«قبو يوم القيامة» هو مخزن للحبوب أنشأته النرويج عام 2008، تبدو فكرته أشبه بميزة «التسييف» في ألعاب الفيديو، التي تحفظ للاعب مستوىً معيناً من تقدمه في اللعبة حتى لا يضطر للعودة من الصفر. ويحافظ هذا المخزن على التطور الذي بلغته البشرية بعد اكتشاف الزراعة، بحفظه لعينات من بذور المحاصيل الزراعية العالمية.
المفارقة المرعبة أن «قبو يوم القيامة» اضطر لفتح أبوابه للمرة الأولى عام 2015 من أجل تقديم دعم لسوريا، ليكون هذا إثباتاً على تدهورها التاريخي إلى ما قبل الإنسان المستقر، حين كان البشر جماعات من الصيادين والفرائس. جاء ذلك بعد اعتداءات وأعمال نهب من قبل النظام وفصائل المعارضة، لا سيما أحرار الشام وجبهة النصرة، طالت مراكز بحوث علمية مختصة بحفظ جينات البذور وتطويرها بالقرب من مدينة حلب.
الانقلاب على الثورة الزراعية
«يتمتع» النظام السوري بقدرة هائلة على الإحالة إلى عصور تعود إلى بدائية الكائن البشري، بالاعتماد على الترويع والتخويف بالأذى البدني أو الجوع أو تقييد الحريات وما شابه، في حال لم يمارس القتل الصريح.
لكن الفترة الزمنية التي يحوم حولها النظام بالتحديد، بالتقديم أو التأخير، كمرتكز لبسط سلطته، تعود إلى عشرة آلاف عام مضت مع بداية «الثورة الزراعية».
وتُعدُّ هذه النقطة الزمنية في الحقيقة أساساً لقيام السلطة عموماً، فالبشر الذين عاشوا حياة موحشة وقصيرة أشبه بطرائد الغابات، هرباً من مفترسيهم، فاتكين ببعضهم بعضاً لتأمين المأكل، عرفوا الاستقرار لأول مرة مع انتشار «حادثة» الزراعة، واكتشاف إمكانية استنبات الغذاء من الأرض دون انتظار منحه لهم من قبل الطبيعة، واكتشاف تدجين الحيوانات عوض قتلها مباشرةً قبل الاستثمار بها.
العثور على ملجأ آمن، أتاح الفرصة أمام المذعورين لإدراك مخاوفهم بشكل واضح، الجوع. وإذا كانت علوم الآثار والمستحاثات لا تستطيع تجاوز التنبؤات حول السبب الذي دفع بالبشر إلى الزراعة، فإن تصوراً حول خوف البشر من عودة شبح الجوع لالتهامهم بأمعاء خاوية، قد يكون نافعاً لفهم السبب الذي دفعهم إلى التموين والادخار من محاصيلهم الزراعية.
من هنا بدأ البشر بتخصيص العمل، وتوزيعه فيما بينهم، مزارعون ورعاة وحرّاس لفائض الإنتاج. وتطور هذا التخصيص الذي أخذ شكلاً هرمياً، تربع على رأسه أولئك الذين تولوا مهمة «الاستثمار بالجوع»، فوزعوا فائض الطعام على أساس الثواب والعقاب، وروّضوا أبناء جلدتهم بالخوف الذي أضناهم معاً سابقاً قبل أن يتحولوا إلى حكام ومحكومين.
هذه «الشيفرة الجينية التاريخية» لنشوء السلطة، هي الصورة التي قد نجدها على بطاقة الهوية لأنظمة التخويف بالجوع مثل سوريا.
مأسسة الجوع
القدرة على الحكم لدى النظام السوري مثلاً، تتمثل بمدى حِرفيته بالتحكم في مساحة حركة حيوان الجوع، بما يتناسب مع الظروف العقابية التي يعاني منها محكوموه.
