كانت دمشق بداية القرن التاسع عشر أحد آخر القلاع الحصينة لنظام الإنتاج الزراعي التقليدي في سوريا، ولم تكن المدينة تحبّذ أبداً فتح أسواقها أمام المصنوعات الأوروبية، واستطاعت الحفاظ على هذا الوضع حتى مطلع القرن التاسع عشر نتيجة عدة أسباب تتعلق بامتيازات المدينة في اقتصاد الحجكان محمل الحج الإسطنبولي الذي يحمل كسوة الكعبة، ينطلق نحو الحجاز من دمشق وغالباً ما كان والي دمشق هو المسؤول عن هذه الرحلة ويرافقها في كثير من الأحيان، وقد خلق هذا الدور الديني سوقاً تجارية كانت واحدة من أسس الإنتاج في مدينة دمشق.، كما باحتكارها للتبادل التجاري ضمن المناطق الداخلية لسوريا الجنوبية، بالإضافة إلى وصول سلالة آل العظم إلى الواجهة خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر، الذين استطاعوا إنشاء عصبة جديدة بين النخب المتحكمة في المدينة، التي تمكنت من إقامة سوق واسعة في سوريا الداخلية تعتمد على النظام التقليدي للإنتاج. وفي حين تَحكَّمَ أغوات حيّ الميدان بتجارة حبوب حوران، استطاعت عصبة آل العظم التحكّم بتجارة الحبوب والمواشي في سهلي حماة وحمص، الأمر الذي اعطى دفعات متتالية للسوق الزراعية في مدينة على أعتاب الصحراء.
بالنتيجة يبدو أن عصر أسرة آل العظم في حكم دمشق، الذي انتهى مع عزل عبد الله باشا عن ولاية المدينة عام 1808، قد أفاد نظام الإنتاج التقليدي، كما أن طموحات منافس آل العظم، والي عكا أحمد باشا الجزار، بالتجارة مع أوروبا وتوجيهه أغوات الميدان لتصدير الحبوب نحو أوروبا قد أفاد أيضاً باستمرار الإنتاج الزراعي التقليدي في ولاية دمشقمكَّنَ تسهيل تصدير الحبوب نحو أوروبا عبر عكا تجارَ الحبوب من آغوات الميدان من الحصول على أسعار مرتفعة لا يمكن للسوق المحلية تحملها، بالمقابل فإن دمج سوق منتجات حوران الزراعية مع سوقي حماة وحمص قد خلق وفرة معقولة، وإن لم تكن ثابتة، حافظت على أسعار مقبولة في السوق المحلية لمدينة دمشق.، في وقت استطاعت فيه جارة دمشق الشمالية، حلب، التأقلمَ مع التغيرات الاقتصادية العالمية والتحوّلَ إلى مركز تجاري عالمي منذ منتصف القرن السادس عشر.
لم تكن النخب الإقطاعيةلا يمكن التعامل مع مصطلح «الإقطاعية» في المدن العثمانية ضمن تعريفه التقليدي المعتمد على صورة نظام الإنتاج الزراعي الأوروبي في تلك المرحلة، فنظام الملكية ضمن الإمبراطورية العثمانية اعتمد وحتى صدور قانون الأراضي عام 1858 على مبدأ أساسي وهو الالتزام، أي استثمار الأراضي الميرية التي تمتلكها الدولة مقابل دفع ضرائب محددة، وقد ظهرت نخب اقتصادية حاولت احتكار هذه الأراضي ضمن المدن الرئيسية، وخلقت ما يمكن وصفه بنخب إقطاعية دون أن يكون صائباً وضعها في إطار المصطلح الأصلي الذي يصف طبقة الإقطاع الأوروبية. وشبه العسكرية هي المستفيد الوحيد من استمرار الأوضاع القائمة، فقد تطور في دمشق ومنذ عدة قرون تقسيمٌ للمهن مرتبطٌ بشكل حيوي بأنماط الإنتاج الزراعية التقليدية، وكانت أسواق الحِرَف ومشاغلها في المدينة تستوعب العدد الأكبر من السكان الذين لا يملكون رؤوس أموال تسمح لهم بمزاولة التجارة، وقامت هذه الصناعات على أسس رئيسية أهمها احتياجات المزارعين في محيط دمشق للأدوات، والتجارةُ خلال موسم الحج وأسعارُ الحبوب الرخيصة نسبياً، وقد كانت زعزعة استقرار أحد هذه الأسس تعني عملياً نهاية حياة هذه الطبقة التي تعتمد على شكل الاقتصاد المحلي التقليدي في استمرار حياتها، خاصة أنها لم تكن على استعداد للدخول في منافسة غير متكافئة مع البضائع الأجنبية، التي أمّنت لها الاتفاقياتُ مع الباب العالي عدم وجود حواجز جمركية أو ضريبية مرتفعة تحول بينها وبين اكتساح الصناعات المحلية التقليدية.
