المراقب والمترقب لما سيكون عليه مصير المناطق الخارجة عن سيطرة النظام في جنوب غرب سوريا (درعا والقنيطرة)، ومن يحاول الوصول إلى نتيجة حول الأمر عبر استقراء الإحداث والتصريحات والتحليلات الأخيرة، سينضم إلى نحو 900 ألف نسمة يقطنون هذه المناطق، ليكتفي معهم بانتظار ما ستقرره الدول الداعمة والضامنة والصديقة والعدوة والمحتلة، حول مصيرهم ومصير مناطقهم.

منذ الإعلان في تموز 2017 عن هدنة ثلاثية (روسية – أمريكية – أردنية) في الجنوب السوري، عاشت درعا والقنيطرة فترة من الهدوء والاستقرار النسبي استمرّت نحو ستة أشهر، لتعيش بعدها حالة من التوتر والقلق والانتظار تصاعدت على وجه الخصوص منذ أواسط آذار 2018، عندما شنت الطائرات الروسية غارات على قرى وبلدات واقعة في ريف درعا الشمالي وفي منطقة اللجاة، القريبة من إزرع الخاضعة لسيطرة قوات من النظام والمليشيات المرتبطة بإيران وحزب الله، مُسجّلةً بذلك خرقاً واضحاً لهدنة تموز، وقد تزامن هذا الخرق مع انتشار أحاديث تفيد باستعداد فصائل المعارضة المسلحة في جنوب غربي سوريا، لإطلاق معركة حاسمة ضد النظام وحلفائه، نصرة للغوطة الشرقية التي كان النظام يقاتل للسيطرة عليها بدعم حلفائه مرتكباً مذابح وجرائم إبادة.

توقفت المقاتلات الروسية بعد بضعة أيام عن شن الغارات، مكتفية بطائرات استطلاع ضخمة تجوب سماء المنطقة بشكل شبه يومي، كما لم تنطلق معركة واسعة، بل اقتصر الأمر على مناوشات ومواجهات متفرقة بين فصائل المعارضة وقوات النظام، لا تزال مستمرة بشكل متقطع، خاصة على جبهات درعا المدينة.

بدل المعركة الواقعية، انطلقت معركة تصريحات متلاحقة من قبل الأطراف كلّها، روسيا والولايات المتحدة وإيران والأردن وإسرائيل والنظام والجهات المعارضة العسكرية والمدنية، ازدادت وتيرتها خاصة بعد الضربة الغربية ثم القصف الإسرائيلي لمواقع وأهداف واقعة تحت سيطرة النظام وإيران، وبعد انتهاء معارك جنوبي دمشق، وقد اتسمت تلك التصريحات بالتناقض، وادخلت المهتمين والمتابعين للوضع عن بعد وعن قرب، والقاطنين في المنطقة، في حالة من التشويش وعدم القدرة على وضع خلاصة أو رسم صورة واضحة لمستقبل جنوب غربي سوريا.

اتخذت التصريحات الروسية وجهين، أحدهما كان صارماً وموجهاً لفصائل المعارضة يتضمن التهديد بخوض عملية عسكرية والإطاحة باتفاق خفض التصعيد، والآخر كان موجهاً إلى شركائها الدوليين إن جازت التسمية، إذ قال سيرغي لافروف إن «قوات النظام هي القوة الوحيدة التي يفترض أن تكون منتشرة في جنوب غربي سوريا»، لتعلن روسيا بعدها عن رغبتها في تنظيم لقاء بأسرع ما يمكن مع الأردن والولايات المتحدة لبحث مستقبل محافظة درعا، وذلك بعد تحذير واشنطن من تنفيذ أي هجوم في المنطقة، إذ كانت تصريحات الولايات المتحدة هي الأكثر وضوحاً، عندما اطلقت خارجيتها يوم الجمعة الماضي تحذيراً للنظام السوري، عن تحرك حازم ضده في حال انتهك وقف اطلاق النار في الجنوب السوري.

