الشرعيّة رأي، وقيمة، ولكنَّ السياسيّ الكلبيّ حقا يهزأ منها في أعماق نفسه
ريمون بولان
بحسب النظرية السياسية الليبرالية، تنفصل سلطة الدولة عن مفهوم المجتمع المدني – في مقابل المجتمع السياسي- حيث تنظر إلى المجتمع باعتباره قوة مناوئة للممارسات السلطوية، وبالتالي كرّست علاقة عكسية بين قوة الدولة والمجتمع. وهو ما رفضه ميشيل فوكو في تناوله الجينالوجيّ للمفهوم ضمن نظريته في السلطة-المعرفة، محاججاً بأن المجتمع المدني ليس له هذه الصفة الانفصالية المثالية عن سلطة الدولة، وأن كلا منهما –السلطة والمجتمع المدني- مُنتَج للممارسات السلطوية المنتشرة في الجسد الاجتماعي. لذلك، يعتبر فوكو المجتمع المدني موقعاً متميزاً لممارسة السلطة؛ وهو ما يعبّر عنه أشيل مبيمبي بـ «زراعة القابليات المدنية للسلطوية» كتآلف الجماهير مع الممارسات الانضباطية التي تتسرب إلى نسيجهم المجتمعي باستمرار. كان غرامشي قد صكّ أيضاً مفهوم «الثورة السلبية» للتعبير عن إعادة التنظيم المستمرّ لسلطة الدولة وعلاقتها بالمجتمع للاحتفاظ بالتحكم والهيمنة في أيدي القلّة على حساب الكثرة، على الرغم من انتقاد فوكو للتصور الماركسي للسلطة.
في ذروة الحالة الاستبدادية تبرز دائماً مسألة الشرعية باعتبارها علاقة تشابكية بين السلطة السياسية والمجتمع المدني، وهو السياق الأمثل لاختبار مفهوم الشرعية باعتباره أحد تشكّلات الراهن والسيرورة السياسية، بحيث يجب النظر إليه في شرطه التاريخي بمعنى مزدوج؛ كونه يقدّم تفسيراً للحظة تاريخية ما ينتُج هو عنها أيضاً.
وباعتباره مفهوماً جدُّ معقد قوامه عناصر متنافرة ولكنها بالضرورة ملتئمة، لا باعتباره مُعطى دوغمائي جاهز يُستخدم كانطلاقة معيارية لتقييم فعالية السلطة السياسية.
وبعيداً عن المقاربات التقليدية التي تقيم تعارضاً بين الشرعية والإكراه وممارسة القوة، أو تلك التي تُماهي بين الشرعية والقبول (أو المعقول) والتي تنظر إلى الشرعية باعتبارها علاقة عمودية بين الحاكم والمحكومين، تتبدى أهمية المنهج الجينالوجيّ الفوكويّ كأداة تحليلية لمقاربة «المفهوم المُمارَس» في الكشف عن التقلبات المستمرة في ممارسات السلطة كما يتجلى في خطابها وممارساتها الفعلية. عند هذه النقطة، نتجاوز السؤال التقليدي المتعلق بشرعية النظام من عدمه – وهي شرعية صوريّة في السياق الشمولي تقابل إلزاماً سياسياً صورياً أيضاً- إلى سبر طبيعة تلك الشرعية ذاتها وتشكّلاتها بحسب السياقات المحلية والدوليّة، كون الأمر لا يعدو تسويغ حالة سيطرة قائمة بالفعل، عندئذ، لا يمكن أن يظل شرعياً إلا السلطة الراهنة التي تحافظ على بقائها عن طريق مواصلة فرض «واقع الديمومة» بحسب ريمون بولان.
في السياقات الشمولية، تجتهد الأنظمة دائماً لابتكار أساليب فرض تلك السيطرة على المجتمع بالتزامن مع الإدعاءات المستمرة للشرعية، وكما لاحظت بياتريس هيبو في تناولها لمفهوم الشرعية في الحالات الاستبدادية، تحاول الأنظمة في فترات الاضطراب خلق وتصدير «حالة طبيعية» لأن الناس يبحثون عن حياة «طبيعية»، ويحتاجون إلى العيش «وفقاً» للقواعد المعترف بها للحياة في المجتمع، على الرغم من أن الانشغال بضمان حياة «طبيعية»، و«كريمة»، أو حتى «جيدة» للشعب هو أمر عادي ومعمّم بالنسبة للحكومات. لذلك تُعدّ «الحالة الطبيعية» من بين الديناميات الأكثر أهمية للقبول، أو التكيّف مع أنماط حكم كهذه، بما يمنح أنظمة الحكم شرعية على نحو ما. على الرغم من أن الشرعية الممنوحة ليست كاملة على الدوام، ويرافقها بعض الاستياء، والقلق، والرفض الجزئي، والاتهامات، كونها تعكس، قبل كل شيء، إطلاق حكم نسبي ومتقطّع؛ لأن الأفراد لا يتسائلون باستمرار عمّا إذا كانت الدولة أو الحكومة شرعية، ولأن القواعد التي يقيّمون من خلالها الحال الطبيعية يمكن أن تكون متعدّدة وترجع إلى تراتبية قيم مختلفة، بل وحتى متناقضة.
