الثقافة الراقيةالثقافة الراقية أو العليا (High culture) هي الثقافة المتجسدة في العلوم والآداب والفنون والتي تنتجها إلى حد كبير النخب المثقفة والمتعلمة. هي الوعي الذاتي للمجتمع، فهي تضم أعمال الفن والأدب والمعرفة والفلسفة التي تشكّل جميعها إطاراً مرجعياً مشتركاً بين المتعلمين من الناس. كما أنها إنجاز محفوف بالمخاطر، لن يسعه الصمود إلا إن كان مدعوماً بحسٍّ تقليديّ، وتصديقٍ واسع من المعايير الاجتماعية المحيطة به. فهي أشياء إن تبخّرت، كما يحدث لا محالة، تحلّ ثقافةٌ مزيّفةٌ محل الثقافة الراقية.
يعتمد التزييف على درجة من التواطؤ بين الجاني والضحية، إذ يتعاونان معاً على تصديق ما لا يصدّقون وعلى الشعور بما لا يسعهم الشعور به، فهناك معتقدات مزيّفة وآراء مزيّفة وأنواع مزيّفة من الخبرة. كما أنَّ هناك أيضاً مشاعر مزيّفة، والتي تأتي عندما يحط الناس من قدر أشكال الشعور الحقيقي ولغته التي هي منبته، مما يفقدهم القدرة على استبانة الفرق بين الحقيقي والمزوّر. ويعدّ الفن الهابط «kitsch» أحد أهم الأمثلة على ذلك، فهو ليس استجابة للعالم الحقيقي، بل هو تلفيق مُصمّم ليحل محلّه. ورغم ذلك يتواطأ كل من المُنتِج والمُستهلِك لإقناع بعضهم بعضاً بأن ما يشعرون به في العمل الفني الهابط وخلاله هو شيء عميق ومهم وحقيقي.
بإمكان أي شخص الكذب، فلا يحتاج المرء سوى إلى النيّة المطلوبة لفعل ذلك، بمعنى أن تقول شيئاً بقصد الخداع. بيد أنَّ التزييف، على النقيض من الكذب، يُعدَّ إنجازاً. إذ أنه لتزييف الأشياء عليك أن تشمل نفسك مع الآخرين في هذا الخداع، وبالتالي فلا يُمكن تعمّد التزييف، رغم كونه يأتي من خلال أعمال مُتعمّدة. وفي حين يمكن للكاذب ادعاء الصدمة حال انكشفت أكاذيبه ليبقي على استراتيجيته في الكذب، فالصدمة حقيقيةٌ في حال كَشْف التزييف، لأن [من يقوم بذلك] قد خلق حول نفسه مجتمعاً من الثقة، كان هو نفسه أحد أعضائه. ويُعدّ فهم هذه الظاهرة، كما يبدو لي، جزءاً لا يتجزّأ من فهم كيفيّة عمل الثقافة الراقية وكيفية فسادها.
يرجع اهتمامنا بالثقافة الراقية لاهتمامنا بحياة العقل، كما أننا نعهد بحياة العقل للمؤسسات لتعم المنفعة الاجتماعية. وحتى إن قلّ عدد أولئك القادرين على أن يحيوا هذه الحياة بشكلٍ كلّي، فإننا جميعاً نستفيد من نتائجها التي تتجلى في شكل معرفة وتكنولوجيا وفهم قانوني وسياسي، كما نستفيد أيضاً من الأعمال الفنيّة والأدب والموسيقى التي تستثير الوضع البشري، وكذلك تعيدنا إلى حالة توافق معه. وقد ذهب أرسطو أبعد من ذلك، ليقول إنَّ التدبّر (theoria) هو الهدف الأسمى للبشرية، وأنَّ وقت الفراغ (schole) هو وسيلته. فقط من خلال التدبّر، كما رأى أرسطو، يمكننا إشباع احتياجاتنا العقلانية ورغباتنا كما ينبغي. فيما قد يفضل الكانطيون أن يقولوا إنَّ حياة العقل تصل بنا إلى مملكة الغايات من خلال عالم الوسائل، لنترك وراءنا روتين الاستدلال الأداتي وندخل عالماً نجد فيه الأفكار والمصنوعات والتعبيرات قائمة بذاتها، باعتبارها أشياء ذات قيم جوهرية، ومن ثم تتأتى لنا العودة الحقيقية للروح. ويبدو أن ذلك هو ما أشار إليه فريدريش شيلر ضمناً في كتابه، رسائل عن التعليم الاستاطيقي للإنسان (1794). كما تكمن وجهات نظر مماثلة وراء التوجه الرومانتيكي الألماني للـ Bildung: التثقيف الذاتي كهدف للتعليم ولتأسيس المناهج الجامعية.
