سَقطت ثَمرةُ الجوز، انفلقت بهشاشة على الأوراق اليابسة المنكمشة على نفسها أسفل البستان. كان ثمرُ الجوز يتساقط بغزارة. يتحرك الهواء، فتلتوي أعناقُ الجذوع الغائرة في الجذور، وتَميلُ أغصانها نحو الأرض قليلاً، ثم تنتصب في الهواء، فتنقطع الثمرة عن غصنها وتسقط. خلف بساتين الكرز كانَ يُمكنُ ملاحظةُ الأخضر الداكن للشجرةِ المعمرة مثل عينين خضراوين تُراقبان باختلاس. نمى بُستان الجوزِ قرب حواف النهر. الرجل الكهل بساقيه الناحلين، وخطوطِ وجهه المجعدة، ابتسمَ لي ذات مرة، وقال: نحن نحتفل بالجوزة في شهر آب.
ولدتُ في هذا الشهر الحار، عندما يحتفل المزارعون بقطاف الجوز، حيث درجنا في طفولتنا على التسلل إلى البساتين هاربين من القيظ، نغمرُ أنفسنا بمياه النهر، ثم نستلقي تحت أغصانها فيتساقط الثمر بغزارة. تنكسر أشعة الشمس على حواف الأوراق الخضراء، فتذبل عيوننا الصغيرة المحدقة بقرصها حتى تنغلق غافية.
أمسكتُ يدَ الرجل الكهل. كان ظهره محنياً هشاً كما لو أنه نضج إلى قطافه. كان جدي يرتعشُ عندما خرجنا من القبو. توقفَّ قليلاً وأغمضَ عينيه. ظننتُ أنه يتلقف أشعة الشمس التي حُرِمَ منها لأسابيع عدة، لكنه كان يُنصت إلى شيءٍ ما. حاولت تقليده كعادتي. أغمضتُ عيني، وللمرة الأولى منذ أعوام استطعتُ سماع حفيف الأشجار بهذا الوضوح. لقد هَمد كلّ شيء، البشر والحجر، ولم يبقَ سوى تراقصُ الأوراق وانحناءُ حوافها على بعضها بعضاً. فتح جدي عينيه وتحرك بخطوات بطيئة، شعرتُ بجسده الهشّ يخترق الهواء. مشيتُ معه وهو يتمتم بصوت منخفض، فسمعته يقول: نسينا جدتك في القبو. صمتَ قليلاً، ثم تابع مسيره. لكنه عاد للتوقف فوقفتُ معه. نظر إليّ وقال: لقد تغيّر كلُ شيء. أجبته: كأن شيئاً لم يتغير يا جدي. ثم سرنا سوياً هو يحدّق بالسماء، وأنا أحدّق بين قدميّ.
تركنا كل شيءٍ ورائنا وربما لم نترك شيئاً، كأننا ولدنا من جديد. هكذا كنتُ أفكر، أننا نولد عندما يصل الألم الى أقصى درجاته. قال لي جدي ذات مرة إن أمي تألمت ألماً شديداً عندما ولدتني. أطلقت صرخة أفزعت طيور البساتين، وأجفلت حيواناتها الأليفة فسارعت للاختباء في أوكارها وجحورها. ثم قال: كانت أمك تتألم ألماً شديداً وتئنُّ بصمت. كنتُ أراقبها وأقول إن النساء أشد بأساً من الرجال، وإن الرجال يختبئون وراء خشونتهم لأنه لا حمل لهم على العيش. قال لي جدي وهو يتذكر ولادتي فيما كنا نغرق في عتمة القبو أثناء الحصار وقصف الطائرات العنيف، إن الرجال يبرعون في القتل فقط، وإن قتالهم لأنهم لا يستطيعون الولادة.
لم تطلب أمي خلال حملها سوى طلبين، قال جدي. طوال شهور حملها القاسية كانت تعمل في الحقل مع والدك ثم تعود إلى المنزل لتعتني بأولاد العائلة، ثم تستلقي وتئنُّ بصمت. في شهرها الرابع، وفيما كنا نلتفّ حول الموقد ندفّئ عظامنا من قسوة البرد، أَنَّت كقطة خائفة، ثم حدّقت في عينيَّ بثبات وقالت: أريد تيناً.
