دخلت الطائرات الحربية الروسية بقوة على مسار العمليات العسكرية في محافظة درعا مساء السبت الثالث والعشرين من حزيران الجاري، عندما نفذت غارات جوية متتالية على مدينة بصر الحرير في ريف درعا الشرقي، وكان دخولها هذا إيذاناً بمرحلة جديدة من التصعيد التي كان النظام قد بدأه منذ التاسع عشر من الشهر الجاري نفسه، كما أنه تزامنَ مع نشر فصائل المعارضة المسلحة في درعا رسالة وجهتها الولايات المتحدة لهم، تقول فيها إنه ليس عليهم أن يراهنوا على تدخل عسكري أميركي لصالحهم في الحرب، وإن عليهم أن يختاروا كيفية مواجهة هجمات النظام بأنفسهم.
وكما هو حال جميع ما يدور في غرف مغلقة حول مصير السوريين، فإن مضامين المحادثات الطويلة المتعلقة بمصير الجنوب السوري لا تزال غامضة، لكن ثمة عناصر أساسية ينبغي أخذها بعين الاعتبار عند التفكير في هذه المفاوضات ومضامينها: أولها المصالح الإٍسرائيلية والأميركية التي تقضي بعدم وجود قوات تابعة لإيران قرب الجولان السوري المحتلّ، وبتقويض وجود إيران المباشر في سوريا عموماً؛ وثانيها المصالح الأردنية التي تقضي بعدم حدوث معارك أو مذابح واسعة على الحدود بما يهدد الأمن الأردني؛ وثالثها مصير معبر نصيب الحدودي مع الأردن، وضرورة إعادة فتحه أمام الحركة التجارية، وهو ما يعني ضرورة انتزاعه من يد الفصائل، أو إيجاد بدائل عنه عبر محافظة السويداء مثلاً، الأمر الذي يقتضي بدوره سيطرة النظام على منطقة اللجاة المتاخمة للسويداء شمال شرق محافظة درعا؛ ورابعها حضور داعش المستمر في حوض اليرموك جنوب غرب درعا، وفي بادية السويداء الشمالية، وهو ما يشكل عامل ضغط يمكن أن تستخدمه الأطراف ضد بعضها بعضاً؛ وثمة عنصر خامسٌ يتعلق بسياسة النظام ومن خلفه روسيا، التي لا تزال ترتكز على أن استعادة النظام لسيطرته على جميع مناطق البلاد، سواء عبر الحرب أو عبر «المصالحات»، هي استراتيجية لا مجال للتراجع عنها، ولا علاقة لها بمسار التفاوض السياسي.
في هذا السياق، يمكن أن يتم تفسير الدخول الروسي على خط المعركة، والتراجع الأميركي عن تصريحات سابقة هددت النظام باتخاذ إجراءات حاسمة في حال استمرار خرقه لاتفاق الجنوب السوري، بأن إسرائيل والولايات المتحدة قد حصلتا على ضمانات بعدم حضور إيران بشكل مباشر في المعركة، وبأن الأردن قد تلقى بدوره ضمانات بأن المعارك هناك لن تؤثر في أمن المملكة، كما يمكن تفسيره بأن الفصائل ترفض حتى الآن تسليم معبر نصيب للنظام، وترفض الدخول في مصالحات وفق الشروط التي يريدها النظام.
على الرغم من الأنباء التي تحدثت سابقاً عن انسحاب ميليشيات تابعة لإيران من مواقعها في محافظة درعا، فإنه ليس مؤكداً أن إيران خارج هذه المعركة كما كانت تشترط إسرائيل، لكن المؤكد أن روسيا تفضّل دخول المعركة بالاعتماد على جيش النظام والميلشيات السورية التابعة له بشكل رئيسي، وهو ما يمكن استنتاجه من مجمل سلوك روسيا والنظام في الأيام الماضية حيال محافظة السويداء المتاخمة لدرعا، والذي يبدو أنه يهدف إلى زجّ أبناء السويداء ذات الغالبية الدرزية إلى جانب النظام في المعركة.
في محافظة السويداء آلافُ المطلوبين للالتحاق بالخدمة في جيش النظام، وتتحدث بعض التقديرات عن أن عددهم ربما يقارب نحو أربعين ألف شاب، وثمة أنباء تقول إن هناك ضغطاً روسياً على حركة رجال الكرامة ووجهاء السويداء، بهدف إجبار حركة رجال الكرامة على الكفّ عن عرقلة عمليات النظام انطلاقاً من محافظة السويداء، بعد أن كانت قوة تابعة للحركة قد منعت تمركز رتل لقوات النظام في قرية المزرعة الأسبوع الماضي، وعلى الكفّ أيضاً عن حماية المطلوبين للالتحاق بجيش النظام، وتحدثت أنباء عن أن مندوبي روسيا قدد هددوا بأنهم سيعتبرون حركة رجال الكرامة تنظيماً إرهابياً، وهو ما يبدو أنه دفع الحركة إلى إصدار بيان رفضت فيه زج أبناء السويداء في المعركة، وتعهدت بالدفاع عن الجبل، مؤكدة أنها تقف على الحياد في المعركة.