لحياة العقل أساليب جوهرية وعوائد، فهي معنية بالحقيقي والجميل والصالح، لتحدّد من خلال هذه القيم نطاق التفكير وأهداف التساؤل الجاد. ولكن يمكن تزييف كلّ من هذه الأهداف، إذ أن أحد أكثر التطورات إثارة للاهتمام في مؤسساتنا التعليمية والثقافية على مدى نصف القرن الماضي هو قدر البطش الذي عانته صنوف الثقافة والمعرفة الحقيقية على أيدي صنوفهما المزيفة. لذا، حريٌّ بنا التساؤل عن السبب.
يعدّ تهميش مفهوم الحقيقة هو الطريقة الأبرز لإفساح المجال الفكري للمعرفة والثقافة المزيفتين. للوهلة الأولى يبدو هذا صعباً، لأنَّ كل الأحاديث والنقاشات تبدو بطبيعتها مستهدفة للحقيقة في النهاية، فكيف يمكن للمعرفة أن تسري إلينا، إن كنا غير مبالين بحقيقة ما نقرأه؟ ولكن الأمر في غاية البساطة، إذ أن ثمة طريقة للمحاججة تتجاهل حقيقة كلمات الآخر، لكونها منشغلة بتشخيصها، ولاكتشاف «من أين أتت تلك الكلمات»، وللكشف عن المواقف العاطفية والأخلاقية والسياسية التي تكمن وراء هذا الاختيار بعينه للكلمات. وترجع عادة الذهاب «لما وراء» كلمات خصمك إلى نظرية الإيديولوجيا عند كارل ماركس، والتي تخبرنا أنه في كنف الأوضاع البرجوازية، يرجع تبني مفاهيم وعادات فكر معينة بل وسبل رؤية معينة للعالم إلى وظائفها الاجتماعية والاقتصادية لا إلى حقيقتها. فقد رفض الماركسيون الأوائل، على سبيل المثال، فكرة العدالة التي ترى العالم من حيث الحقوق والمسؤوليات، والتي تحدد الملكية والالتزامات عبر المجتمع، إذ اشتمّوا فيها رائحة الإيديولوجيا البرجوازية. فالغرض الإيديولوجي لمفهوم العدالة هنا هو شرعنة «علاقات الإنتاج البرجوازية»، والتي يمكن أن تُرى من منظور آخر باعتبارها انتهاكاً للمتطلبات ذاتها التي يرسيها هذا المفهوم. ولذلك، فإن مفهوم العدالة [بحسبهم] يتعارض مع نفسه، إذ يساهم فقط في إخفاء واقع اجتماعي يتعيّن فهمه بشكلٍ آخر-من حيث السلطات التي يخضع لها الناس، وليس الحقوق التي يتمتعون بها.
أُثير حول النظرية الإيديولوجية الماركسية كثيرٌ من الجدل لعدّة أسباب، ليس أقلها أنها مرتبطة بفرضيات اجتماعية-اقتصادية لم تعد معقولة. رغم ذلك، تبقى [النظرية الماركسية] حاضرة في أعمال ميشيل فوكو والمثقفين الآخرين، ولا سيما في كتابه الكلمات والأشياء (1966) كما في مقالاته الرصينة عن أصول السجن ومستشفى المجانين. إنها لتمارينٌ بلاغية فضفاضة، مليئة بالمفارقات والتلفيقات التاريخية، تجتاح القارئ بنوعٍ من أنواع اللامبالاة غير العابئة بمعايير الحجّة العقلانية. فبدلاً من الحجة، يرى فوكو «الخطاب»، وبدلاً من الحقيقة يرى السلطة. وبحسب فوكو فإنه ما من خطاب يلقى قبولاً إلا من خلال التعبير عن سلطة أولئك الذين يقومون عليه، وتحصين تلك السلطة وإخفائها؛ كما يرى أنّ أولئك الذين يدركون تلك الحقيقة يُزج بهم، من وقتٍ لآخر، في السجون كمجرمين أو يُنبذون كمجانين، وهو المصير الذي لم يُلاقِه هو نفسه.