قفزتُ دون التفكير أن كيف لي الحصول على تين في هذا البرد القارص. كنتُ أركض في البساتين مهتدياً بنور القمر، الذي شعَّ بارداً خلف الأوراق المتشابكة. وكنتُ أنظر إليه وهو يقتفي خطواتي كأننا نركض سوية، وعندما كان يغيب عن ناظري ويتوارى خلف الأشجار، أهتف قائلاً: يا ربَّ التين. يعاود للظهور فأحثُّ خطواتي الغائرة في أطيان الأرض. أبتسم مستذكراً وجه جدتك وهي مسترخية تنظر إليَّ بتفحص كأنها تُعيد التعرف عليَّ في كل مرة نأوي فيها إلى الفراش، فأصاب بالفزع وأشعر أنها تشدني من معدتي نحو الأسفل، ثم أشعر أنني خائر العضلات، فأهمس لها: وجهك مثل البدر. فتضحك دون أن تجيب. كنتُ أركض أنا والبدر، متطيراً من ظهور ثمرة تين في وجهك كوحمة، وخائفاً من غضب جدتك، فأعاود الهتاف كالمجنون في البساتين: يا ربَّ التين.
الطلب الثاني يوم ولادتك. كنت أغرز فأسي في التربة الحمراء وأقلب أدرانها. دوت الصرخة في الحقول. فتركتُ فأسي وركضت مسرعاً. وصلتُ وقد كانت أمك على وشك الولادة. حملها أبوك بين ذراعيه، ولفّت جدتك شالها على رأسها وانطلقنا نحو أقرب امرأة تستطيع توليدها. طرنا ثلاثتنا بين البساتين، نرتفع وننخفض مع انحناءات تضاريسها. قرب بستان الجوز صرخت أمك: سينزل الطفل، أريدُ الولادة هنا. جفلنا أنا وأبوك ووقفنا كأننا أصمّان أبكمان. عدنا أطفالاً صغاراً نحاول أن نفهم كيف سيخرج من رحم هذه المرأة روحُ حيّة. ثم نفضت جدتك شالها قرب شجرة توت شامي تناثرت بين جذوعها شرانق بيضاء لدودة القز. وضعت جدتك يدها على البطن المتكور وهمهمت بتمائمها من معوذات وأدعية، ثم بدأت بسحب جسدك الذي رفض الخروج. كان وجه أمك يرتجف وجدتك تقول: ها هو قادم، لكنه عنيد. سيخرج لكنه سيرثُ عقل الجوز في هذه العائلة، فضحكَت والدتك وصرخَت متألمة. طلع الفجر، ومع بروز خيوطه الأولى كنتَ قد خرجت للحياة. امتلأت الحقول بزقزقات العصافير وعبرت أسراب سنونو فوقنا مُخترقةً الحقول بخفتها، فهدأ صراخك وأخذتَ تحدق بعيون مفتوحة نحو السماء. على جذوع شجرة التوت تمزقت الشرانق، وخرجت منها فراشات بألوان مختلفة تخفق بأجنحتها الموشّاة بالأصفر والأسود والبنفسجي، وأنت تحرك يديك الصغيرتين وتبتسم. ثم سقطت ثمرات تين قد نضجت للتو، وكانت أول ثمرات تسقط في ذاك الموسم. حملت جدتك الثمرة الباردة ببرودة الصبح إلى فم والدتك لترطبه، فابتسمت وهي تمضغها بصعوبة، ثم ابتسمت وهي تنظر في عينكَ بدهشة. أشارت لنا: له عينان تشبهان التين.
توقف جدي عن المشي ثم قال: هل نستطيع الجلوس؟ هل ستدركنا الحافلات؟ قلت له: لقد أدركنا كل شيء. اهتزّت أطرافه الناحلة، نظرَ إلي وقال: هل أستطيعُ البقاء هنا. فضحكتُ وقلت: هل تريد أن تتركني وحيداً يا جدي. فابتسم بحزن وقال: لقد تعبت. جلس الرجل الكهل على كومة من الركام. نظرتُ إليه ثم نظرت إلى الأبنية المنكمشة على نفسها، فسألتُ نفسي متى حدث كل ذلك؟ ماذا حدث لكل هؤلاء البشر؟ أين يذهب الموتى حين يدركهم الوقت! ثم شعرتُ بالزمن، كما لو أنني أعرفه للمرة الأولى. انتبهتُ أنه مضى زمنٌ بعيد لم أسمع فيه تكّات الساعة. مددتُ يدي إلى جيبي لأعرف الوقت، وكنتُ أظنُّ أن الزمن لا يعني شيئاً، وأنه انعدم في الأيام التي تمرُّ بروتين عادي، حتى في لحظات الموت جوعاً وتحت القصف. لكنني شعرت بوطأته الثقيلة على جسدي الهزيل. ثم نظرت إلى جدي وهو يتنفس بتثاقل، فشعرت بالزمن في أنفاسه أيضاً.