حراسة التقاليد في المدينة لم تكن حكراً على النخب وحدها، في الحقيقة ستثبت بعض الحوادث التي جرت خلال ثورة 1831 أن فئات من السكان كانت أكثر تطرفاً في محاربة التغييرات من نُخبها، كما أن التنظيم الذاتي ضمن الفئات الاجتماعية في مدينة دمشق شكّل جداراً صلباً غير قابل للنفاذ. وعلى الرغم من أنه كان يمكن رصد هيمنة التقسيمات الدينية على توزع السكان في المدينة، إذ كان للطوائف المسيحية واليهودية أحياؤها الخاصة، إلا أن تقسيمات طوائف الحِرف والصنائع قد حازت سلطة واسعة على السكان أيضاً، وقد امتلكت كل حرفة هرميتها وطقوسها الخاصة التي كانت متأثرة إلى حد كبير بالطرق الصوفية المنتشرة في ذلك الوقتيذكر نايف صياغة في كتابه، الحياة الاقتصادية في مدينة دمشق منتصف القرن التاسع عشر، طقوس ترفيع الصانع إلى معلم في الحرف الدمشقية في الصفحة 120 من كتابه، وتشابه هذه الطقوس إلى حد بعيد جداً طقوس الطرق الصوفية المنتشرة، الأمر الذي يعد دليلاً هاماً على الارتباط العضوي بين التنظيم الحرفي والطرق الصوفية في المدينة.، إضافة إلى ذلك فقد كان التحالف بين أرباب الحرف وعائلات الأشراف وعلماء الطرق الصوفية في المدينة قد ساهم في مزيد من تجذير التقاليد التي اعتمدت بشكل رئيسي على دوام نظام الإنتاج القائم.
وقد ساهم وجود بيوت الأشرافالأشراف هم أبناء العائلات التن تدعي صلة نسبها بابني علي بن أبي طالب، الحسن والحسين، وقد حازت هذه العائلات على امتيازات قانونية واقتصادية عديدة ضمن الإمبراطورية العثمانية، مما أهلها لتشكل طبقة من النخب ضمن المدن التي تقطن فيها. في قلب المدينة المسوّرَة من زيادة التضامن بين الفئتين، بعد أن توجهت النخب شبه العسكرية والتجارية والحكومية للعيش في أحياء جديدة خارج السور، في حييّ ساروجا والقنوات، حيث بنت بيوتاً أكبر من بيوتها القديمة في الأحياء داخل السور.
وفيما حافظت عوائل أغوات الميدان مثل عوائل شوملي والمهايني على ارتباطها بعناصر الإنكشارية المحلية «اليَرلية» المنتمين إلى الحي ذاته، من خلال بقاء أعمالهم وتجارتهم ضمن الحي، فإن زعماء القوات العسكرية «قابي قول»يشرح معجم المصطلحات العثمانية التسمية بمعناها الحرفي، وهو عبيد الباب، والمقصود هو الباب العالي قصر السلطان العثماني، وشكّلت هذه القوات دعماً للولاة الجدد القادمين إلى المدن العثمانية، خاصةً أن القوات الإنكشارية التي استقرت في عدد من المدن أصبحت تملك نفوذها الخاص الذي حاربت الولاة به، مما اضطرهم إلى جلب قوات جديدة لمواجهة نفوذ وقوة القوات القديمة. التي رافقت الولاة، واستقرَّ بعضها في دمشق، فضلوا الحياة في الأحياء الحديثة خارج سور دمشق أو الاستقرار في محيط دمشق، كما في حالة أغوات عائلة شمدين الذين استقروا في الصالحية وأصبحوا من زعمائها.