يختزل نهج فوكو الثقافة في لعبة السلطة، والمعرفة في نوعٍ من التحكيم في «الصراع» الذي لا نهاية له بين الجماعات القامعة والمقموعة. وقد قاد التحول من التركيز على مضمون الكلام إلى التركيز على السلطة التي تتحدث من خلال ذلك الكلام، إلى نوعٍ جديدٍ من المعرفة، وهو نوع يتلافى طرح تساؤلات حول الحقيقة والمعقولية، بل قد يرفض تلك الأسئلة لكونها أسئلة إيديولوجيّة.
ثمة تأثير مماثل تخلّفه براغماتية الفيلسوف الأمريكي الراحل، ريتشارد رورتي، فقد تصدّت [براغماتيته] صراحةً لفكرة الحقيقة الموضوعية وجادلت من خلال مجموعة متنوعة من الحجج بأنَّ الحقيقة هي شيء قابل للتفاوض، وأنَّ ما يهم في الأخير هو [أن تحدد] في صفّ مَن تقف. فلا يحق لك أن ترفض البدائل إلا في حال عثرت على تلك العقيدة التي قد تنصفك في النضال الذي من شأنه أن يحرّر جماعتك.
وبصرف النظر عن رأيك في فوكو ورورتي، فلا شك أنهم كانوا كتّاباً أذكياء وباحثين صادقين وأصحاب رؤى مميزة للواقع. بيد أنهم مهّدوا الطريق للتزييف رغم خلوّهم من الزيف أنفسهم، إذ أنه بالنظر للعديد من معاصريهم فستجد أن الأمور تختلف بشدة.
ولنتأمّل الجملة التالية:
ليس هذا وضعه «من حيث المبدأ» فحسب (الذي يشغله في التسلسل الهرمي للمواقف بالنسبة إلى هذا الموقف المُحدد: في المجتمع والاقتصاد)، أو مجرد وضعه «في الواقع» (سواء كان مهيمناً أو تابعاً في المرحلة محل النظر)، وإنما علاقة هذا الوضع «في الواقع» بالنسبة لهذا الوضع «من حيث المبدأ»، أي العلاقة التي تخلق من البنية الكلية لهذا الوضع -الثابت- «تبايناً» في الواقع، في هيمنته.
أو هذه الجملة:
… هي العلاقة بين الدال والدال التي تسمح بالتمويه الذي يُرسّخ فيه الدال نقص الكينونة في علاقة الموضوع باستخدام قيمة «رد الإحالة» التي تمتلكها الدلالة لاستثمارها من خلال الرغبة الموجهة نحو النقص ذاته الذي تدعمه.
تعود تلك السطور لكل من الفيلسوف الفرنسي لويس ألتوسيير والمحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان تباعاً. وقد ولد هذان المؤلفان من رحم الهياج الثوري في باريس عام 1968 ليحقق كلّ منهما سمعة مدهشة في عدّة أماكن ولا سيما أمريكا، إذ يفوق عدد الأدبيات التي تشير إليهما كمراجع عدد تلك التي تشير إلى كانط وغوته مجتمعين، إلا أنَّه من الواضح أن تلك العبارات ما هي إلا هُراء. بيد أن ما يكفل لهما تحصين دفاعاتهما ضد أي هجوم ناقد هو ادعاؤهما العلم والمعرفة الواسعة، وهو ما يرهب الناقدين. فقد تحدثوا بلغة أكاديمية مخادعة وغريبة الأطوار: [إذ تجد] كل عبارة لديهم ملتوية كأظافر القدم الخشنة التي تنمو للداخل بشكلٍ قبيح بحيث لا تشير سوى إلى نفسها.
يدعوك المثقّف المزيّف لتتواطأ معه في خداعه لذاته، ولتشاركه في خلق عالم خياليّ. إذ أنه معلّم العبقرية وأنت التلميذ الفذّ. فما التزييف إلا نشاط اجتماعي يعمل فيه الناس معاً لإخفاء الحقائق غير المرغوب فيها، ولتشجيع بعضهم بعضاً على ممارسة قواهم الوهمية. لذا لا ينبغي أن يُعزى وصول الفكر والعلم المزيّفين لجامعاتنا إلى أي رغبة صريحة في الخداع. إذ أن التواطؤ هو الذي قاد إلى فتح أراضٍ خصبة للهراء، فهذا النوع من الهراء هو عرض لا يتسنى لك رفضه. فهو يستدعي استجابة على النحو التالي: تالله إنّك على حق، هكذا يكون الأمر. ولا شك في أنَّك ستغضب مما قلته إلى الآن، بل ولن تكمل القراءة، إن كنت ممن حصلوا على مناصبهم الأكاديمية من خلال التزلّف لتلك الشعارات الفارغة لأولئك المحتالين، أو من خلال خلط [تلك الشعارات] في جملٍ منيعة البنيان تخادع صانعها بقدر ما تخادع قارئها.