رصدت هيبو كلاً من الاتحاد السوفيتي وتركيا الحزب الواحد، من بين نماذج شمولية أخرى، حيث تبيّنُ ديناميات التبادل بين «السلطة» و«المجتمع» أهمية الرفاه الاقتصادي في الرضا عن الحكم؛ فقد يسمح النمو والتنمية والنجاح الاقتصادي بتحمّل غياب الحرية وانتهاكات أكثر الحقوق أوّلية. وفي ألمانيا، أمَّنَ النظام النازي في فترة ما بعد الانهيار الكبير – حيث كان الحصول على عمل وعلى أجر مضمون، ولو على حساب خفض الراتب وزيادة في ساعات العمل، مسألة ذات أولوية بالنسبة إلى غالبية الناس – مستوى معين من العيش وتوفير السلع ووقاية الشعب من الآثار المدمرة للتضخم. هكذا كانت تتحقّق شرعية الحكم بالمشاركة في اقتصاده السياسي. بالطبع، لم تكن هذه «المشاركة» تعبّر عن تحوّل أيديولوجي، ولكن بالأحرى عن الأمل في حصول الاكتفاء من الحاجات «العادية» وتلبية الرغبات «الطبيعية».
في السياق العربي، يبرز على نحو فجّ نظامان يتمثلان نموذج «الحالة الطبيعية» في توظيف مجالات الشأن اليومي، عن طريق سلطة التطبيع كأحد تقنيات الحكم والسيطرة، للتدليل على شرعيتهما: نموذج النظام السوريّ، ونموذج النظام المصريّ.
مؤخراً، ظهر بشّار الأسد في مقطع بإخراج استخباراتيّ لا بأس به وهو يقود سيارته نحو الغوطة «المُحرَّرة» من أيدي «المسلحين/الإرهابيين» في طريق تمرّ بجواره السيارات و«مواطنون» يستقلون دراجات بخاريّة وآخرون مترجلون في مشهد يبدو وكأنه معتاد. وفي حديثه الذي يختصر تصوّراته عن الشرعية والحالة الطبيعية، اعتبر الأسد أن «الإرهابيين غير موجودين لإنهم مجرد أدوات في أيدي الدول المنخرطة تماماً في الحرب على سوريا، وأن الورقة الأساسية دائماً هي الورقة الشعبية، وإذا لم توجد ورقة شعبية لن توجد (شرعية) لأي طرح أو لأي عمل، والناس دائما يريدون الدولة لأنها بشكل (طبيعي) هي الأم والأب لكل الناس، وهي الجانب (الشرعي) في أي عمل سياسي أو عسكري. وأن الجيش العربي السوري هو الذي صنع تاريخ سوريا منذ الاستقلال إلى اليوم. والمؤلم في كل هذا هم الذين أُجبروا على ترك مساكنهم بسبب الإرهابيين، وتقوم الدولة بتأمين المساعدات يومياً لهؤلاء كما ستقوم بتأمين أماكن للمعيشة لهم».
هكذا، يحرص الأسد هنا على محاكاة يوميات الحياة «الطبيعية» بحيث تُعبِّر شرعيته عن نفسها من خلال إرادة إشباع الحاجات الحيوية «للورقة الشعبية» التي تمنحه الشرعية كما يزعم. وهو الخطاب الذي يسمح له بمُمَاهاة الدولة والشرعية والإرث البعثي الخطابي المستخدم دائماً في شرعنة النظام. وفي الوقت الذي يتجنب فيه الأسد استخدام لغة الخطاب السياسي للتعبير عن الأزمة السورية، وهي أزمة سياسية قبل كل شيء يراها الأسد مؤامرة على سوريا، يركز الحديث على مقومات الحالة الطبيعية. بحيث يتجاهل وجود أي معارضة له على الأرض ويعتبرها «غير موجودة» ويرى المأساة تتجسد فيمن تركوا منازلهم -وهي الحالة غير الطبيعية- ويعدهم بتوفير أماكن معيشة لهم للانتقال بهم إلى الحالة الطبيعية. لا يتحدث الأسد عن المجازر التي تُرتكب كل يوم في الغوطة وأنحاء سوريا ولا عن الضحايا، وإنما يرغب فقط في إشباع الحاجات الطبيعية لتلك الذوات المُسيَّسة. وبحسب أوروا سوتيمانو، يمكن فهم تلك المرونة السلطوية وديناميكيات التعبئة في سوريا، من خلال النظر في «زراعة القابليات المدنية للسلطوية» التي صاحبت تشكّل الحياة السياسية السوريّة. واعتياد الناس على الممارسات الانضباطية التي تسربت إلى نسيجهم المجتمعي -بدلاً من الإيمان بسردية النظام أو بأي شرعية قانونية أو أخلاقية للسلطات- وهي إحدى الآليات المهمة التي تؤمّن للسلطة الامتثال.