بهذه الطريقة كان مجتمع مدينة دمشق يتألف من تقسيمات رئيسية للفئات الاجتماعية؛ كانت الطبقة الأكثر تنفّذاً هي طبقة الولاة وموظفي الدولة والقضاة، وهؤلاء كانت تتم تسميتهم من قبل السلطان في إسطنبول، ولفترات لم تكن طويلة في سبيل الحفاظ على السلطة المركزية على مدينة دمشق، التي تعدّ واحدة من أهم المدن بالنسبة للسلطنة العثمانية.
الفئة الثانية كانت فئة الإنكشارية المحلية أو «اليَرلية»، وكانت هذه الفئة قوات شبه عسكرية تكونت عبر تمازج حاميات الإنكشارية التي استقرت في مدينة دمشق منذ دخول العثمانيين وفرض حكمهم على المدينة في القرن السادس عشر، مع أبناء المدينة الذين اشتروا حقوق انتسابهم إلى هذه القوات بما تمنحه من امتيازات حمل السلاح والنفوذ، بالإضافة إلى الرواتب التي يحصل عليها عناصرها، وقد دخلت هذه الطبقة أو الفئة في الحرب على النفوذ بشكل مستمر مع ممثلي الحكومة المركزية، مما تسبب في عدة اضطرابات في المدينة. وعلى الرغم من الضربات التي تعرضت لها هذه الفئة من الولاة، وخاصة ولاة آل العظم الذين أرادوا التحكم بشكل منفرد بمدينة دمشق، إلا أنهم ومع مجيء القرن التاسع عشر كانوا ما يزالون يحتفظون بامتيازات اقتصادية وعسكرية واسعة، كما أن التضامن الاجتماعي الواسع في أحيائهم، تحديداً حي الميدان، أعطاهم نوعاً من الحصانة ضد التغييرات التي لم تكن قد استطاعت الدخول إلى قلب المجتمع الدمشقي حتى تلك الفترة.
أما الفئة الثالثة فكانت الأشراف والعلماء، وكان هؤلاء يتمتعون بامتيازات قانونية في الإمبراطورية العثمانية، فقد كان الأشراف مثلاً يستطيعون تجنب المحاكمة أمام المحاكم واللجوء إلى التحكيم أمام نقيب الأشراف، فيما كان العلماء الدمشقيون قد استطاعوا انتزاع مركزين دينيين رئيسيين في المدينة من أصل ثلاثة، الأمر الذي منحهم سلطة ونفوذاً في نظام حكم يعطي رجال الدين مركزاً خاصاً في عملية صنع القرار، ضمن تقليد تطور منذ حكم المماليك، وبقي وأصبح أكثر تجذراً خلال العهد العثمانيلا يمكن القول إن العلاقة بين فئتي أغوات اليرلية والأشراف قائمة على تقسيم ثابت للمراتب، وفيما احتفظ الأغوات بنفوذهم الآتي من قواتهم شبه العسكرية التابعة لهم، الذي مكنهم من لعب دور أساسي في سياسة مدينة دمشق، كان الأشراف هم أكثر الفئات التي تمتلك نفوذاً اجتماعياً ضمن المدينة، وقد لعبوا أدوار هامة في الربط بين السلطات والمجتمع المحلي للمدينة..