قد يجادل البعض بأنَّ بروز المعرفة المزيّفة والفلسفة المزيّفة ليس بالأمر الجلل، فتلك الأشياء يمكن ألا يمتد أثرها خارج جدران الجامعة، والتي تمثّل مكانهما الطبيعي، كما أنَّ ذلك ليس من شأنه أن يؤثّر على حياة العاديين من الناس. عندما نفكّر في الثقافة الراقية وأهميتها فنحن نميل للتفكير في الفن والأدب والموسيقى وليس المعرفة والفلسفة، فالفن والأدب والموسيقى هي نشاطات يُعدّ ارتباطها بالجامعة من قبيل المصادفة فحسب، كما أنّها تؤثّر على أشكال حيوات الناس غير المنتمين للأكاديمية وعلى أهدافهم.
حظيَ الفنّ بأهمية جديدة خلال فترة الرومانتيكية. إذ في حين فقد الدين قبضته العاطفية، وعدت حالة البعد الاستاطيقيالبعد الاستاطيقي أو المسافة الجمالية هي الإطار المرجعي الذي يخلقه الفنان في العمل الفني وحوله، مستخدماً أدوات تقنية، ليميز عمله الفني سيكولوجياً عن الواقع. [بإيجاد] طريق بديل لمعنى العالم. بالنسبةِ إلى الرومانتيكيين، كان العمل الفني هو نتاج لتجربة فريدة غير قابلة للاستبدال، تحوي هذه التجربة كشفاً لمعنى فريد من نوعه، إذ هو خلاصة جهد فردي وعبقرية فنية. بينما جاءت طائفة العبقرية لتُسكِنَ الفن في مركز الحياة الفكرية، وهو مكان جديد، لتظهر مواضيع أكاديمية مثل تاريخ الفن وعلم الموسيقى جنباً إلى جنب مع النقد الأدبي ودراسة الشعر. منح [الفريقان] معاً مصداقية للفنون الجميلة كمواضيع للدراسة، وكذلك كبوابات لنوع آخر من المعرفة-معرفة القلب. كان المهم في كل هذا هو معنى العمل الفني باعتباره لفتة أصيلة، أو كشفاً عن شخصية فريدة من نوعها قد تجاوزت جميع أشكال التعبير التقليدية من أجل منح الذات الداخلية تجربة مباشرة.
قادت طائفة العبقرية إذن إلى التوكيد على الأصالة باعتبارها معياراً للصدق الفني – أي الشيء الذي يميز الفن الحقيقي عن المزيّف. ورغم أنَّه من الصعب أن نفصح بشكل عام عن مكوّنات الأصالة، فإنَّ أمثلة مثل تيتيان وريمبراندت وكورو وماتيس وغوغان؛ وأيضاً مثل يوهان سباستيان باخ وبيتهوفن وفاغنر وشونبرغ، ومثل شكسبير وديديروت وغوته وكليست، قد مكّنت كل من النقاد والفنانين من فهم الفكرة العامة للأصالة. فالشيء الوحيد الذي يجب أن نستشفّه من هذه الأمثلة هو أنَّ الأصالة ليست بالشيء اليسير: لا تُستنشق من الهواء، حتى وإن بدا أنَّ بعض العبقريات الطبيعية مثل آثر رامبو وموزارت تفعل ذلك بيُسر. فلا تكون الأصالة إلا بالتعلم والعمل الشاق والتمكّن من وسيلة ما، ولكن الأهم من ذلك كله هو الحساسية المصقولة والانفتاح على التجارب التي لن تتأتّى إلا من خلال تجرّع معاناة العزلة.
