أعادت المظاهرات والاعتصامات التي نشطت خلال الأشهر الثلاثة الماضية في مدينة الباب شرق حلب، والخاضعة لقوات درع الفرات المدعومة تركياً، الروحَ إلى نفوس كثيرين من أبناء الثورة، ورأى فيها أبناء المدينة وسيلة ضغط سلمية على الحكومة التركية والفصائل العسكرية التابعة لها والمجلس المحلي وغيره من المؤسسات، وذلك بهدف تسريع تنفيذ القرارات الخدمية ومحاسبة المخطئين وتنظيم المدينة وتسليم مفاصل الإدارة فيها إلى المؤسسات المدنية، والأهم من ذلك كلّه القدرة على الوقوف إلى جانب الثورة وإلزام أصحاب القرار في المدينة بالبقاء ضمن الخط الثوري في قراراتهم وأعمالهم ومشاريعهم، وكان آخرها الضغط لتأمين وتسريع دخول مهجري الغوطة الشرقية وجنوب دمشق وريف حمص الشمالي.
رأى الناشطون والمثقفون في الباب أن هذه المظاهرات هي الهدف الأساسي من وجودهم، وأنها تُعزّز استقلاليتهم في الدفاع عن القضايا والقيم والثورة، بحيث يتحول السكّان إلى فاعل سياسي، ويتحوّل الناشطون إلى صُنّاع رأي. كان هذا قبل أن ينقسموا على أنفسهم، وتتكسر أحلامهم على أسوار «اليابا» و«أبو جمو»، ثم تنتهي عند قضية أبناء ريف حمص بعد مظاهرات خجولة قابلتها الحكومة التركية برفض إدخال المهجرين، ثم إعادتهم بعد أيام من الانتظار إلى قلعة المضيق في حماة، ليبدأ بعدها مسلسل التخوين على وسائل التواصل الاجتماعي، والاصطفاف المناطقي حسب الفصيل ومنطقة التهجير، والاتهامات بإثارة الفتن لمجرّد التعبير عن الرأي. وربما كانت هذه الصفعة لازمة لإعادة الجميع إلى الواقع المفروض حالياً بقوة السلاح، ولإنهاء «تلك المسرحية التي أوهمتنا بالقدرة على الضغط، وإيقاظ الجميع من أوهامهم»، على حدّ قول عدد من نشطاء المدينة الذين تواصلنا معهم.
كان لجهات عدة أدوارٌ هامةٌ في الدعوة والتنسيق للإضرابات والاعتصامات؛ تنسيقية مدينة الباب وبعض غرف الواتس آب التي تجمع ناشطين في المدينة، النقابات وعلى وجه الخصوص نقابتا الأطباء والمهندسين، المؤسسات والمنظمات المدنية، وعموم الناشطين في مدينة الباب، وهم من مختلف المناطق السورية، إذ ضمت المدينة بعد طرد داعش منها عدداً كبيراً من الناشطين والإعلاميين من مهجري حلب ودير الزور والرقة وحمص ودمشق، باتوا يشكّلون ثقلاً ثورياً ملحوظاً في المنطقة.
قامت هذه الفعاليات الاحتجاجية في البداية للردّ على الانتهاكات والتجاوزات من قبل عناصر في الفصائل العسكرية أو أشخاص تابعين لها، وبهدف محاولة تفعيل دور المؤسسات المدنية، وإلغاء المظاهر المسلحة للفصائل التي تنتشر في المدينة وتتحكم بحياتها، وأبرزها: أحرار الشرقية المتواجدون في مزرعة الشهابي على أحد مداخل المدينة، وفرقة الحمزة المعروفة بالحمزات في المدرسة الصناعية، والشرطة العسكرية –معظمها من الحمزات-، وأحرار الشام في مزرعة مروان السامي. كانت أولى الوقفات الاحتجاجية، هي تلك التي دعت لها نقابة الأطباء في نيسان الفائت.