الطبقة الأخيرة في المدينة كانت طبقة الحرفيين، وهؤلاء كانوا الطبقة الأوسع من الناحية السكانية، وقد تشكلت هذه الطبقة من ائتلاف آلاف الحرفيين والعمّال المهرة في مدينة دمشق، الذين توزعوا على مهن عديدة مثل الحياكة وتصنيع الأقمشة، أو الحرف التي تُعنى بتصنيع أدوات العمل الزراعي أو الأدوات المنزلية، وقد شكّلَ التضامنُ بين أبناء الحرف وبين عوائل الأشراف والطرق الصوفية تحالفاً أمَّنَ لهذه الفئة الواسعة قدرةً على حماية نفسها ومنفذاً للتواصل مع السلطات عبر الأشراف. وفي حين سيطر الأشراف، وبالتحديد عائلة العجلاني، على منصب شيخ مشايخ الحرف، كانت كل حرفة تستطيع انتخاب شيخها الخاص الذي يقره شيخ المشايخ والقاضي بشكل شبه تلقائي، وقد وفَّرَ هذا النظام الهرمي للحرف تنظيماً احتاجه سوق واسع نسبياً في مدينة دمشق بالقياس إلى معايير ذلك الوقت، كما أنه وفّرَ استقراراً في حجم اليد العاملة ضمن هذه الفئة، وقد سكن أبناء هذه الفئة في الأحياء داخل السور بشكل رئيسي، مثل حي العمارة.
الثورة
نهاية العقد الثالث من القرن التاسع عشر، أقرّ السلطان محمود الثاني جملة من الإصلاحات الحكومية، كان من بينها فرض ضريبة على الأملاك التجارية، وعند وصول الأوامر بفرض الضريبة التي سميت «الصليان» إلى والي دمشق عبد الرؤوف باشا، قام الأخير كما جرت العادة بإعلان القانون الجديد على الناس عبر المنادي الخاص الذي يدور بين الحارات، إلا أن الخبر الذي وقع بشكل صادم على السكان وبالذات الحرفيين، دفعهم إلى إعلان رفضهم للقرار عبر ضرب المنادي كما تذكر المذكرات التاريخيةاعتمدت أغلب الدراسات التاريخية التي تطرقت إلى ثورة 1831 في دمشق على مخطوط واحد بشكل رئيسي، ويشكّل هذا المخطوط الذي يصف يوميات مدينة دمشق منذ ما قبل ثورة دمشق إلى وقت خروج قوات إبراهيم باشا من بلاد الشام عام 1841، الوثيقة الأهم عن تلك المرحلة من تاريخ دمشق، ويوجد هذا المخطوط مجهولُ المؤلف في مكتبة برلين، وقد أخذت عنه الجامعة الأمريكية في بيروت نسخة، حققها الخوري قسطنطين باشا المخلصي ونشرها، ليعود المحامي أحمد سبانو ويحقق هذا الكتاب من جديد اعتماداً على طبعة قسطنطين وينشرها في كتاب بعنوان: مذكرات تاريخية عن حملة إبراهيم باشا على سوريا، صادر عن دار قتيبة في دمشق عام 1990، وقد اعتمدتُ على هذه الطبعة في بحثي..
على إثر هذه الحادثة أرسل «الكتخدا»الكتخدا هي وظيفة في العهد العثماني تقابل وظيفة أمين السر في الوقت الحالي، وكان الكتخدا عثمان هو أمين سرّ الوالي في ذلك الوقت. عثمان باشا جنوداً لمواجهة الناس المتجمهرين في حي العمارة، ووقع صدام قُتِلَ على إثره عدد من سكان العمارة على يد الجنود «المواصلة والكراكتة»ستعان الولاة في دمشق ومنذ القرن الثامن عشر بجنود مأجورين من مدينتي الموصل وكركوك لفرض نفوذهم في مدينة دمشق، خاصةً أن قوات الإنكشارية المحلية كانت تمتلك أجنداتها الخاصة.، مما دفع الأهالي إلى حمل السلاح، وقام أغوات عائلة شوملي الميدانية بقيادة مجموعاتهم المسلحة ومهاجمة منازل الجنود وقتلهم ونهب بيوتهم، الأمر الذي راع الوالي عبد الرؤوف فأصدر أمراً بإيقاف جباية الضريبة المسماة بـ «الصليان» لتهدئة السكان، إلا أن ملاحقة السكان للجنود «المواصلة والكراكتة» استمرّت بشكل متواصل مما دفع الوالي إلى إخراجهم من المدينة لتفادي ارتفاع الصدام، واعتُبِرَ هذا القرار نوعاً من الإذعان للسكان فهدأت الحال في المدينة، إلا أن الباب العالي قام بعزل الوالي نتيجة عدم تطبيقه للضريبة الجديدة.