ومن الغريب أنَّ الفن المزيّف الذي أقرّته متاحفنا ومعارضنا اليوم قد نشأ عن الخوف من الفن المزيّف: إذ ابتدع الفنانون نوعاً من التزييف ليهربوا من نوعٍ آخر. بدأ الأمر مع الحداثيين الذين جاءوا كرد فعل مباشر لمواجهة الفن السنتمنتاليهو الفن الذي يلعب على المشاعر بشكلٍ فج، إذ هو لا يلهمك الشعور بشيء ما، بل يقحمك في حالة شعورية معينة من خلال استخدامه لبعض الكليشيهات. الذي كان رائجاً آنذاك. وقد اتفق أوائل الحداثيين – أمثال سترافينسكي وشونبرغ في الموسيقى، وإليوت وييتس في الشعر، وغوغين وماتيس في الرسم، ولوس وفويسي في العمارة – على أنَّ الذوق الشعبي قد أصبح معطوباً، وأن السفه والفن الهابط قد غزا كلٌّ منهما مجالات الفن ليحجب رسائل تلك المجالات. فاندثر التجانس النغمي لصالح الموسيقى الشعبية، وبهتت التصويرية المدهشة على يد التصوير الفوتوغرافي؛ فيما انزوت كل من القافية والوزن إلى بطاقات عيد الميلاد، وتكررت القصص التي كثيراً ما قُصَّت ليصبح كل شيء، في عالم أولئك السُذّج غير المفكرين من الناس، فنّاً هابطاً.
حاولت الحداثة إنقاذ كل ما هو صادق وأمين وكل ما تحقق بشقّ الأنفس من بين ثنايا طاعون العاطفة المزيّفة. ولا يمكن لأحد أن يشك في أن أوائل الحداثيين قد حالفهم النجاح في هذا المشروع، مما منحنا أعمالاً فنيّة رائعة أبقت على حياة الروح البشرية وسط ظروف الحداثة الجديدة، كما أرست استمراريةً لتقاليد ثقافتنا العظيمة. ولكن الحداثة أفسحت المجال أيضاً لنسخة روتينية من نفسها: فقد بدت الطرق الرخيصة لصب الازدراء على التقاليد أكثر جاذبية من المهمة الشاقة المتمثلة في الحفاظ عليها.
ومن ثم فقد افتُرِضَ منذ فترة طويلة أنَّه لا يمكن أن يكون هناك ابداع حقيقي في الفن الراقي إذا لم يشكّل بصورةٍ ما «تحدياً» للثقافة العامة، لأنه يجب للفن أن يهاجم وأن يخرج شاهراً سلاحه ضد الذوق البرجوازي المتماهي والمستكين، والتي هي ببساطة مرادفات أُخرى للفن الهابط والكليشيه. والنتيجة هي أن الهجوم نفسه قد تحول إلى كليشيه. إذ أنَّه في حال لم ينجح في اجترار تشنّجات الجماهير التي باتت تأمن الصدمات باستثناء عرض قرش ميت في سائل الفورمالدهايد، فعلى الفنان إذن أن يُنتج قرشاً ميتاً في سائل الفورمالديهايد، لأن هذا، على الأقل، لفتة أصيلة. وبدلاً من مقولة الناقد الفني الأمريكي الراحل هارولد روزنبرغ «التقليد الجديد»، فنحن لدينا «كليشيه الفجاجة»- وهو تكرار ما كان يُفترض له أن يكون فريداً من نوعه.
أدرك عظام الحداثيّين الحاجة إلى بناء جسر مع الجمهور بعد تكديرهم لتوقعاته، فانتهى بهم الحال مثل إليوت وبيكاسو وسترافينسكي، إذ أحبهم بشدّة أولئك الذين يهتمون بالثقافة الراقية التقليدية. لكنهم بدأوا بالتعسير – التعسير المُتعمّد – من أجل خلق حصنٍ فعّال بين أرض الفن الراقية ومستنقع السنتمنتالية الشعبية. وهكذا وضعهم الناقد الأمريكي الراحل كليمنت غرينبرغ أمام الخيار الصارخ، في مقاله «الطليعية والفن الهابط» وهو المقال الذي صنع له اسمه عام 1939. كي يكون الفن حقيقياً، يجب أن يكون سابقاً لعصره؛ فإن أي تباطؤ يعني السقوط في مستنقع العاطفة المزيّفة والمؤثرات التجارية.
