يبدأ الخوف في أعماقنا كائناً صغيراً وينمو مع الأيام المتتابعة، ومع سلاسل من أحداث يومية وتجارب إنسانية لا تشبه بعضها في صورتها الأولى، لكنها لا تنقطع عن كونها كلاً واحداً يكمل عمق الرؤية الكلية للحياة داخل أعماقنا.
هذا الشعور الغريب الفريد، الذي يدفع بنا إلى كثيرٍ من الأفعال والإحساسات المتناقضة، نختار معها أن نكتب قصة وقوعنا في الفضيلة أو في الخطيئة في سيرتنا الذاتية.
الخوف الذي يحبس أنفاسنا فنكفُّ عن المقاومة، ونختبرُ كيف يُضافُ الاستسلامُ إلى سِجِلِّ حياتنا كتجربةٍ شخصية، فنتجه إلى العزلة والحزن والهروب وكره الذات وضعف الثقة، والاكتئاب، وفي مراحل قصوى إلى الموت أو الانتحار. ولكن لا يقتصر الخوفُ على هذا الجانب القاتم في تأثيره على النفس البشرية، بل يتجاوزه إلى بعد آخر هو القدرة على التحفيز والدفع والانطلاق والإبداع في أعظم تأثيراته.
فما هو هذا الخوف المنغرز في نفوسنا منذ الأزل؟!
الخوف طفلاً
تقول «ح»: لا أذكرُ على وجهِ التحديد متى تنامى داخلي هذا الشيء الغريب، ومتى بدأ يحبو أولى خطواته داخل نفسي، لكني أكاد أجزم أنه كان متعلقاً بأشياء كثيرة من حولي، كالسكين لأنها تؤذي، والمدفأة لأنها تحرق، والزجاج حين ينكسر، وبالصور التخيُّليَّة عن أشياء أخرى غير حقيقية، كما عندما تبدأ الأمهات والآباء بالاستنجاد بـ «الوحش الخرافي» الذي تنسجه عقولهم، ليتخلصوا مؤقتاً من بكائنا اللحوح وطلباتنا التي لا تنتهي.
يكون الخوف بريئاً إلى هذه الدرجة، ولا يأخذ بعداً آخرَ مهما بلغت خطورته في أعماقنا الصغيرة، ودون أن نعلم حقّاً ما ستخبئه لنا الأيام لاحقاً من تجاربَ قاسية سيكون الخوفُ أحد أبرز أبطالها.
الخوف من الخطأ
المكواة
«ص»: هذه الصورة تكاد لا تفارق مخيلتي مهما مرت السنين، أبي واقفاً يغسل يديه وطفلةٌ ذات أعوامٍ ستة تقف إلى جانبه.
يقول الرجل محدّثاً نفسه: «كان لا بدَّ لهذا القميص أن يجفَّ اليوم، ما العملُ الآن؟».
تُفكِّرُ الطفلةُ لدقيقةٍ ثم تجيب متلعثمةً بالضحكة: «هههه خلينا هههه ننشفو هههه بالمكواية ههه»
ضحكتُها الخائفة الساخرة منقوشةٌ في ذاكرتي كوشمٍ لم يبدِّدْهُ الوقت.
يقول الرجلُ مستغرباً ومُصوِّباً عينيه الواثقتين نحوها، مُنبهاً إياها إلى وجوبِ الثقة في طرح الفكرة: «حسناً، تبدو لي فكرةً جيدة، لماذا تضحكين إذن عندما تقولينها؟».
يتوقف المشهد عند الرجل، وتغدو الطفلةُ فيه الآن وحيدة، تحيط بها بقعة ضوء غامرة، وعود ثقابٍ يضيءُ قلبَها مُفاجِئاً. كان ذاك أولَ درسٍ لي مع اكتشاف الخوف في داخلي، سأتذكره دائماً. لقد أحببتُه، وتعلّمت بعده أن أكتشف نفسي وأن أثق بها مهما بدت «لي» سخيفةً في أيِّ حين.
أنا طفلةٌ بستة أعوام… وخوف. بدأتُ أفكرُ أكثر.
