بدأت السلطات السعودية في الخامس عشر من أيار الجاري حملة اعتقالات جديدة طالت سبعة أشخاص في يومها الأول، عُرِفَ منهم لجين الهذلول وعزيزة يوسف وإيمان الفنجان ومحمد الربيعة وإبراهيم المديميغ وعبد العزيز المشعل، فيما لم يتم التأكد من هوية الشخص السابع، لكن أنباءً تحدثت عن أن المعتقلة السابعة هي نورة فقيه شقيقة المعتقل منصور فقيه.
تلا ذلك في الأيام اللاحقة اعتقال خمسة أشخاص آخرين على الأقل، بينهم أربع سيدات تم الإفراج عنهن لاحقاً، هنَّ الناشطات ولاء آل شبر وعائشة المانع وحصة آل الشيخ ومديحة العجروش. بالإضافة إلى الناشط في مجال حقوق الإنسان محمد البجادي، الذي كان ضحية اعتقالات متعددة في الأعوام السابقة.
الناشطات والناشطون معرفون بدفاعهم عن حقوق الإنسان، ومناهضتهم للقوانين التي تميّز ضد المرأة في المملكة، وقد سبق لمعظمهم أن دخل السجن لفترات متفاوتة، وفي قضايا مختلفة تتعلق كلها بنشاطات مناهضة للقمع والاعتقال السياسي والتمييز ضد النساء. وقد ترافقت الاعتقالات مع دعاية واسعة من قبل وسائل الإعلام التابعة للسلطات السعودية، تم اتهامهم فيها بالخيانة والتآمر على المملكة، فيما بدا أنه حملة واسعة للتحريض ونشر الكراهية، وصفتها منظمة العفو الدولية بأنها «حملة تشهير مروعة».
رسمياً، قال المتحدث باسم رئاسة أمن الدولة في السعودية إن الجهات المختصة قامت باعتقال مجموعة من سبعة أشخاص «قاموا بعمل منظم للتجاوز على الثوابت الدينية والوطنية والتواصل المشبوه مع جهات خارجية فيما يدعم أنشطتهم… بهدف النيل من أمن واستقرار المملكة»، وأضاف أن العمل جارٍ على «تحديد كل من له صلة بأنشطتهم».
وقد أثارت هذه الاعتقالات موجة من ردود الفعل، تمحور معظمها حول اعتبار هذه الاعتقالات بالذات دليلاً على عدم جديّة النهج الإصلاحي لمحمد بن سلمان، وقد اعتبرتها منظمة العفو الدولية دليلاً على أن تعهدات محمد بن سلمان «لا تعني شيئاً»، فيما قال المعهد الملكي للشؤون الدولية في لندن المعروف بـ «تشاتام هاوس» إن اعتقال السلطات السعودية ناشطات حقوق المرأة هو «تذكير بالطبيعة الاستبدادية للقيادة السياسية في المملكة». أما رسمياً فقد كانت التصريحات أقل حدّة، إذ عبّرت المتحدثة باسم الخارجية الأميركية مثلاً عن قلق الإدارة الأميركية جرّاء الاعتقالات، لكنها أكدت في الوقت نفسه أن واشنطن تدعم ما وصفته بـ «الإصلاح في السعودية».
ليست الاعتقالات السياسية أمراً جديداً في المملكة السعودية، إذ أن هؤلاء الناشطين أنفسهم كانوا ضحية اعتقالات متعددة خلال السنوات السابقة كما أسلفنا، كما أن سياسة محاصرة الخصوم والمناهضين الفاعلين أو المحتملين، عبر اعتقالهم أو وضعهم في الإقامة الجبرية أو مصادرة أموالهم أو منعهم من السفر، هي سياسة انتهجها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان على نطاق واسع منذ بدئه العمل على الإمساك بمقاليد السلطة في البلاد، وقد طالت أشخاصاً من مختلف التيارات والتوجهات، بما فيها مراكز القوى المناوئة له داخل الأسرة الحاكمة، وداخل مؤسسات الدولة، وداخل المؤسسات الدعوية والدينية والأكاديمية.
لكن المفارقة التي أثارت الضجة بخصوص هذه الحملة بالذات، هي أنها جاءت في وقت بدأ فيه محمد بن سلمان برنامجه الموصوف بالإصلاحي، والذي يتضمن رفع سقف الحريات والتراجع عن بعض القوانين التي تميّز ضد النساء، وأنها طالت ناشطات وناشطين قد يبدو أن توجهاتهم تسير في الاتجاه نفسه الذي يحاول بن سلمان الإيحاء بأنه يسير فيه. إذ في الوقت الذي تمّ رفع الحظر فيه عن قيادة النساء للسيارات، وتجري الاستعدادات في المملكة للبدء بإصدار شهادات قيادة السيارة للنساء في الرابع والعشرين من حزيران القادم، كانت الناشطات اللواتي كافحنَ طويلاً لإنجاز هذا الأمر، واعتُقلنَ عدة مرات على خلفية كفاحهنّ هذا، من أوائل ضحايا حملة الاعتقالات هذه.
لكن هذه المفارقة لا تبدو مفارقة في الحقيقة إذا عرفنا أن نشاط وخطاب هؤلاء الناشطات والناشطين لا يقف عند حدود إصلاحات شكلية كتلك التي يقوم بها بن سلمان، بل يتضمن المطالبة بإجراءات أكثر جذرية من قبيل إلغاء ولاية الرجل على المرأة في القوانين السعودية، وإطلاق الحريات السياسية والإعلامية بشكل كامل، وإنهاء ملفّ الاعتقال السياسي والتعسفي، وغيرها.
يعلم بن سلمان جيداً إن إصلاحاته لا تشمل إلّا رأس جبل جليد الانتهاكات التي ترتكبها السلطات السعودية، ولا تتناول إلّا جوانب سطحية من القوانين التي تميّز ضد النساء، والقوانين التي تخنق حرية التعبير والعمل السياسي والإعلامي، ولذلك يبدو واضحاً أن حملته هذه تهدف إلى رسم خطوط حمراء جديدة لا ينوي السماح لأحد بتجاوزها، وتهدف قبل ذلك إلى القول إن الإصلاحات التي يقوم بها ليست ناتجة عن ضغط داخلي من أي نوع، بل هي قرارٌ نابعٌ من نظام الحكم نفسه.
يريد بن سلمان أن يكون صاحب السلطة الأول في المملكة التي لم يصبح ملكها رسمياً بعد، لكن يبدو واضحاً أيضاً أنه يريد أن يكون «المعارض الأول»، والإصلاحي الأول، وصاحب التوجهات التحررية الأول، وهذا يقتضي منه اتخاذ الإجراءات اللازمة كي يكفّ الجميع عن الاعتقاد بأن كفاحاً سياسياً أو اجتماعياً من أي نوع يمكن أن يكون سبباً في أي تغيير، ويقتضي منه القول إن هؤلاء الذين سبقوا الأسرة الحاكمة إلى التوجهات الإصلاحية، ليسوا إلّا خونة ومأجورين لضرب استقرار المملكة.
كانت وكالة أسوشيتد بريس قد نقلت عن ناشطين قولهم إن سبعاً من المعتقلات كُنَّ قد شاركنَ في جهود تأسيس منظمة غير حكومية تهدف إلى تقديم الدعم والمأوى لضحايا العنف المنزلي، وربما يكون هذا ما وصفته السلطات السعودية بأنه «عمل منظم للتجاوز على الثوابت الدينية والوطنية»، إذ يبدو أن بن سلمان ونظامه لا يزالون يعتقدون أن العنف المنزلي من ثوابت المملكة الدينية والوطنية.