نظراً لتعسيرهم، نشأت حول الحداثيّيين فئة من النقاد والرُعاة شرعوا في تيسير أعمال الطائفة الحداثية. بدأت هذه الفئة في الترويج لما هو غير مفهوم وصارخ بطبيعة الحال، خشية أن لا يرى الجمهور حاجةً لخدمات تلك الطائفة. فيما شكلت نوعاً جديداً من أنواع الشخصيات، مجبولاً على مجاراة الأوقات، في حين أنَّ نصيبه من فهم تلك الأوقات ضئيل. ليس من السهل أن يُقال لك إنك فنانٌ أصيل، إلا أنَّه في كنف مجتمعٍ يُبجَّلُ الفنُّ فيه كأعلى الإنجازات الثقافية، فإن العوائد متعددة. هناك إذاً دافعٌ للتزيّيف، لإنتاج دائرة من التواطؤ؛ يظهر فيها الفنّانون كمبدعين لا يُشَقُّ لهم غبار، بينما يلعب النقّاد دور الحكام المتبصّرين على الطليعية الحقيقية. وهي ظاهرة نلاحظها في تعاضد [الناقد] غرينبرغ مع فنان التعبير التجريدي ويليم دي كونينغ.
ومن الأمثلة الأخرى ذات الصلة الملحن الأمريكي جون كيدج. بمهارةٍ فذّة في الترويج الذاتي، ورغم عدم وجود دليل مسبق على كفاءته الموسيقية، ذاع صيته في عام (1952) بسبب مقطوعته الشهيرة 4,33، إذ يحدث فيها أن يجلس عازف البيانو مرتدياً ثياب الحفل الموسيقي صامتاً أمام البيانو لمدة أربعة دقائق و33 ثانية بالضبط. على إثر هذا وقليل من المُزح المماثلة، قدّم كيدج نفسه كملحّن مُبدع، ليضع التقليد الموسيقي الغربي بأكمله «محل تساؤل». فيما سارع النقاد لتأييد رأيه الذاتي المتعالي، أملاً أن يشاركوا في مجد اكتشاف عبقرية جديدة وأصيلة. سرعان ما أصبحت ظاهرة كيدج جزءاً من الثقافة، قادرةً على جمع الدعم المالي من المؤسسات الثقافية، وعلى تجنيد مجموعة من المقلدين الذين لم يستطيعوا إحداث ضجة بقدر تلك التي أحدثها كيدج، من خلال قيامه باللاشيء.
حلقات مماثلة نجدها في الفنون البصرية، بدءاً من مبولة مارسيل دوشامب ومروراً بصور الشاشة الحريرية لآندي وارهول وصناديق بريلو، وصولاً إلى أسماك القرش المخللة والأبقار لداميان هيرست. في كل حالة، يجتمع النقّاد مثل الدجاج الثرثار حول البيضة الجديدة المُبهمة، حيث يُعرض الزيف للجمهور مع جميع الكماليات اللازمة لقبوله كشيء حقيقي. وقد بلغ زخم الزيف الجماعي حداً جعل من المستحيل إدراك أن ما نشاهده هو عمل فني ما لم يخبرنا أحد بذلك، بل أصبح ذلك شرطاً لا فرار من توافره بين المرشحين لجائزة تيرنر في بريطانيا. من ناحية أخرى، فلا يُمكن تكرار بعض اللفتات الأصيلة كتلك التي قدمها دوشامب – فهي مثل النكات، لا تُروى سوى مرة. لذلك نجد أن عادة التزييف مخبوءة في حتمياتها الخاصة القائلة بأنه ما من حكم مؤكّد سوى ذلك الذي يُقرّ بأن هذا الذي أمامنا هو بلا شك «الشيء الحقيقي» وليس المزيّف، وهو ما يُعدّ بدوره حكماً مزيّفاً.
ولإقناع أنفسهم بأنَّهم تقدميون بحق، ومتصدرون لطليعة التاريخ، أحاط الرعاة الجدد أنفسهم بآخرين من نوعهم. إذ يرشحونهم لجميع لجان التحكيم المتماشية مع مراكزهم، وبدورهم يتوقعون منهم المثل. وهكذا نشأت المؤسسة المعاصرة-الدائرة القائمة بذاتها من النقاد والمروّجين، الذين يشكلون العمود الفقري للمؤسسات الثقافية الرسمية وشبه الرسمية، فهم يتاجرون بـ«الأصالة» و«الفجاجة» و«استحداث المسارات الجديدة». وما هذه المصطلحات سوى كليشيهات، كتلك الأشياء التي اعتادوا الثناء عليها. وهكذا تنتهي الرحلة لما بدأت منه، أي الكليشيه.