تصريحات النظام السوري والإشارات التي أرسلها عبر الإعلام كانت هي الأكثر تناقضاً، وتراوحت بين الحديث عن استعداد قوات «النمر» التي يقودها سهيل الحسن لخوض معركة كبرى في درعا مع بثّ مقاطع فيديو للحشود والأرتال، وبين تصريح القائم بأعمال السفارة السورية في الأردن أيمن علوش الذي قال إن قوات النظام: «ليست بحاجة لعملية عسكرية في الجنوب، ومن الممكن أن تصل بالحوار مع الفصائل إلى اتفاق». التناقض ذاته كان واضحاً من خلال المناشير التي ألقتها طائرات النظام المروحية على مناطق درعا الخارجة عن سيطرته خلال الأسابيع الماضية، والتي تراوحت لغتها بين التهديد والوعيد من جهة، واستخدام لغة لطيفة تدعو للمصالحة وترك السلاح حفاظاً على الأرواح والأرض من جهة أخرى.

الحكومة الأردنية من جهتها بدت حريصة على تجنب قيام أي معركة على حدودها الشمالية، وراغبة في الوصول إلى تسويات سلمية عبر استضافتها لجميع الاجتماعات الدولية المتعلقة بالجنوب السوري. أمّا إسرائيل التي تعلن صراحة أنها تعمل ضد التموضع الإيراني بالقرب من حدودها، وفي سوريا كلّها، فهي ترفض بشكل قطعي مشاركة المليشيات الإيرانية في أي عمل عسكري في الجنوب السوري، فيما يبدو واضحاً من بقية تصريحات مسؤوليها أنها غير معنية بمصير المنطقة طالما ضمنت الجهات الفاعلة ابتعاد إيران.

تشير المعلومات بدورها أن إيران، وبعد الضربة العسكرية الموجعة التي تلقتها في أعقاب انسحاب أميركا من الاتفاق النووي، قد سحبت قواتها مواقع في إزرع وخربة غزالة وقرفا، مبتعدة نحو الصنمين ودمشق، وهو ما يشير إلى أن الطلب الإسرائيلي بابتعاد إيران قيد التنفيذ.

وتبقى تصريحات المعارضة المدنية والعسكرية هي الأكثر خجلاً وضعفاً، ولم تخرج عن قول الفصائل إنها مستعدة وعلى جاهزية لخوض معركة في الجنوب، وعن تصريحات تتحدث عن القبول بحل سياسي بشرط «حفاظه على ثوابت الثورة».

قد يعتقد الواقف خارج منطقة خفض التصعيد في الجنوب السوري أن المنطقة تعيش عل صفيح من نار، لكنه عندما يدخل إليها سيجد أن الحياة تسير على طبيعتها، فالمنظمات على سبيل المثال ما زالت في مستمرة في عملها، بل إن نشاطها في تزايد، حتى أن عدداً من المنظمات التي كانت تعمل في الشمال السوري قامت بنقل أعمالها مؤخراً إلى الجنوب، باعتبار أن المنطقة أكثر أمناً واستقراراً. كما أن الجهات المدنية والمجالس المحلية ومنظمات المجتمع المدني تمارس عملها المعتاد، بل وتجري حالياً استعدادات لانتخابات مجلس محافظة درعا الحرة، ويتم خوض النقاشات حول آليات تفعيل دور المرأة فيها بشكل جدي وحقيقي، وفقاً لتعميم صدر مؤخراً عن وزارة الإدارة المحلية في الحكومة السورية المؤقتة.

تعيش المنطقة عموماً حالة اقتصادية واجتماعية مقبولة، وإذا كان الأهالي يعيشون في حذر وترقب نتيجة الكم الهائل من الضخّ الإعلامي والشائعات والتصريحات حول مصير الجنوب، فإن الواضح أنهم باتوا يوقنون بأن أوضاعهم باتت مرهونة بتسويات دولية خارجية في نهاية المطاف. لا يريد السكان دون شكّ الصعود إلى الباصات الخضراء نحو الشمال، ولا يريدون معركة جديدة تكون نتيجتها مزيد من الدماء والدمار والتهجير، لكن استمرار حياتهم على طبيعتها، دون حراك اجتماعي أو سياسي من أي نوع، في وقت يتم فيه بحث مصيرهم إقليمياً ودولياً، يشير إلى استسلام كامل لحقيقة أن القرار لم يعد في يد أي طرف سوري.

ثمة ثغرات في هدنة تموز 2017، أبرزها عدم تحديد مصير معبر نصيب الحدودي مع الأردن، وعدم التحديد الواضح لعمق المناطق التي يشملها الاتفاق، ويبدو واضحاً اليوم أن هذه الثغرات قد تُرِكت لتكون مواضيع تفاوض وأوراقاً تتم المساومة عليها بين جميع الأطراف، دون أن يكون لعموم السكان حق معرفة ما يجري، ناهيكم عن الشراكة فيه.