في فترات التعب التي يسكن فيها السوريين، كانت أجهزة النظام، مثل المؤسسات الاستهلاكية، تجول ومعها صورةٌ أحفورية لوحش الجوع الهمجي، كامنةٌ وراء ابتسامة الأسدين في صورهم المرفوعة أعلى وأعلى فوق الرؤوس المحنية، كإجراء ردعي احترازي، وتدريبي في الوقت ذاته، شبيه بقفز الحواجز، حواجز الجوع الشهرية، التي سيفضّل المحكومون المغامرة معها كونهم اعتادوها، على الدخول في فم المجهول الفارغ الماثل أمامهم في صورة الجوع الرمزية، في حال تخلّت عنهم «مؤسسات» النظام.
خلال تلك الفترة كان التلويح بالجوع كافياً، إرعاب الناس برؤية شبحه مسترخياً وراء برواز صورته، أو في بعض الأحوال كان يُسمَحُ له بإخراج جمجمته وعظام كفيه من البرواز للتفرّس في ضحاياه المذعورين، الذين سيشعرون بقيمة النعمة لأن «الدولة» لم تسمح له بلمسهم حقاً. («كنّا عايشين» قد تكون واحدة من أهم إنتاجات هذه العقلية).
ضرائب حفظ الكرامة
منذ بداية الثمانينات وحتى منتصف التسعينات حظي الجوع بمراسم استعراض كرنفالية، بسبب العقوبات الاقتصادية على سوريا، لكن حضوره كان أساسياً في بنية النظام، توحي به المؤسسات الاستهلاكية نفسها، إذ يذكره رجال مسنون أمامي مؤرخين بدايته مع وصول حافظ الأسد إلى السلطة أوائل السبعينات.
خلال هذه الفترة نشطت المؤسسات الاستهلاكية التي قدّمت المواد الأساسية للحياة (بما فيها الدفاتر المدرسية التي حملت صورة حافظ الأسد!)، بأسعار يستطيع معها السوريين شراءها مقارنةً بأسعار السوق.
اصطفّ السوريون بطوابير طويلة أمام «مزار المؤسسة الاستهلاكية» المقدس، متلمسين ببركته حجاباً طارداً للجوع، بـ «البونات» التي تخوّلهم الحصول على كيلوغرام واحد من المواد الأساسية المدعومة من قبل النظام لكل فرد من أفراد العائلة، في حين كانت ميليشيات الشبيحة تشهد أول ظهور لنواتها في مدن الساحل السوري منتصف السبعينات، تلك التي اختصت بالتهريب من لبنان إلى سوريا، بحجة الحصار الاقتصادي.
هكذا تفادى النظام «بخفّة دم» مشهودة العقوبات الاقتصادية، ليتلقى المحكومون صدمتها بكامل هواجسهم، في حين باعت المحلات والأسواق الخاصة المواد المهربة بأسعار اشتملت على ضرائب رفاهية وحفظ كرامة وتوفير وقت، لعلية القوم فقط.
الجوع كعقد اجتماعي
هنا تحولت الزراعة من «ثورة» إلى امتياز معكوس و«وصمة»، فبعد منح الجوع منصباً رسمياً في دولة التخويف العسكرية، باتت زراعة الكوابيس والرتب والترفيعات على الأكتاف والصدور، أهم بما لا يقاس من زراعة الأراضي، وبهذه الطريقة ضغط النظام على الفئات الاجتماعية التي يريد عسكرتها لتهجر الزراعة، فلا استقرار للإنسان قرب الحقول بعد الآن، الراحة بالنوم على سبطانة البندقية.
في السويداء مثلاً، وصل الأمر قبيل الثورة إلى حاجة الفلاحين لواسطة من مكتب أسماء الأسد للسماح لهم بحفر آبار في محافظة تعتمد أساساً على الزراعة، وفق ما وصلني من بعض سكان المحافظة.
العقوبة إذن هي إنتاج الطعام، فالسلطة تعني إنتاج الجوع، أو بشكل أدق الخوف منه، أما الزراعة فهي لشغل أيدي المحكومين في الأوقات التي لا تكون ممدودة فيها أمام عصا العسكر.
العقد الاجتماعي الشيطاني الذي أصرّ النظام على عقده، ينطوي على تحالف «الدولة» مع الجوع، لتحل محل الطبيعة بغموضها وعبثيتها، عاطبةً إرادة الإنسان الواعية والقاصدة، ودافعةً به مرة أخرى إلى الانتظار أو الهرب.