لا يقتصر التزييف على الاعتقادات والأفعال فحسب، فقد لعبت المشاعر المزيّفة أيضاً دوراً حاسماً في تطوّر الفن في الآونة الأخيرة. وفي حين لا ترتضي المشاعر الحقيقية ببدائل، لاستحالة كونها موضع مساومة أو مقايضة، تتنازل المشاعر المزيّفة عن ثمن الشعور في حال قبضت الفائدة. فهي جاهزة على الدوام لاستبدال موضوعها الحاضر بآخر أفضل. فالعاشق الولهان الذي يستعذب مشاعر استحسان الذات المصاحبة لحبه هو أيضاً من سينتقل لموضوعٍ آخر في حال شقّ عليه البقاء مع محبوبه الحالي-ربما لأنه أو لأنها باتت مُنهكة من المرض أو لكونها شاخت أو فقدت جاذبيتها.
ليس الحب المتنقّل حباً حقيقيّاً، كذلك الأمر مع العواطف الأخرى أيضاً. وقد أوضح أوسكار وايلد كل ذلك في «دي بروفونديس» (1897)، من خلال استنكاره الجم للسيّد العاطفي ألفريد دوغلاس، الذي كان قد دُمِّر من قِبَله.
على النقيض من ذلك، فقد صُمّم الفن الهابط لعرض العاطفة للبيع: يجري الأمر كالإعلانات الدعائية، إذ يُخلق عالم من الخيال يمكن شراء كل شيء فيه، بما في ذلك الحب، [فهو عالم] لا تعدو كل عاطفة فيه كونها عنصراً واحداً من بين عدد لا حصر له من البدائل. القبلة الكليشيهية، الابتسامة الجذابة للعينين، مشاعر بطاقة عيد الميلاد: جميعها تُعلِنُ عن أشياء يفنى وجودها الحقيقي فور الإعلان عنها. ليس للبائع دورٌ يلعبه هنا، فهي أشياء يُمكن شراؤها وبيعها دون مشقّة عاطفية، لأن العاطفة، من حيث كونها مُنتَج خيالي، لم تعد موجودة بشكلها المعتاد.
على يد الثورة الحداثية في الفنون جاءت إدانة أولئك الذين حاولوا إنعاش الطرق القديمة لفعل الأشياء -كالرسم التشخيصي والموسيقى الإيقاعية والعمارة الكلاسيكية- لتثنيهم عن درب الفن الأصيل. بالطبع يمكنك إضفاء بعض اللفتات القديمة، لكن ليس بوسعك أن تعنيها بجدية. وإن أضفيت تلك اللفتات على أي حال، فإنك لن تجني إلا فناً هابطاً-فهو اعتيادي كتلك البضاعة التي تُباع بالجملة، مُنتجة دون إتقان ومستهلكة دون تفكّر، على غرار أغلب موسيقى البوب اليوم.
ساق الخوف من الفن الهابط إلى روتينية الحداثة. من خلال طلّته كحداثي، يعطي الفنان علامة يمكن إدراكها بسهولة تدل على أصالته، ولكن النتيجة تأتي في صورة كليشيهات من نوع آخر. وهذا هو أحد أسباب ظهور مشروع فني جديد كلياً يطلق عليه البعض اسم «ما بعد الحداثة» إلا أنه كان من الأفضل أن يُدعى «الفن الهابط الاستباقي».
بدأ الفنانون على غرار آندي وارهول وألين جونز وجيف كونس، فور إدركهم أن وطأة الحداثة لم تعد مقبولة، في اعتناق الفن الهابط بدلاً من اجتنابه. فالشيء الأسوأ هو أن تكون مذنباً عن غير قصد لإنتاجك فناً هابطاً؛ والأفضل من ذلك بكثير هو أن تنتج فناً هابطاً متعمداً، إذ أنه حينها لن يُعدَّ فناً هابطاً على الإطلاق ولكن نوعاً رفيع المستوى من التهكّم. (من المستحيل أن تنوي إنتاج فن هابط حقيقي، فالأمر كأنك تقول إنك تقصد التصرف عن غير قصد، فالسذاجة المتعمدة هي سذاجة زائفة). يضع الفن الهابط الاستباقي علامات اقتباس حول الفن الهابط الحقيقي، أملاً في إنقاذ أوراق اعتماده الفنية بهذه الطريقة. كما يمكن رصد الظاهرة نفسها في الموسيقى، مع الأشكال المتكررة القائمة على الكوردات النغمية البسيطة التي نجدها عند فيليب جلاس، وستيف رايش بقدرٍ ما. وردّاً على الحجة القائلة بأن التآلف الثلاثي في الموسيقى ما هو إلا كليشيه، فإن هؤلاء الملحنين يلتزمون بالتآلف الثلاثي ويكررونه حتى تتأكد من أنهم على دراية بكونه كليشيه، وأنهم قد وضعوا علامات اقتباس حول إدراكهم لتلك الحقيقة.