أما على صعيد موقف فصائل المعارضة في الجنوب السوري، فيبدو أنها ترفض حتى اللحظة شروط المصالحة المعروضة عليها، وهو ما يشير إليه الإعلان يوم أمس الرابع والعشرين من حزيران عن تأسيس غرفة عمليات مركزية تشمل جميع فصائل درعا والقنيطرة، وقد تضمن هذا البيان التأكيد على عزم الفصائل التصدي لهجمات النظام، ونيتها خوض المعركة حتى النهاية.
ميدانياً تتواصل أعمال القصف المدفعي والصاروخي على مناطق شمال شرق درعا، في اللجاة على وجه الخصوص، وتتواصل الغارات الروسية على عدة مناطق أبرزها بصر الحرير، التي ستؤدي سيطرة قوات النظام عليها في حال حدوثها إلى عزل اللجاة عن بقية مناطق ريف درعا الشرقي. وقد شملت أعمال القصف البري والجوي قرى وبلدات جدل والمسيكة وسائر مناطق وقرى اللجاة، بالإضافة إلى بصر الحرير والمسيفرة والحراك والكرك الشرقي والغارية الغربية والنعيمة والصورة بشكل رئيسي، كما تعرضت مناطق في ريف السويداء إلى أعمال قصف محدود، شملت سقوط قذائف كاتيوشا على مدينة السويداء نفسها، دون أن تسفر عن ضحايا.
أما برياً، فقد نجحت قوات النظام في التقدم على عدة محاور في اللجاة، وأعلنت سيطرتها على قرية جدل فيها، لتعود فصائل المعارضة وتعلن استعادتها السيطرة عليها مساء أمس، ولا تزال الاشتباكات متفاوتة العنف مستمرة على عدة جبهات في شمال شرق محافظة درعا، ذلك بالإضافة إلى اشتباكات وأعمال قصف مدفعي وصاروخي متبادلة في أحياء مدينة درعا نفسها، التي تقتسم الفصائل وقوات النظام السيطرة عليها.
وتعدّ جبهة اللجاة، التي اختارت قوات النظام أن تبدأ محاولات تقدمها البري منها، أكثر الجبهات صعوبة في درعا، وذلك بسبب وعورتها الشديدة وطبيعة أرضها الصخرية المليئة بالمغاور، وبسبب موقعها المتاخم للسويداء من جهة ولمحافظة ريف دمشق من جهة أخرى، وربما يكون هذا هو السبب الذي دفع قوات النظام إلى البدء منها، لأنه في حال نجحت في السيطرة عليها، فإنها ستكون قد وجهت ضربة معنوية كبيرة لقوى المعارضة في الجنوب، ونجحت في تأمين طرقاتها بين دمشق والسويداء ثم الحدود الأردنية.
أسفر التصعيد العسكري المستمر عن استشهاد أكثر من عشرين مدنياً وإصابة العشرات حتى الآن، كما أنه أدى إلى نزوح عشرات آلاف المدنيين، متجهين صوب جنوب وغرب محافظة درعا، وعلى وجه الخصوص المناطق القريبة من الحدود الأردنية، حتى أصبحت بعض القرى والبلدات خالية تقريباً من سكانها، وعلى وجه الخصوص قرى وبلدات اللجاة وبصر الحرير والحراك. ذلك بالإضافة إلى نزوح عدد من سكان قرى السويداء القريبة من خطوط الاشتباك، من بينها قرية صما الهنيدات التي فرغت من سكانها تماماً.
ينذر استمرار القصف والمعارك باحتمال حدوث كارثة إنسانية جديدة في سوريا، بدأت ملامحها تظهر من خلال الأوضاع الإنسانية السيئة للنازحين من مناطق المعارك، ويشير استمرار النظام في حشد قواته على جبهات عديدة، من بينها الجبهة المعروفة بمثلث الموت شمال غرب درعا، إلى احتمال اتساع رقعة المواجهة، التي يستمر الحديث عن جهود دبلوماسية لاحتوائها، وهي الجهود التي سيعني فشلها أن أبناء درعا قد يكونون على موعد مع أيام دامية، فيما يبدو واضحاً أن شهية النظام وروسيا لا تزال مفتوحة لارتكاب المزيد من المذابح وأعمال الإبادة.