وقبل وصول الوالي الجديد محمد سليم باشا إلى دمشق، عقدَ أغوات المدينة وأعيانها من التجار والعلماء والأشراف اجتماعاً في الربوة، ويضيف الإخباريّلا يتم ذكر اسم كاتب الوثيقة المسماة: مذكرات تاريخية عن حملة إبراهيم باشا في سوريا، وقد حاول المحققون، سواءً الخوري قسطنطين أو أحمد سبانو الوصول إلى شخصية كاتب هذه المذكرات، وفي ملحق بنهاية الكتاب يميل أحمد سبانو إلى فرضية تقول إن كاتب المذكرات هو عبد الله بن جرجس نوفل الطرابلسي، الذي عمل كاتباً في حكومة دمشق من عام 1821 إلى عام 1841. في المذكرات التاريخية أن عدداً كبيراً من سكان المدينة حضر هذا الاجتماع، ومن المرجَّح أنّ لحضورهم أثراً على القرار الذي خرج به، فقد تعاهد أغوات الإنكشارية وأعيان المدينة على التحالف ضد فرض الضريبة الجديدة، ويقول الإخباريّ عن هذا التحالف في الربوة: «وتحالفوا على الطلاق، ووضعوا أيدهم على السيف والمصحف بأنهم يكونوا رأياً واحدة وحالاً واحدة وكلمتهم واحدة، وصليان لا يمشوا ولو ذهبوا على آخرهم وانصرفوا على هذا الرأي»مذكرات تاريخية، مصدر سابق ص26..
وعند وصول الوالي الجديد، الذي سبقته سمعته كشخص عنيف إلى المدينة، اجتمع الرجل مع وجهائها، واتفق معهم على تمرير الضريبة، وقد وافقه هؤلاء الوجهاء بالكلام خوفاً منه كما يقول الإخباريّ في مذكراته، إلا أن الاتفاق كان ما زال سارياً، وعند بِدء موظفي الولاية بتسجيل الدكاكين في يوم الخميس الرابع من شهر أيلول 1831، استطاعوا إنجاز التسجيل في حيّ الميدان وحيّ القنوات، إلا أنهم عند وصولهم إلى حي العمارة في اليوم التالي اصطدموا بالسكان مباشرةً، الذين تسلحوا ولاحقوا العساكر المرافقين لموظفي الوالي الذين احتموا بجامع المعلق وخان الدالاتية ضمن الحيّ من نيران أبناء البلد.
وعند اشتعال الاشتباكات التحق أهالي حي العقيبة وأهالي الصالحية مباشرةً بأهالي العمارة لتدور المعارك هناك، فيما واجه «يرلية» الميدان وأهالي الشاغور قوة أرسلها الوالي لمؤازرة جنوده وهزموها وأرجعوها إلى منطقة الدرويشية بالقرب من السرايا.