مع بداية التهجير القسري لسكان الغوطة الشرقية، أخذت هذه المظاهرات والاعتصامات شكلاً آخر يهدف للمطالبة في كل مرّة بتسريع دخول قافلات المهجرين من النقطة صفر في معبر أبو الزندين إلى مدينة الباب، ومن ثم توزيعهم على مراكز الإيواء.
كانت الحجة الدائمة التي يتعلق بها أصحاب القرار في مدينة الباب هي «عدم التنسيق»، ويقول «أبو زيد»، وهو أحد الإعلاميين في المدينة، إن «هذه الحجة الغريبة رافقتنا خلال كل الوقفات والاعتصامات، الدنيا كلها تعرف أن الاتفاق كان قد تمّ، وأن القوافل في الطريق، والساعات التي تحتاجها للوصول معروفة، وحتى أعداد المصابين والمرضى، فما هو التنسيق المفقود؟!». ويتابع: «قرار دخول القافلات كان متخذاً، وتأخيرها كان فقط نوعاً من إحكام مركزية السلطة بيد الأتراك، وتثبيت ضرورة الرجوع إليهم في كلّ أمر. في البداية شعرنا بأهمية ما فعلناه حين دخلت القوافل بعد المظاهرات، وبعد أن خرج أشخاص من قيادة الشرطة الحرة والمجلس المحلي للتفاوض معنا، وتلبية مطالبنا. كان على المفاوضين العودةُ للأتراك دائماً للبتّ بالأمر، وهذا ما كان يحدث مع كل قافلة».
بعدها جاءت المظاهرة التي قامت ضد حامد بولاد الملقب بـ «اليابا»، شقيق قائد فرقة الحمزات، إثرَ اعتدائه على الكادر الطبي في مشفى الحكمة وضربه لموظفة هناك، وكانت نقطةً فاصلةً في طبيعة التظاهرات، وبدايةً لانكسارها. إذ دعت فعاليات المدينة الثورية (ناشطون، نقابات، إعلاميون) لما أسموه «إضراب الشرف»، وطالبوا بمحاسبة «اليابا وعناصره».
إلى هنا كان الجميع مجمعاً على أحقية المطالب، إلّا أن طريقة تنفيذ العقوبة عبر وضع اليابا في ساحة الشرطة، واقتصاص المرأة منه بضربه أمام الناس، أحدثت شرخاً كبيراً في بنية ومفهوم هذه الوقفات الاحتجاجية. الطبيب أحمد الإسماعيل، وهو ناشط في المدينة، انتقدَ هذه العقوبة التي وصفها «بالمهزلة»، وأضاف: «إن استجابة المؤسسات للضغط الشعبي لا تكون دائماً موفقةً، هناك خطوط لا يجب على أحد أن يتجاوزها، وأهمها اللجوء إلى القضاء والمحاسبة من خلال المؤسسات، وليس بهذه الطريقة العشوائية». أما «أبو زيد» فهو يرى أن في هذه العقوبة «إهانة للفصائل العسكرية في المدينة، وأنها ربما ستؤدي إلى أعمال انتقامية»، وخشي الإعلامي أن «يصبح هذا الأمر عادة، فكلما أردنا مطلباً ننزل إلى الشوارع ونغلق الطرقات، ولا نحسب نتائج ما نفعل».
بالمقابل أشادَ كثيرٌ من الناشطين بما حدث، معتبرين أن الناس لم تعد تستطيع السكوت عن الظلم، وأن المؤسسات القضائية مغلوبة على أمرها، وأن على الشعب أن يتظاهر ويعتصم للحصول على حقوقه، وإنهاء التجاوزات والانتهاكات، مستذكرين أيام المظاهرات الأولى في سوريا ضد نظام الأسد.