لقد فهمتُ للمرة الأولى معنى تعاقب أعمارنا. كان الرجل الكهل هو الوقت الوحيد المتبقي لدي. وفهمتُ أنني سأرث الزمن عنه بعد رحيله. ثم فكرت أننا نستشفّ الزمن من أقرب الناس إلينا. إننا نضبط إيقاعنا من خلالهم، وعندما يغيبون لا يصبح للزمن أي معنى. إن كل أولئك الموتى الذين رحلوا ليسوا إلا وقتاً ناقصاً ذهب من أعمارنا. تنحنح جدي ونهض بتثاقل، فأسندتُهُ بيدي وتابعنا المسير.
قال جدي ونحن نسير نحو الحافلة: كنتُ أحمل الجوز على الحمار، حمار كهل مثلي ورثته عن أبي، لكنه صلب وودود. كنا نتشارك الحمل لهزالة جسده. في الربيع كنت أستحمّ معه في النهر. وفي القيظ كنت أدخله إلى سقيفة القصب التي كنتُ أحرس فيها البستان. وفي ليالي الشتاء القارص كنت أحدّقُ في عينيه الواسعتين دون ملل. للحمار عيون جميلة. ضحك جدي، ثم قال: لقد كانت جدتك تستشيط غضباً لأنني أتغزل بعينيه وأقول إنهما جميلتان كعينيها، لكنني كنتُ أحبّ عينيها وعيني الحمار. ثم ضحك جدي وضحكت. لكن عينيه دمعتا.
ماتت جدتك في القطاف. جمعت ثلاثة آلاف جوزة، ثم أرخت شالها عن رأسها فانفردَ شعرها. شعرتُ كم كانت جميلة، وكم كانت تشبه هذه الأشجار عندما تفرد شعرها المتموج فيبدو متشابكاً كثيفاً، تتوه نظراتي وأبدو كالأبله، فتسخر مني قائلة: داخل هذه الجوزة التي تحملها فوق رأسك لا يوجد شيء.
نظرت نحو الأغصان العالية وأغمضت عينيها. غبَّت ما تستطيع من الهواء ثم أخرجته بهدوء. لقد شعرت بروحها وهي تنفلت من الجسد، ثم فتحت عينيها وابتسمت. تنهدت وقالت: ارفعني قليلاً، فرفعتُها. ابتسمت بتعب، واستندت عليَّ لتنهض. حاولتُ مساعدتها لكنها نهرتني. ثم ارتاحت مرة أخرى قرب جذع الشجرة وأطلقت عينيها للسماء، نظرت إليَّ وعرفتُ أنها تقول لي: أحبك. ثم أغمضتهما وفارقت الحياة. بكيتُ جدتكَ قرب شجرة الجوز ثلاثة أيام، ودفنتها أسفل الجذوع.
بدت المدينة قلعة حصينة. منذ عدة شهور لم يخطر على بالنا أن كل شيء سينقلب. وبدت أطراف الأبنية المكتملة التي تقسم السماء إلى نصفين كأنها ترسم نهاية العالم. لطالما تخيلت نهاية العالم على شكل حرب كبيرة تحرق كل شيء، لكن ها هي الحرب قد حرقت كل شيء، ولم أتخيل أن نهاية العالم ستكون هي الطرف الآخر، وأن الجحيم ليس الصواريخ والقذائف التي كانت تتساقط علينا، إنما هو ذلك المكان المرعب الذي تقع فيه آلاف العيون التي حدَّقَت في موتنا. شعرتُ أن خوضَ المعارك وسقوط القذائف أرحم من مواجهة الناس على الطرف الآخر. أحسستُ بألم أسفل معدتي، وأردتُ أن أصف ذلك الألم لكنني لم أستطع. فانتبهتُ أن الكلمات لا تخرج معي منذ وقت طويل. وكنت أتواصل مع هذا العالم من حولي من خلال الصمت. لم أنتبه أنني أجد صعوبة في الحديث، وبدا أنني أعيدُ التعرف على الكلمات. حاولت أن أتذكر مفردات بعينها لكن ذاكرتي لم تستجب. لقد صمتُّ طويلاً كراهب، هكذا همستُ في سرّي. بماذا يفكر المتصوفون عندما يغمضون أعينهم للتواصل مع هذا الكون. كان جدي يحب الميلوية. كان يقول إننا ندور على أنفسنا كهذا الكوكب، وإنه بداخلنا أيام وفصول نتقلّب بتقلبها. قال لي ذات مرة إن جدتي لها مزاج حاد كالصقيع الذي يتسلل إلى العظام. ثم شرد قليلاً وقال: لكنها دافئة كعتبة قرب موقد.
