تواجه إيران اليوم وقتاً عصيباً منذ انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، فالضربات الإسرائيلية لم تعد تستثني المقرات التابعة مباشرة للحرس الثوري في العمق السوري، أما بوتين فقد دعا صراحةً إلى خروج كل القوات الأجنبية من سوريا، في تلميح إلى الميليشيات الموالية لإيران.
هذه الصورة المركبة من تعقيدات مختلفة بدأت تحيط بالوجود الإيراني في سوريا، ستؤدي إلى مزيدٍ من ارتفاع أسهم موسكو في سوريا، وهي الأسهم الآمنة أصلاً من انقلاب أمريكي أو رفض إسرائيلي، ولعل هذا ما جعلَ بوتين يدفعُ بشار الأسد لإرسال موفديه إلى جنيف لحضور المسار الخاص بالدستور هناك.
قد يكون كلُّ هذا مُشجّعاً على مراهنات سياسية تعتبرها أطرافٌ في المعارضة السورية تجسيداً للواقعية، وذلك في ظلّ تراجع أي دور أو قدرة لفصائل المعارضة المسلحة بعد سيطرة النظام على كامل المنطقة من محيط دمشق حتى ريف حماة الجنوبي، وهي أوضاعٌ تجعل من التفاهم مع موسكو الحلَّ الوحيد للوصول إلى تغيير في الوضع القائم حسب تقدير أصحاب هذا التوجه.
إلّا أن هذا الرأي لم ينتج عن نقاشات دارت اليوم حول أفق المسار السياسي في سوريا، ولم يأتِ نتيجة لهذه الأوضاع، إذ كان هذا التوجه في الواقع قد بدأ قبل ذلك، نتيجة انقسامات في المعارضة السورية بفعل تدخّل وضغوط دول الجوار المتحالفة معها، أو نتيجة اليأس من تحرك أمريكي وغربي لتغيير موازين القوى في سوريا، وهو المزيج الذي أُعدَّ لأول مرة في أستانا عندما فضّلت تركيا إرسال وفد من فصائل المعارضة العسكرية وعزل الهيئة العليا للمفاوضات وقتها، ليعود هذا المزيج وينتقل إلى الهيئات السياسية ذاتها، عندما أدارت السعودية تركيبة هشّة ومفخخة فيما عُرِفَ بمؤتمر «الرياض 2»، ما عطَّلَ بشكل شبه نهائي قدرة هيئة المفاوضات على قول «لا» للروس.
في الوقت الذي كانت فيه الأنظار تتوجه نحو أستانا واتفاقات خفض التصعيد باعتبارها الإنجاز الأساسي لهذا المسار، كانت الوقائع على الأرض تُرسَمُ بما يتفق مع سيطرة النظام على كل المناطق التي انتزعتها منه المعارضة، وبدعم عسكري واسع من موسكو التي لم تستبدل استراتيجية الإبادة الأسدية بعد خفض التصعيد، بل قادتها نحو مستويات لم يكن بإمكان نظام الأسد الوصول إليها لولا الطيران الروسي الذي مارس بدوره الإبادة بشكل مستمر وواسع في سوريا، وذلك على الرغم من قبول أطراف واسعة من المعارضة الدخول في مسار ترعاه موسكو طوال الفترة الماضية.
عندما تعرضت الغوطة لحرب الإبادة كانت ضمن مناطق خفض التصعيد؛ وريف حمص الشمالي عندما تهجير أهله، كانت فصائله قد وقعت ثلاثة اتفاقات مع الروس في القاهرة لتثبيت خفض التصعيد في المنطقة، ولم تحاول في أي لحظة خرقها؛ أما بلدات جنوب دمشق فلم تَنجُ أيضاً رغم توقيعها على هدنة مستمرة منذ عام 2014. أين كان خفض التصعيد إذاً؟
وما الذي تعنيه أي اتفاقات مع موسكو التي ترى أن استمرار نفوذها يتطلب استعادة النظام الأسدي السيطرة على كل سوريا، وفيما يتابع وفد الفصائل الذي أصبح برئاسة أحمد طعمة منذ الجولة الثامنة لمؤتمر أستانا الحضور إلى العاصمة الكازاخية، فإنه لا شيء أمام هذا الوفد اليوم سوى توقيع وثيقة الاستسلام للتحالف الثلاثي بين بوتين وخامنئي والأسد. ستُعادُ الدورة ذاتها، حتى بعد التصريحات الروسية عن نيتها التركيز على المسار السياسي في مؤتمر أستانا، الذي سينتقل إلى سوتشي، مصيف بوتين المحبب على البحر الأسود.
