم على الالتجاء إلى نهر الفرات والمناطق القريبة منه.
أما الأمر الثاني فهو التعاون مع القوات العراقية (الجيش العراقي، الحشد الشعبي)، من أجل تأمين الحدود من جهة والدعم اللوجستي من جهة ثانية، وهو ما حدث فعلاً عند السيطرة على قرية الباغوز الاستراتيجية في بداية المعركة، والباغوز متداخلة جغرافياً مع الأراضي العراقية، مع وجود تلال وكهوف، ووجودها على شاطئ الفرات.
بالسيطرة على الباغوز تكون قسد قد أطبقت حصاراً شبه كامل على التنظيم، من الشرق والشمال حيث البادية والحدود العراقية، ومن الجنوب الشرقي على حدود ناحية السوسة، ومن الجنوب والجنوب الغربي حيث نهر الفرات الذي تليه قوات النظام، من جهة الغرب حيث أحكمت سيطرتها على قرية البحرة الملاصقة لمدينة هجين، وتدور الآن الاشتباكات على أطراف المدينة، بعد محاولتين فاشلتين للسيطرة عليها من قبل قسد بسبب استماتة عناصر داعش بالدفاع عنها.
ليست هناك أرقام دقيقة، لكن يُقدَّر أنّ عدد مقاتلي داعش في تلك المنطقة يتراوح بين 4 إلى 5 آلاف مقاتل، أغلبهم من أبناء ريف دير الزور الذين تورطوا مع التنظيم، والسيناريو الأفضل بالنسبة لهؤلاء هو تسليم أنفسهم بضمانات عشائرية وتجنيب أنفسهم وأهل المنطقة السيناريو الكارثي الآخر الذي قد يحصل، لكن هذا الأمر يواجه معارضة من عدد من المهاجرين والمتشددين داخل التنظيم، الذين يرون أن القتال حتى الرمق الأخير هو خيارهم، مراهنين في النهاية على تغيير مناطق تمركزهم والدخول إلى العمق العراقي والبادية، أو الانتقال إلى جنوب نهر الفرات، وهو ما يبدو أن التحالف يغض الطرف عنه للضغط على المجموعات الإيرانية هناك، وقد يزداد هذا الاحتمال في حال حدوث صدام إيراني أمريكي أوسع.
هذان هما السيناريوهان المحتملان، وقد تسبب النقاش حولها بصدام داخل صفوف التنظيم وفق أنباء أكدتها لنا مصادر محلية، لكن يبدو أن خيار المقاومة حتى النهاية هو الذي لا يزال مُرجّحاً حتى الآن.
الكثافة السكانية الكبيرة في المنطقة أحد أهم معوقات العمليات العسكرية، إذ بالإضافة إلى سكانها، تضمّ المنطقة آلاف النازحين من منازلهم جنوب نهر الفرات بعد سيطرة قوات النظام السوري عليها، وهم أولئك فضّلوا الانتقال إلى أماكن سيطرة التنظيم على الوقوع في قبضة النظام وحلفائه الإيرانيين. هذه الكثافة هي ما يفسّر الأنباء المتكررة عن الخسائر الكبيرة في صفوف المدنيين عند قصف طيران التحالف، إذ يعيش هؤلاء ظروفاً بالغة القسوة، وفوق القصف تزداد معاناتهم في ظلّ انتشار الألغام وقلّة الكوادر الطبية، والحصار الذي تفرضه قسد بالتعاون مع القوات العراقية، وهو ما أدى إلى ارتفاع الاسعار وقلّة المواد الغذائية والطبية، في أوضاع كارثية تُنذر بمذبحة جديدة.