الخوف من الفشل
لو لم يكن الأمر مُفزِعاً لما كنا لنستطيع النجاح، يحمي النقيضُ نقيضَه تارةً ويدمّرُه تارةً أخرى. ولا ينتهي الصراعُ بين النفس والخوف، وفي كل جولة عليها أن تغلِبَه فننجحُ نحن، وعليها أن تستسلم له لنفشلَ نحن. وهذا ما كان.
«ف» لم يكن ينوي أن يُكرِّسَ عمرَه للضياع، يحتسي قهوته الصباحية بعد ليلةٍ من الكوابيس المزعجة، ويقول: «لقد عشتُ خائفاً، تمكّنَ مني دائماً، ولكنني لست متأكداً تماماً إن كنت قد قاومتُه أم لا. غابت عني الرؤية الواضحة الآن. لم أعد أدرك على وجه الخصوص متى بدأت أنسى كيف مرّت السنوات كلها وأنا أقف في المكان ذاته مفزوعاً من أن أفعل شيئاً واحداً جيداً وجديداً، أن أبتعد عن كل ما قاله لي أبي وجدي ورفيقي يوماً، وأفعلَ ما كنت أرغبُ به على الدوام. ذهبت الأفكار التي لطالما تزاحمت في رأسي أدراجَ الريح. نعم استسلمت، وها أنا اليوم لا أملكُ شيئاً، ولا يحرك سيرَتي أيُّ أمل».
تمكّن الخوف من «ف»، واستطاع أن يحيل تجرِبَتَه إلى اللاشيء. يقبعُ «ف» في قلبِ الضياع، وفي قاعِ اللاجدوى.
لكنّ «ب»، اختارت أن تروي لنا قصةً مختلفةً كل الاختلاف:
«منذ أعوام، كنتُ قد اعتقدت أن حياتي تجري إلى ما قُدِّرَ لها، ولكنّ الأحلام في كل حينٍ دغدغَتْني، ومرت الأيام ولم يتغير شيءٌ إلا أنّ الأحلام ازدادت وأنا لم أفعل شيئاً في سبيل تحقيقها. بعد وقتٍ يسير، تمكَّن مني المرض وخضتُ تجربةً مُرّةً معه. كدتُ أفقدُ فيها حياتي، لكنها منحتني فرصةً أخرى، مرةً ثانية، وشفيت.
حينها أدركتُ كيف جعل مني الخوف شخصاً آخر، الخوف من الموت كان قاسياً، ولكنّ صورةً غريبةً عَبَرت حينها في رأسي، ورأيتُه يقف مبتسماً متربصاً. اكتشفتُ أنه عليَّ الآن أن أحمله _خوفي هذا_ فوق راحتيَّ، وأن أمضي به نحو الغد.
الفُرصُ لا تجيءُ كثيراً، وقد قررَتْ هذه الحياة أن تَخُصَّني أنا بفرصةٍ واحدة، فكيف لي أن أتركها!؟
قبلتُ بالصفقة، ولكن كان عليَّ أن أهدهدَ خوفي كل ليلةٍ لينام، كي لا أسمعَ بكاءَه في الظلام».
أصبح لـ «ب» ثلاثةُ مؤلفاتٍ عظيمة، وهي تدير عملاً جيداً. «ب» صنعَها الخوف، وهي اليوم حرّة، ولدَتْ ثلاثةَ مؤلفاتٍ من خوف.
الخوف من الفقد
أصعبُ أنواعِ الخوف…
تداهمنا الفكرة الحزينة المربكة رغم محاولاتنا لإبعادها عن مخيلتنا، لكنها تظهر مُباغِتةً مُعاندة. نتصور أنفسنا فاقدين من نحب، مبتعدين عنهم، والصورةُ تبدو مليئةً بالبؤس وموجعة.
يُهذِّبُ الحبُّ أرواحَنا فنغدو أجمل، نَحِنُّ ونَرِقُّ ونحلم. ولأنّ لا شيء يكتمل كما يجب، ولا تجري الريح بما تشتهي السفينة، على الخوف أن يأتيَ ليقُضَّ مضاجِعَنا. فنفزع.
أَتُراه عني سيغيب؟ أتراه غداً يموت؟
وندعو اللهَ في سرِّنا، ربي لا تُفقِدْني عزيزاً، ربي لا تختبرْني بالفقد. ربي خذني إليك قبلاً، ربي أَدِم لي هذا الحبَّ ما حييت.