واستمرت هذه الاشتباكات على مدار اليوم، وأهل مدينة دمشق مسلحون بأكملهم، وعندما عرف الوالي (يشير إليه الإخباريّ بلقب الوزير أو الباشا) بالأمر أرسل مباشرةً قراراً إلى أهل حيّ القنوات بتهدئة الأمور، ويبدو أن الوالي قد أراد تهدئة نخبة المدينة من الموظفين وقادة القوات شبه العسكرية الذين يسكنون في هذا الحيّ، وأمرَ هؤلاء سكانَ الحي بوقف القتال، ورفع المتاريس، إلا أن جنود الوالي قاموا بفتح ثغرة بين السرايا وأحد حارات القنوات وقاموا بالسيطرة على زقاق العدس وأعملوا النهب والقتل في الحي، مما دفع الأهالي المنكوبين إلى الاستعانة بأهالي الشاغور والميدان المسلحين وباقي أحياء المدينة كما يذكر الإخباريّ، وجرت معركة كبيرة في الحي بين قوات الوالي وأهالي البلد، كانت نتيجتها تراجع قوات الوالي إلى السرايا وخسارتهم.
وعلى الفور قام أهالي مدينة دمشق بمحاصرة السرايا الحكومي وحرقه لإخراج المحاصرين، إلا أن الوالي استطاع الهرب نحو القلعة مع عدد من مقربيه، وبدأ بقصف المدينة من المدافع المثبتة على سور المدينة مما تسبب بحرق عدة أسواق كانت بجوار القلعة منها سوق الأروام.
إلى هذه اللحظة أصبحت مدينة دمشق بيد أبنائها بشكل كامل، وقام أغوات الإنكشارية بقيادة المعركة في القلعة من أحد بيوت الأغوات، واستمرّ حصار القلعة لأكثر من خمسة عشر يوماً دون جدوى. وعلى الرغم من أن أبناء المدينة استطاعوا تفجير لغم صنعوه بجدار القلعة، إلا أن الحفرة التي خلفها لم تسمح لهم باقتحامها، ومع مطاولة الحصار، انتهت المؤن الموجودة في القلعة مما اضطر محمد سليم باشا المتحصّن فيها للتفاوض مع أغوات البلدمذكرات تاريخية، مصدر سابق ص30.، الذين كتبوا عهد أمان له ولحاشيته، وقاموا بنقله إلى بيت محمد باشا العظم، وفي اليوم الثالث نقلوه مع من قبضوا عليهم من خاصّته إلى بيت الكيلاني في العصرونية قرب القلعة، وفي الليل هجم الإنكشارية المحلية والمسلحون من الحرفيين وقتلوا موظفي الوالي وهاجموا الوالي وقتلوه أيضاً، ومن المتوقع أن لا يكون الحادث ناتجاً عن أوامر من زعمائهم، فالإخباريّ الذي سجّلَ هذه الأحداث، ويبدو واضحاً أنه كان من كتّاب الحكومة ومطلعاً على الأحداث من داخلها، لم يذكر ذلك أو يُشر إليه، ويرجّح أن الحرفيين المسلحين وعناصر الإنكشارية المحلية خشوا أن يتم اتفاق بين الوالي المأسور والأغوات ليتفادوا غضب السلطان العثماني، فقاموا بقتل الوالي وحاشيته، بعد أن كان أهل المدينة قد أخرجوا العساكر الباقين مع الوالي من المدينة، ورافقوهم حتى بلدة القصير شمالاً.