ومع تحول سوريا إلى دولة فاشلة، لا يمكن فهم مسألة الشرعية إلا من منظور مدى قدرة الفاعلين على تأمين الحالة الطبيعية في نطاق نفوذهم المتغيّر يوماً بعد يوم.
في السياق المصريّ، اتخذ نموذج الحالة الطبيعية منحى آخر، فمن نافل القول ذكرُ مدى تهالك حالة البنية التحتية والمرافق التشغيلية في مصر بشكل عام، وهي الفرصة التي اقتنصها النظام المصريّ الحالي ليُظهر حرصاً شديداً على إنجاز مشاريع البنية التحتية وتشييد الطرق والكباري على نحو خاص، وتصديرها على أنها «الإنجازات» الأكثر أهمية على الصعيد التنمويّ.
فضلاً عن المنافع الاقتصادية التي تحققها المؤسسة العسكرية من الإشراف على وتنفيذ مشاريع الطرق والبنية التحتية، تكمن أهمية تلك المشاريع في كونها عصب الحياة اليومية والعامل الأهم في الارتقاء بالظروف المعيشية وجذب الاستثمارت وهو ما ينعكس بشكل مباشر على سير الحياة اليومية للمواطنين بشكل طبيعي. وفي ظلّ انغلاق المجال العام وحالة القمع السائدة والضغط على المجتمع المدني وتردي الحالة الاقتصادية بشكل عام، بالإضافة إلى التحديات الأمنية الكبيرة، تُشكّل تلك الإجراءات التنمويّة ممارسة مباشرة للسلطة والسيطرة تكسوها الآلة الإعلامية الضخمة بديباجة الشرعية المكتسبة، وهو ما يمكن أن نلمسه في الاستحقاق الانتخابي العبثي الفائت تحت شعار استكمال مسيرة «الإنجازات والحرب على الإرهاب».
على المستوى الخطابي، لا يكّف النظام المصري عن وضع تلك الحالة من «الإنجازات والاستقرار» في مقارنة مباشرة مع نماذج إقليمية أخرى –سوريا والعراق وليبيا- في سياق شرعنة النظام القائم. تلاحظ هيبو في رصدها لعمليات شرعنة الأنظمة الشمولية ما يلي: كان الانتقاد السياسي مستحيلاً باسم الحالة الاقتصادية والمادية التي كانت أفضل بكثير من حالة البلدان المشابهة والمجاورة. كانت هذه الحجة تشكّل بالطبع ورقة رابحة، وتكتيكاً يُستفاد منه للسيطرة. لكن، أبعد من ذلك، كان جزءٌ كبيرٌ من الشعب – أو لنقل بأكمله تقريباً – يجترّ هذه الحجة تحديداً لأنه كان يترجم هاجساً حقيقياً، هاجساً شرعياً، للعيش «جيداً» و«طبيعياً»، أو أقلّه للعيش «بكرامة»؛ ولأن تقويم «الجيد»، و«الطبيعي»، و«الحسن»، و«اللائق» كان يتم بالرجوع إلى «الآخرين»، وبالمقارنة مع الجيران أو حالات تُعتبَر مماثلة. وهذا ما يُظهِرُ البعد الدولي والمقارَن لناقلات الشرعية: تعريف الطبيعي والمرغوب فيه، والتوقّعات والآفاق، لا يتأثر بالسياق التاريخي والمسار الوطني، وبالتموضع الاجتماعي، أو الاقتصادي أو المهني للأفراد أو الجماعات، وبأنماط الدعم وأسلوبه فحسب؛ إنه يتحدّد أيضاً بإدماج المجتمع موضوع التحليل في فضاءٍ إقليمي.
وأخيراً، مثلما أخبرنا ماكس فيبر أنّ «كل علاقة سيطرة حقيقية تتضمن حدّاً أدنى من إرداة الامتثال»، يُعلّمنا فوكو أنّه «حيثما توجد سلطة، توجد مقاومة» وأنّه بإمكاننا دائماً الإفلات من ممارسات التذويت والامتثال التي تمارسها السلطة، بخلق ذاتية جديدة فاعلة عسى أن نشهدها يوماً ما في الفضاء العربي التَعِس.