ليس هناك مؤشرٌ على هذا أبلغ من التصريحات المضطربة التي أعطاها طعمة لقناة روسيا اليوم على هامش حضوره الجولة التاسعة من مؤتمر أستانا مترأساً وفد فصائل المعارضة السورية المسلحة، عندما اعتبرَ وهو في موقعه هذا أن حمل السلاح كان خطأً، وأن موسكو جادّة حسب رأيه في الوصول إلى حلّ نهائي للوضع في سوريا، حلّ ربما لم ينتبه السيد طعمة أنه يُبنى الآن على أنقاض الغوطة الشرقية ودماء السوريين.
صحيحٌ أن كل الأطراف المنخرطة في المسالة السورية راضيةٌ تماماً عن زيادة النفوذ الروسي وحتى استدامته، وصحيحٌ أيضاً أن التحوّلَ في موقف دول الجوار الداعمة للمعارضة لم يعد يترك أي هامش للتحرّك في أطر استقلاليّة، وأن الفيتو الغربي الذي يقتصر على مواجهة نفوذ طهران لا يمتلك أي مفاعيل حقيقية تحدّ من تغوّل موسكو، إلا أن رفضَ الإذعان التام على ركام بلدنا ليس مجرد موقف عاطفي، ورفضَ الاستمرار في مسار اتضح مراراً أن وظيفته الرئيسية إعطاء الشرعية للإبادة المادية والسياسية للسوريين ليس موقفاً ضديّاً أو عدمياً. ربما لا نملك القدرة على تغيير هذا الواقع اليوم، إلا أننا نملك أن نقول لا، وألّا نكون شركاء في عملية تهدف إلى تنصيب بشار الأسد، بما يمثله، من جديد على أنقاض سوريا.
«لا» هنا تعني عدم قبول مصطلحات أستانا التي استبدلت تسمية المعتقلين بالمحتجزين والمخطوفين، وتعني عدم القبول بتبرئة مجرمي الحرب من مسؤولياتهم، كما تعني عدم انخراطنا في أي اتفاق سيعطي الاحتلال الروسي شرعية دولية للبقاء في سوريا. «لا» هنا تعني أن نحتفظ بحقنا في قول ما جرى، دون أن نضطر لاستعمال المصطلحات الروسية «جماعات مسلحة، إرهابيون، مصالحة». من يريد الاستمرار في أستانا اليوم، سيضطر لاحقاً لاستعمال هذه المصطلحات.
يبدو اليوم أن ما تبقى من إجراءات فرض الانتصار الروسي على رقابنا سيتولاه حلفاء المعارضة السورية ووكلاؤهم القريبون، في الوقت الذي لا تستطيع فيه أي مؤسسة أو هيئة من هيئات المعارضة الخروج على ما يرسمه رُعاتها من طريق يتوافق مع إعادة تأهيل نظام بشار الأسد.
حسابات كهذه تستدعي إخفاء معنى كلّ هذا بالنسبة للناس، للسوريين، وسط التسويات الدولية والإقليمية على جثّتنا، كما أنها تستدعي إخفائنا نحن أنفسنا. لكن أهم ما تتطلبه تلك الحسابات، هو ممثلون محليون من السهل أن يختفوا لاحقاً، وكلاء يستطيعون قول «نعم» لمرة واحدة بما يضمن شرعية تلك الاتفاقات والحسابات. إن كنا نملكُ شيئاً الآن، فهو «لا» بدل الـ «نعم» المطلوبة منا.