ها نحن نقترب من الجحيم. لم أتوقع يوماً أن يكون الأمر كذلك. وسألت نفسي ترى ما هو النعيم؟ ما هو ذلك الشعور الذي يثير الطمأنينة في ذواتنا. خفَّ النسيم وانتبهتُ أنني أحاول تذكر كلمة «نسيم». ورحت أقلّبُ الكلمة في رأسي. نسمة هو أصل الكلمة. وتذكرت كيف أن النسيم يحرك الأوراق كأنها ترقص. يتسرب بين الشجر، يلتفّ بخفة حولها ويدفعها نحو الأمام ثم نحو الوراء ويرفعها برقة نحو الأعلى ومن ثم يفلتها بانسياب نحو الأسفل. ثم انتبهت أنني لا أعرف الرقص. كيف لم أستطع الرقص طوال تلك السنوات؟!
كان جدي يسعلُ حين توقف عن المشي، ثم عاد لتنسّم الهواء. وأغمض عينيه، ثم صعد الدرجات الثلاثة للحافلة. أسند يديه على كتفي. ثم تحركنا في هرج الناس الخارجين من الأقبية نحو الحافلات، كأننا في يوم النشور. جلس جدي قرب النافذة. تنهد وقال: دفنتُ الحمار قرب قبر جدتك. ثم صمت، وارتعدت لحيته. كان يريد أن يبكي لكنه منع نفسه. وكنت أفكر أن لجدي رائحة تشبه رائحة خشب الجوز. وأن أبي قبل موته بأربعة أيام قال لي أن أعتني بجدي كالشجر. قال لي إنه خزان ذكرياتنا. مات أبي وماتت أمي، وأعمامي الأربعة وزوجاتهم وأطفالهم. لا أدري أي صدفة منعتنا من الرحيل سوية. أليس جميلاً أن نرحل عن هذه الحياة نحن وعائلتنا! أليس من الأفضل لو كُنت مُمداً بقربهم كما مددناهم في البستان تحت الشجر. كنتُ أتطلع إلى ملامح وجوههم واحداً واحداً، ثم توقفت عند وجه أمي. كم كان دافئاً حياً. ثم فكرت في كلمة أبي أن جدي خزان الذكريات. نحن نختزن أجمل اللحظات التي نمر بها في وجوه من نحبّ. إن حركات أجفانهم، تهدّلَ خدودهم، إيماءاتهم، هي ألبوم صور متعاقبة. ثم شعرتُ أنني ما زلت أتصل بها بحبل سري. وقلت: أليست الولادة شيئاً عظيم. ها أنا وهي نتقابل ونتودع قبل أواننا. هي تدير ظهرها للحياة وتتركني أكمل ما بدأته من حياكة الزمن سائراً نحو الجحيم. ثم نظرتُ إلى والدي الممدد إلى جانبها. لقد حملني هذا الرجل على كتفيه طوال سنوات ونحن نقطف ثمرات المشمش والتين والخوخ والدراق. لقد كبر والدي فجأة عندما جفّ النهر وابتلعت الأبنية الإسمنتية البساتين. كان والدي يراقب الوحش المنفلت على أطراف كرومه وهو يذوي كالأغصان التي كان يعتني بها. عندما تدفق الناس في الطرقات وعلت أصواتهم كان يقول لي: ها هو النهر قد عاد ليتدفق. ستزهر هذه البساتين. وعاد مرة أخرى وحملني على كتفيه وأنا أغني كما كنا نغني في الحصاد. اقتربَ جدي وقبّل رؤوسهم واحداً تلو الآخر، ومنع أحداً من دفنهم. ثم انهمك في حفر القبر. ثم أخد بإيداع أبنائه فيه حسب ترتيبهم. وعندما أهال التراب على الأكفان سقى القبور المحاذية لقبر جدتي وابتسم وقال لي: اليوم أعدتُ زرع أولادي في هذا الحقل. سيعود شجر الجوز لينمو من جديد.
كان جدي ما يزال ينظر نحو الغرب، وأنا أحاول أن أتلقف أي إشارة منه. بماذا كان يفكر هذا الرجل الكهل. خزان الذكريات. ارتعدت ذقنه مرة أخرى، وعاد إليَّ الشعور بأن وجه جدي الذي خدده الزمن يشبه حقلنا. أطالَ الصمتَ ثم صحى مرعوباً وهمَّ بالنهوض ممسكاً يدي ضاغطاً عليها وقال: نسيتُ أن أحمل كيس الجوز. ابتسمتُ له وأخرجت من معطفي كيساً صغيراً فيه خمسة عشر جوزة بعدد أفراد عائلتنا. هدأ الرجل الكهل، وألقى نظرة أخيرة على الحقل المزروع بأولاده وبأشجار الجوز. تحركت الحافلة، فسعلَ جدي مرة أخرى بقوة ووضع يداً فوق اليد التي أمسك فيها حبات الجوز، ثم ابتسم لي كما كان يبتسم لجدتي. تحركت الحافلة، وذهبنا تاركين وراءنا بيوتنا التي دمرتها الطائرات، وبستان الجوز الذي زُرِعَت عائلتي فيه.