عوضاً عن صرامة الحداثة ظهر نوعٌ من التزييف المُمأسس. إذ تأتي المعارض العامة والتشكيلات الكبيرة بفهم مستقر لالتباس الحياة الحديثة. مثل هذا الفن يتجنب الإتقان والدلالة والتضمين، وبدلاً من المُثُل المتخيلة الكائنة في أطرٍ مُذهّبة فهو يقدم قاذورات حقيقية في علامات اقتباس. لا يمكن تمييزه في النهاية عن الإعلانات، مع فارق وحيد هو أنه لا يبيع إلا نفسه.
يقدم الفن الهابط الاستباقي عواطف مزيفة، وفي الوقت نفسه رفضاً ظاهرياً للشيء الذي يقدمه. يدّعي الفنان أنه يأخذ نفسه على محمل الجد، ويدّعي النقاد أنهم يحكمون على منتجه وتدّعي المؤسسة الحداثية تعزيزه. في نهاية كل هذا الادعاء، يقرر شخص يعجز عن التمييز بين الإعلان (الذي هو وسيلة) والفن (الذي هو غاية) أن عليه شراءه. فقط في هذه المرحلة تُختتم سلسلة الادعاءات، وتكشف القيمة الحقيقية لفن ما بعد الحداثة عن نفسها، وهي القيمة المُكتسبة من التبادل النقدي، وحتى في هذه المرحلة فإن الادعاء مهم. إذ على المشتري أن يعتقد أن ما يشتريه هو فنٌّ حقيقي، وبالتالي فهو صفقة لا بدّ أن تُحسَمَ بأي ثمن لما يحمله من قيمة جوهرية. إن لم يحدث هذا فقد يعكس السعر الحقيقة التي لا غبار عليها، وهي أن أي شخص -بما في ذلك المُشتري- بإمكانه تزييف مثل هذا المنتج. إن جوهر الأشياء المزيفة هو أنها بدائل لنفسها، وتجسيدٌ لتلك الصور التي تحوي بداخلها عدداً لا نهائياً من صورها (mise-en-abyme)، فهذا هو ما يكمن وراء كل شيء قابل للبيع.
ما الذي نخاطر به عند الاختيار بين الحقيقي والمزيف في مضمار الثقافة؟ هل من رادع إن قررنا التزييف إلى الأبد؟ أليس هذا ما تفضله تلك الحيوات الأصيلة والمخلصة التي يزدهر فيها الشغف البشري بجموحه بل وخبثه في أغلب الأحوال؟ ربما تقضي الثقافة بأن تزج بنا جميعاً في حلم نرى فيه ديزني لاند كلما عاودتنا رغباتنا الخطيرة في إدراك الحقائق. عندما تنظر إلى المؤسسات الثقافية في كنف ديموقراطيات اليوم، ستتبين في الغالب أن التزييف هو الغرض منها، وأنه هدف يُرجى منه تحقيق مصلحتنا جميعاً.
ولكن ليس لعاقل أن يشكك في أهمية الثقافة، فبدونها سنظل أميين عاطفياً. ثمة عواقب للثقافة المزيفة، لا تقل عن عواقب الفساد في السياسة. في عالم يعج بكل ما هو مزيف، تُقتل المصلحة العامة باستمرار لصالح الخيال الخاص، وتبقى الحقائق التي نعتمد عليها لإنقاذنا دون تمحيص أو معرفة. ولكن في الواقع لا يُعد إثبات هذه النقطة بالأمر اليسير، وها أنا ذا بعد حياة ملأتها المحاولات أجد نفسي لم أتجاوز مهد البداية فحسب.