في هذا الوقت كان أعيان المدينة قد أرسلوا للسلطان العثماني معروضاً حاولوا فيه الحصول على السماح من الباب العالي وشرح الوضعنص الرسالة الوارد في المذكرات التاريخية ص 32: «أفندم سلطانم أنه دخل الوزير محمد سليم باشا إلى الشام فخضعنا له الخضوع التام وكتبنا له الصليان برضى جميع الحارات، إلا أن حارة اسمها العمارة سكانها فلاحين غشم حواوين ومن حيوانيتهم شونو ساعتين زمان فوصل خبر إلى الوزير فأرسل حالاً العساكر على البلد يقتلوا وينهبوا ويسبوا وأول من هجم العسكر على حارة يقال لها القنوات نهبوها وسبوا حريمها ودوروا الحريق بها، وهذه أول ما كتبت الصليان، وأرسل أمراً إلى القلعة يضربوا الطوب على البلد ومراده يخربوا البلد فقامت أهل البلد لأجل تحامي عن عرضها ودمها ودخلوا السرايا فحالاً حرق السرايا ودخل القلعة ورمى الكباير بالحريق على كل دائر القلعة على هلقدر أسواق ودكاكين وجوامع وبيوت وغالبها يخصوا الحرمين الشريفين خلاها كلها سمهدانة بالحريق ورمي الكلة لم عمال يفتر من القلعة لا ليل ولا نهار على البلد وما عمال يخلي أحداً يوعى على حاله. أفندم الشكوى إلى الله ولكم لأننا نحن عبيدكم ورعاياكم وخاضعين لركابكم وطايعين أوامركم نترجى من مراحمكم بإرسال سايس من بعض سياسكم لأجل أن يحكم فينا حكم المولى على العبيد».، وقد ركزوا على أن أهالي العمارة هم من بدأوا القتال إلا أن الوالي قام بقصف المدينة وحرق أسواقها، وعلى الرغم من غضب السلطان العثماني إلا أن اقتراب موسم الحج وخوفه من توقفه كما حدث في إحدى السنوات السابقة نتيجة تمرد السعوديين في نجد، دفعه إلى السماح عن أعيان البلد وإرسال متسلّم للمدينة معروف بشخصيته الضعيفة يسمى علو باشا، الذي وصل إلى المدينة وأقرَّ أعيانها على مجلسهم وانصرف حسب الإخباريّ إلى العبادة، فيما أدار أغوات الميدان وأشرافٌ وتجارٌ من المدينة شؤونها بشكل مستقل.
أثناء هذه الأحداث كانت جيوش إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا استطاعت السيطرة على عكا، ووجهت جزءاً من قواتها نحو دمشق، لتجري مناوشات صغيرة اقتنع بعدها أغوات المدينة عدم قدرتهم على مجابهة الجيش المصري حسب الإخباريّ، ليسيطر بعدها إبراهيم باشا على المدينة منهياً حكم المجلس المحلي، الذي لم يستطع الاستمرار سوى لفترة قصيرة في شهر حزيران عام 1832.مذكرات تاريخية، مصدر سابق ص 42.
النزعة المحلية في مدينة دمشق
باعتبار أن مصطلح «النزعة المحلية» قد يكون له عدة تعريفات متباعدة، منها النزوع نحو الاستقلالية، سيكون استخدامي للمصطلح وفق الفهم التالي؛ النزعة المحلية كما أقصدها هنا هي فهم المصالح المباشرة للمجتمع الضيق بناءً على الصدام مع ما هو خارجه، واعتبار أي مصلحة ذاتية لهذا المجتمع نقيضة لمصالح محيطه بناءً على تجارب تاريخية متراكمة تساعد على ترسيخ هذا الفهم، الأمر الذي ينتج عنه عدم القدرة على تمييز أفق أوسع من أفق المصالح الآنية المحققة للمحيط الضيق، ورفض أي تغيير.
قد يكون من المفهوم لماذا توجَّهَ حرفيو دمشق للتحالف مع إنكشارية الميدان على الرغم من التضاد في المصالح أغلب الأوقات، كون أغوات الميدان من مصلحتهم الحفاظ على أسعار مرتفعة للحبوب، في حين أن مثل هذا الوضع يؤذي وبشدة أوضاع الحرفيين، وربما كانت الظروف المحيطة بتلك الفترة ساهمت بمثل هذا التحالف في وجه السلطة المركزية العثمانية، فقد استطاع أغوات الميدان الاستفادة من تجارة الحبوب مع أوروبا بدعم من أحمد باشا الجزار والي عكا بداية القرن التاسع عشر، ولم تنقطع هذه التجارة طوال تلك الفترة مما أمّنَ حصول هؤلاء الأعيان والمحتكرين لتجارة حبوب حوران على عوائد عالية من هذه التجارة. بالمقابل فإن تجارة عصبة آل العظم التي استمرت بالتعامل مع وكلائها في حماة للحصول على الحبوب من سهلي حماة وحمص، أمّنت احتياجات المدينة بأسعار معقولة، الأمر الذي منع الصدام بين أغوات الميدان والحرفيين، في المقابل فإن مواجهة الضريبة الجديدة التي يريد الباب العالي فرضها على المدينة كان مصلحة مشتركة وحيوية بالنسبة للفئتين.