على أي حال، خرج «اليابا» من السجن كما رجّحت مصادر عدة، وتم تناقل خبر خروجه بكثيرٍ من الامتعاض على وسائل التواصل الاجتماعي، كما نُقلت عنه تهديداته بمحاسبة كل من قام بالإساءة إليه. بعدها خرجت مظاهرة أخرى، هذه المرة ضد قيادي آخر من فرقة الحمزات هو «حجي الراغبية» بعد اعتدائه بالضرب على أحد المدنيين، لكنها لم تُجدِ نفعاً.
مظاهرات أخرى قامت بعدها، لكنها فشلت في إيقاف القتال بين جماعة «أبو جمّو» من أحرار الشرقية، الذي داهم مدينة الباب بالسلاح الثقيل وقذائف الهاون، وبين «عائلة الواكي». هددَّ أبو جمّو عبر رسائل صوتية كل من يقف في طريقه، في الوقت الذي لم يقم القضاء في المدينة بدوره لمواجهة ما حدث، وذلك رغم الدعاوى المرفوعة من المجلس للمحلي ومجلس ثوار الباب وبعض المؤسسات المدنية.
مع بداية نزوح أهالي ريف حمص الشمالي، كان هناك مظاهرات خجولة للضغط على الحكومة التركية والمجلس المحلي للسماح لهم بالدخول. دخلت الدفعة الأولى، ومُنعت باقي الدفعات من الدخول. اتهم ناشطو حمص الموجودون سابقاً في مدينة الباب شركاءهم في المدينة بالتقصير وعدم تلبية الدعوة للتظاهر، واحتجَّ البعض بتزايد أعداد المهجرين وعدم قدرة المكان على استيعابهم، ورأى آخرون أن الأوضاع الأمنية التي شهدتها مدينة الباب خلال الأيام الأخيرة قبل وصول القافلات أثّرت بشكل سلبي على الاستجابة الشعبية وممارستها للضغط على أصحاب القرار.
يقول مصطفى بطحيش، من تنسيقية الباب، للجمهورية: «حاولنا في اليوم الأول أن نضغط دون مظاهرات ولكن الأمر لم ينفع، في اليوم الثاني قمنا بوقفة احتجاجية أمام مركز الشرطة ولم يكن هناك استجابة، وتبينَ أنه في هذه المرة ليس هناك تنسيق بشكل نظامي، فتوقفنا عن الخروج لأن الأمر أكبر من قدرتنا وحتى من توقعاتنا، بحسب ما أوضحَ لنا أكثر من مصدر في المدينة». فيما اعتبر الإعلامي «أبو حمزة» أنه «لم يكن مخططاً إدخال النازحين من ريف حمص منذ البداية، ولذلك ما من جدوى من التظاهرات والوقفات، لأن الأمر متعلق بالأتراك، أما نحن فعبارة عن بيادق يحركونها وقت الحاجة لخدمة مصالحهم». ويتابع أبو حمزة: «للأسف هذه الحقيقة يعرفها الجميع، لو نظرت إلى اللافتات والهتافات لفهمتَ كل شيء، كان الهتاف الأهم (يا تركيا اسمعينا… بدنا نفوت أهالينا)، و(اسمع اسمع أردوغان… بدنا نفوت أهل الشام)، أما اللافتة المقصلة فكانت (من حق الحرّ أن يدخل المحرّر)».
عاد مهجرو حمص أدراجهم بكثير من الإحباط واليأس، وامتدَّ ذلك الإحباط ليملأ كل الذين شاركوا في الوقفات أو أولئك الذين تعاضدوا معها حتى على وسائل التواصل الاجتماعي، فـ «المسرحية انتهت، هم أرادوا منا أن نخرج، أحياناً كان بعض عناصر الشرطة الحرة والمجلس المحلي يتظاهرون ويعتصمون معنا، كان هناك تماهٍ بين المجلس والحكومة التركية وحتى التنسيقيات لتعزيز ما يريدون له أن يتمّ، أما الأشياء التي لا يريدون تنفيذها فلن يفعلوا حتى لو تظاهرت كل المدينة»، ينهي أبو زيد كلامه.