استنفار مؤسسات الجوع
القطعات العسكرية والفروع الأمنية كانت في حالة استنفار عامة وبشكل روتيني في أيام النصف الأول من كل شهر، وفق ما أخبرني به عنصر (رفض الكشف عن اسمه) قضى خدمته الإلزامية في فرع الأمن السياسي بدمشق قبل الثورة.
«المقصود بالاستنفار أنو كانوا يمنعونا من الحصول على إذن مغادرة لمدة 72 ساعة خلال هي الفترة»، يقول عنصر الأمن السابق، الذي ربطته علاقة «ودية» مع رئيس ديوان فرع التحقيق خلال فترة خدمته، وبعد أن لاحظ منعهم من عدة أمور خلال النصف الأول من كل شهر سأله عن السبب.
«هاد الموضوع لا بكيفي ولا بكيفك» أجاب رئيس الديوان، وبعد إلحاح العنصر أوضح ساخراً «أي شو بدها تضربنا إسرائيل، الناس قابضة بأول الشهر، ممكن يكون في زعران مو عاجبها الوضع، يعني منضل متواجدين من باب الاحتياط ما أكتر».
ويا لها من رمزية متناهية التوافق مع هذه العقلية، حين أنشب السوريون أظافر ثورتهم في عنق النظام، في 15 آذار، في النفس الأخير من استنفار مؤسسات الجوع.
زبائن الحصار
اعتمد السوريون في المناطق الثائرة مثل الغوطة، والتي عاقبها النظام بالحصار، على الأنفاق لكسر عصى الجوع المرفوعة عليهم، والوصول عبر شبكات من التجار إلى العاصمة خلسةً حيث اشتروا موادهم الأساسية من هناك، فضلاً عن اتفاقيات بين تجار من النظام وفصائل عسكرية مسيطرة على شروط تبادل تجاري مجحفة بحق المحاصرين، تقضي ظاهرياً بإدخال أعلاف للحيوانات، وهو ما استخدمه مدنيو الغوطة في غذائهم أيضاً، وفق ما أكد لي عدة أشخاص من هناك.
مرابح النظام من هذه التجارة كانت مضاعفة، في حين وصلت الأسعار في أسواق المدنيين في الغوطة إلى حدود تركيعية حرفياً، وبدت الصورة في أحد جوانبها مناسبة جداً للنظام، وما من شيء يدفعه حقيقةً للتحرك ضد فصائل المعارضة التي تولت إدارة هذه الأنفاق، سوى تململه من وجود وسيط بينه وبين زبائنه المحاصرين.
عقلية الأمعاء الحاكمة طيلة أربعة عقود قبل قيام الثورة، انعكست على فصائل المعارضة كذلك، التي اقتتلت في سبيل السيطرة على الأنفاق، لأن من يتحكم بها يتحكم آلياً بأسعار السوق في الغوطة، ويُخضِعُ سكانها بالجوع متى اضطره الأمر. السلطة تعني القدرة على التجويع ليس لدى الأسد فقط، بل لدى نسخته المعارضة أيضاً، من الفصائل العسكرية.
هذه العقلية تمكنت من تجويع السوريين حتى خارج حدود البلاد، فكلما اشتدّ الحصار على المناطق المعارضة، وشلَّ اقتتالُ الفصائل حركة المدنيين وقدرتهم على عمل أي شيء مفيد خارج العسكرة، ارتفعت مستويات النجدة المالية من المغتربين لأهاليهم في الداخل، لدفع اللاجئين عنوة إلى الركوع، مع أنهم نظرياً «أحرار».
أطلق النظام شبح الجوع من قمقمه على المناطق الثائرة خلال الأعوام السابقة، لتعيد المجاعة إنتاج سلطة الأسد مرة أخرى، في لحظة فرار الضحايا من هوة تاريخية بدائية خلفهم إلى أبواب الباصات الخضراء التي انتزعتهم من الأراضي التي استقرّوا فيها، وكأن الفاصل بين عشرة آلاف عامٍ مضت ولحظة الذعر الآنية لم يكن إلّا خيالاً في ذاكرة المحاصيل.