وتُظهِرُ أحداث ثورة المدينة عام 1831 تقدم السكان سواءً من الحرفيين أو اليرلية (الإنكشارية المحلية) على مواقف أعيانهم، ورفضهم أي حل وسط قد يفضي إلى ضرب مصالحهم الأمر الذي دفعهم إلى حضور اجتماع الربوة وفرض الاتفاق ربما، بالإضافة إلى قتلهم للوالي، كما إلى إشعالهم للنزاع المسلح عندما رفعوا السلاح في حي العمارة ضد موظفي الوالي.
إلا أن هذا الموقف الداعي عملياً للاستقلال عن توجهات المركز في إسطنبول، التي كانت تهدف إلى إدخال دمشق في السوق العالمية وإجراء إصلاحات اقتصادية تمسّ أنماط عيش هذه الفئات (اليرلية والحرفيين)، كان في الحقيقة مقيداً بظروف موضوعية لم يكن باستطاعة سكان دمشق تجاوزها، فحياة الحرفيين تقوم على استمرار نمط الإنتاج الإقطاعي التقليدي، في حين لم تكن الظروف الاقتصادية تسمح بتشكيل وفرة تساعد على تطوير أدوات الإنتاج تلك. أما الإنكشارية المحلية فكانوا يراقبون نهاية التنظيمات التي تسمح لهم في الوجود بعد مجزرة الإنكشارية التي قام بها السلطان محمود الثاني في إسطنبول قبل عدة سنوات، مما جعلهم يواجهون اللحظات الأخيرة من الظروف التي سمحت بوجود هذا التنظيم شبه العسكري، والذي قام خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر بعد استقرار عناصر الإنكشارية في المدن العثمانية.
وارتباط الفئتين السابقتين غير القابل للفكاك عن شكل الاقتصاد التقليدي، كان العاملَ الأهم في نهاية وجودهم السياسي في السنوات التالية من القرن التاسع عشر.
هذا السياق يحمل ظروفه التي تجعله مفهوماً وقابلاً للتفكيك عند قراءة تاريخ تلك الفترة، لكن الأثر الذي تركته تلك الأحداث، وتحوَّلَ النزعة المحلية من الدعوة إلى مزيد من الاستقلالية إلى دعوة نحو الانعزال في السنوات اللاحقة، كان السور الثاني الذي رُفِعَ أمام المجتمع المحلي في دمشق. وعلى الرغم من أن دارسي مجتمع المدينة في القرن التالي (القرن العشرين) قد استطاعوا تمييز النخب المحلية التي قادت نحو الاستقلال وإنشاء الدولة السورية، إلا أن مثل هذه النظرة قد تكون قاصرة عن فهم مجتمع المدينة ككل، فلا يبدو أن السور الآخر قد زال حتى الآن. أعني سور نزعة الانعزال، الذي رفعته حول المجتمع أو المجتمعات الدمشقية سلسلةٌ من الأحداث خلال القرن التاسع عشر، كان من أبرزها ثورة 1831 الفاشلة.
وقد يكون من المفيد مستقبلاً النظر إلى مسار تطور هذه النزعة في مجتمع مدينة دمشق عند الحديث عن تاريخه، لتفسير عدد كبير من الأحداث التي لا يفسرها النظر نحو النخب أو أعيان المدن القوميين.
تُسمّى أحد حارات حي العمارة بـ «بين السورين»، السور الأول هو سور مدينة دمشق الذي زالت معظم أجزائه الآن، أما السور الثاني فيبدو أنه كان في الحقيقة النزعة المحليّة التي ورثها جزء كبير من الدمشقيين عن أجدادهم الحِرَفيين واليرلية.