خلال عرضه لرؤية إدارته وسياساتها تجاه إيران، طرح مايك بومبيو وزير الخارجية الأمريكي اثني عشر شرطاً على طهران الالتزام بها إذا ما أرادت تجنب الردود الأمريكية، وهذه الردود التي لم تكن واضحة تماماً في كلمة بومبيو أمام معهد هيريتيج في واشنطن أمس الأول، تبدأ مع عقوبات ستكون «الأقسى على الإطلاق»، بينما قد تكون نهايتها غير المعلنة إجراءات عسكرية. بومبيو حذر إيران من مغبة استئناف برنامجها النووي، وأوضح أن سياسات طهران في المنطقة وتمددها عبر الميليشيات في العراق وسوريا ولبنان أمورٌ يجب أن يُوضعَ لها حدّ، كما ركّزَ على ضرورة وقف برنامج تطوير الصواريخ البالستية.
شروط الإدارة الأمريكية المعلنة تضمنت تخلي النظام الإيراني عن مشروعاته الاستراتيجية في المنطقة، التي بدأها منذ قرابة الثلاثة عقود، وهي وضعت سقفاً مرتفعاً تعلم أن النظام الإيراني لن يقبل به، لأنها بذلك تطلب من إيران ألّا تكون إيران التي نعرفها اليوم. ومن المرجّح ألّا يستطيع النظام الإيراني القبول بمثل هذه التنازلات، بسبب تركيبته شديدة التعقيد، المبنية على شبكة تحالفات إيديولوجيّة ومصالح تضمّ رؤوس أموال ومنظمات كالحرس الثوري، واتجاهات دينية محافظة في إيران وخارجها، وحلفاء في المنطقة أغلبهم ميليشيات تعتاش من حالة الفوضى وعدم الاستقرار. من المستبعد أن تكون تركيبة كهذه قادرةً حتى على خوض نقاش حول مثل هذه الطلبات والشروط.
يستطيع شخصٌ مثل كيم جونغ أون في كوريا الشمالية اتخاذ قرار بالتخلّي عن السلاح النووي، فهو يقود بلاداً جرى تجريفها سياسياً على مدى ثلاث أرباع القرن، ولديه نخب حاكمة تخاف أن تكون طعاماً للكلاب عند أي احتجاج على سياسة القيادة العليا للبلاد، وفوق هذا فإنه ليس مطلوباً منه أن يتخلى عن أسس نظامه كلها. أمّا نظام ولاية الفقيه، فهو أولاً لا يستطيع أن يتخلى عن ولايته هذه، ولا عمّا يراها حقوقه الدينية في المنطقة، والأهم من ذلك أن تفكيك شبكة نفوذه في المنطقة يعني تفكيك أجزاء رئيسية من النظام نفسه، وربما إنهاء نفوذ منظمات كالحرس الثوري في إيران نفسها، وهو الأمر الذي يبدو شبه مستحيل.
تصريحات روحاني الغاضبة مساء الإثنين، والتي أتت رداً على شروط بومبيو، قد تصلح مثالاً جيداً على موقف مرتبك في مواجهة شروط تعجيزية، تعلم الجهات التي أعلنتها تماماً أنها شروط تعجيزية. وبما أن انخراط طهران ضمن عملية تفاوض جديدة تحت مظلة هذه الشروط أمرٌ مستبعد، فإن النظر إلى الخيارات الأخرى الممكنة قد يكون مفتاحاً لتصور التطورات المقبلة، سواء اتخذت منحىً تصعيدياً أو سارت نحو التفاوض على اتفاق جديد.
خروج إيران رسمياً من الاتفاق النووي واستئنافها لبرنامج تخصيب اليورانيوم، سيضع الولايات المتحدة وإسرائيل أمام خيارات محدودة للغاية، فهم يعرفون أن العقوبات الاقتصادية والمالية مهما كانت موجعة للنظام في طهران، لن تستطيع إيقاف نشاطات إيران النووية، كما أن السوق الآسيوية التي ستستمرّ باستهلاك النفط الإيراني ستمنع اقتصاد البلاد من الانهيار التامّ في مثل هذه الحالة، رغم إضعافها لاقتصاد البلاد، الضعيف أصلاً.