قد أسمعتَ لو ناديتَ حيّاً، والخوف ليس حيَّا أبداً، لكنه في الوقت نفسه لا يموت، وستضيع كل صرخاتك ومحاولاتك لقتله ودفنه والتخلص منه.
سيعود دائماً إليك، دائماً سيعود.
«أ»: حين كانوا يسألون «ما نقطةُ ضعفك؟»، كان الأمر يبدو مُحيِّراً بالنسبة لي، فأبحثُ عنها كي أجدَها وأفكر، هل أخاف من الظلام؟ لا، فأنا أتأكدُ جيداً من ظلمةِ المكان حولي حين أنوي النوم، وأجلسُ كثيراً في غرفتي ليلاً على ضوء هاتفي. إنه ليس الظلام حتماً، ربما هذا ليس نقطة الضعف التي عنها يتحدثون. ممكنٌ جدّاً أن تكون شيئاً أو شخصاً أو فعلاً معيناً، ولكن لم أكن لأجد إجابةً رغم كل التساؤلات داخلي وكل الإجابات الخاطئة، فكنتُ أكتفي بأن ألوي شفتي وأرفع كتفيّ معبرةً عن عدم معرفتي بنقطة ضعفي.
إلى أن جاء هذا اليوم الذي فقدتُ فيه صديقاً قديماً. لم يكن بتلك الأهمية لي، لكني كنتُ قد اعتدتُ أن أراه كل يومٍ حين يلقي عليَّ التحية متوجهاً إلى عمله، ويحدث أن كنا نتكلم قليلاً عن بعض الأحوال في بعض المرات القليلة. لكنني لن أنسى مقدارَ الدموع التي ذرفتُها حين مات، شعرتُ بالضعف والخوف والعزلة، وبدأتُ أتذكر بأن هذا الشعور الخائف ينتابني دوماً عندما أفقد من هم حولي، ولستُ أتحدث عن الألم والوجع والبؤس، إنني حينها أشعر بالفزع والغربة والوحدة.
إنها نقطة ضعفي، عليَّ أن أعترف، أنا أتخيَّلُ فقط أنني أفقد أبي في بعض الأوقات، وصدّقني أنا حرفيّاً لا أنام في الليلة ذاتها أبداً.
الحرب والسلم
«لا هية المسافة
ولا هوي الوقت اللي وقّف الحكي
هية الحال… ولون هالأيام»
وأين نلقى معنىً أوضحَ للخوف، إلا ذاتَ حرب.
الأيامُ هنا لا تنقطع، وسأؤكدُ لك أنك لن تستطيع تمييزَها. إنها تتصلُ لتكون يوماً واحداً طويلاً لا ينتهي.
وذاتَ سلم، كانت عصافيرُ تزقزق ورائحةُ القهوة شهية، لكن السكري يرتفع في الجسم البشري إلى معدلاتٍ مذهلة، ولا يشتكي إلا عندما تُقَطَّعُ أوصاله وتحدث الكارثة.
«م»: السلام ها… شعورٌ جيدٌ صح؟
«س»: دع كل شيءٍ على ما هو عليه.
«م»: هل تخاف؟
«س»: لا… إنني أبلل سريري كل ليلة.
الحرب أشبهُ بترقّق العظم، تُهرِمُك الهشاشة، لا تحاول النهوض كي لا تنكسر عظمة، تحاول النهوض فتنكسر فيك عظمة، والأمر سيّان، في المرتين أنت والخوف رفيقان حميمان.
«م» مجدَّداً: ماذا عن الحرب؟
«س» مجدَّداً: لا أتحدثُ عن الحرب، إنني أراها.
«م»: هل تخاف؟
«س»: لا… إنني أنام تحت السرير الآن.
الخوف شابٌّ دائماً
وهو حرٌّ أيضاً، دائم الحركة، وله قدرةٌ عجيبةٌ على الحضور والغياب والتنقل بين الشخوص والتواجد في وقتٍ واحدٍ وبالزخم ذاته في كل الأجساد والأمكنة والأزمان.
والحقيقة لا تتماثلُ في القصة ذاتها، كلٌّ يرويها كما يرتئيها.
ويبقى الخوفُ هذا البطل، خوفٌ لا يخاف.
نهاية
الآن تكتبُ يدٌ خائفةٌ وقلبٌ مرتعد… إنجازيَ هذا.