وكذلك فإن الخيارات العسكرية، وبالتحديد الضربات الإسرائيلية الجوية المكثفة، يمكن أن تؤدي إلى إضعاف الوجود الإيراني في سوريا إلى درجة كبيرة نسبياً، لكن مثل هذ الخيار لن يحقق كامل أهداف الولايات المتحدة في إيقاف البرنامج النووي الذي تقع أهم مؤسساته في مواقع عسكرية محصنة في إيران نفسها. أما تنفيذ ضربات مباشرة على إيران، فإنه سيفجر حرباً واسعة في المنطقة تلعب فيها أذرع إيران، من حزب الله في لبنان إلى الميليشيات الطائفية في العراق، دوراً في توجيه ضربات موجعة للحضور الأمريكي في المنطقة فضلاً عن استهداف إسرائيل. هذا السيناريو، الذي يظل الأقل احتمالاً، سيعني أن الاستراتيجية الإسرائيلية في مثل هذه الحرب ستقوم على اجتياح بري واسع في سوريا ولبنان لتأمين حدودها وكسر شوكة الميليشيات الإيرانية، وجبهاتٌ بهذا الاتساع ستكون آخر ما تفكر فيه حكومة نتنياهو اليوم. استمرارُ انغلاق الأفق أمام حلّ بين واشنطن وطهران، يضع مثل هذا السيناريو على الطاولة، رغم احتمالاته الضعيفة جداً.
وهكذا فإن خيار الرضوخ الإيراني للشروط المعلنة مستبعد، والحرب الشاملة بدورها خيار مستبعد أيضاً ويرغب الجميع في تجنبه، والعقوبات الاقتصادية لوحدها غير كافية لوقف البرنامج النووي. جميع هذه العوامل ستضع المسار الصدامي بين طهران وواشنطن على سكة الحل الوسط، لكن الحل الوسط مع إدارة ترامب لن يشبه بالتأكيد تنازلات أوباما في عام 2015، والأرجح أنه سيكون على الإيرانيين التخلي عن طموحاتهم الكبيرة في سوريا على الأقلّ، كما سيكون عليهم وضع البرنامج النووي على الرفوف لمدة طويلة قد تصل إلى 25 عاماً.
الشروط الأمريكية التي عرضها بومبيو ليست هي الحد الأدنى المطلوب دون شكّ، إلا أنها رفعت بالتأكيد من سقف الشروط المقبول بها في أي اتفاق مقبل مع طهران، وفي الوقت ذاته فإن لعبة «الحرب السائلة» لن تتوقف، بهدف المزيد من الضغط على الحرس الثوري والنظام الإيراني وخاصة في سوريا. هذه الضربات، عدا عن أثرها العسكري المباشر، فإنها أيضاً تمثل نوعاً من عرض للقوة، تحاول فيه إسرائيل فرض حدود جديدة للنفوذ تصطدم مع ما تطمح إليه طهران في المنطقة.
من الصعب على النظام الإيراني تغيير استراتيجياته التي بناها عبر أكثر من ثلاثة عقود في المنطقة، لكنه الآن يواجه وضعاً يستحيل فيه الاستمرار فيها كلها دون خسارة فادحة قد تصل إلى انهياره تحت وطأة الضغوط الاقتصادية والسياسية والعسكرية. بالمقابل فإن واشنطن بتصعيدها هذا، تتجه نحو خيارات أكثر محدودية في التعامل مع إيران، وتمارس لعبة حافة الهاوية التي تضع المنطقة أمام احتمالات صدام قد يصل في مرحلة ما إلى حرب واسعة. لعبة حافة الهاوية هذه التي يمارسها ترامب مع طهران، قد تؤتي بنتائج مع النظام الإيراني الذي استمرّ في ممارسة هذا الألعاب طوال سنوات ماضية، منتزعاً مكاسب في المنطقة التي يطمح إلى أن يكون الطرف المهيمن فيها.