استطاع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الفوز بولاية رئاسية جديدة، هي الأولى بعد تحوّل نظام الحكم في تركيا إلى النظام الرئاسي عقب تعديلات دستورية مرّت باستفتاء العام الماضي، كما استطاع تحالف حزب العدالة والتنمية الحاكم مع حزب الحركة القومية، المسمّى «تحالف الشعب»، الحصول على أكثر من نصف مقاعد البرلمان. وبانتظار الإعلان عن النتائج الرسمية والنهائية خلال الأيام القادمة، التي لن تختلف كثيراً عن النتائج الرسمية غير النهائية التي أعلنتها اللجنة العليا للانتخابات قبل يومين، تستعد تركيا للدخول في مرحلة جديدة عنوانها الأبرز هيمنة مؤسسة الرئاسة على معظم مفاصل السلطة في البلاد.
وكان البرلمان التركي قد وافق في أواسط نيسان الماضي على إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة قبل موعدها الدستوري بنحو عام ونصف، في خطوة مفاجأة جاءت بعد أن نفى مسؤولون أتراك، من بينهم أردوغان نفسه، مراراً الشائعات التي كانت تتحدث عن إجراء انتخابات مبكرة. وتعدُّ هذه الانتخابات مفصلية في تاريخ تركيا لأن اكتمال التحول نحو النظام الرئاسي، أي تركيز السلطات في يد رئيس الجمهورية، مرهونٌ دستورياً بإجراء هذه الانتخابات، وهكذا بدا الإعلان عن الانتخابات المبكرة خطوة احترازية من قبل الرئيس التركي وحلفائه في حزب الحركة القومية، تهدف إلى الإمساك بجميع مفاصل السلطة في البلاد سريعاً، في ظل احتمالات تراجع شعبية هذا التحالف جراء العمليات التي ينفذها الجيش التركي خارج البلاد في سوريا والعراق، وتراجع الأوضاع الاقتصادية وتدهور سعر صرف الليرة التركية، وأجواء القمع والاعتقالات التي تلت محاولة الانقلاب الفاشلة صيف 2016.
على الرغم من أن بعض استطلاعات الرأي التي سبقت يوم الانتخاب قد أشارت إلى احتمال فوز أردوغان من الجولة الأولى، وهو ما حدث فعلاً، إلا أنها كانت أقلّ دقة فيما يتعلق بالنسب التي حصلت عليها الأحزاب في البرلمان التركي، إذ حصل حزب الحركة القومية على ما يقارب 11 % من الأصوات حسب إعلان اللجنة العليا، وهو بذلك تجاوز لوحده، خلافاً لنتائج الاستطلاعات، عتبة العشرة بالمئة المفروضة دستورياً لدخول قائمة ما إلى البرلمان التركي، ما سيجعل موقعه في التحالف مع أردوغان وحزب العدالة والتنمية أكثر قوة وتأثيراً.
أما محرم إنجه، المرشح الرئاسي عن حزب الشعب الجمهوري، فقد حصل على نسبة أصوات في الانتخابات الرئاسية فاقت تلك التي حصل عليها حزبه في الانتخابات البرلمانية، في ظاهرة يبدو أنها ستلقي بظلالها على المرحلة المقبلة في السياسة التركية، خاصة أن إنجه قد حصل على أكثر من ثلاثين بالمئة من الأصوات، وهو ما يعني أن نحو 15 مليون مواطن تركي قد منحوه أصواتهم.
فيما شكلت النسب التي حصل عليها جناحا التيار القومي التركي، حزب الحركة القومية (MHP) والحزب الخيّر (iYi Parti)، والتي فاقت العشرين بالمئة، تغييراً جذرياً في التمثيل السياسي لهذا التيار، الذي كان إلى فترة قريبة غير قادر على تجاوز عتبة العشرة بالمئة إلا بصعوبة كبيرة. والحزب الخيّر هو انشقاق عن حزب الحركة القوميّة قادته ميرال أكشنر، جاء احتجاجاً على تحالف الحركة القومية مع حزب العدالة والتنمية الحاكم، ودخل الانتخابات في «تحالف الأمة» البرلماني إلى جانب حزب الشعب الجمهوري المعارض. وكانت أكشنر أحد المرشحين للرئاسة أيضاً، لكنها أحرزت نحو 7 % بالمئة من الأصوات فقط.
يرى الكاتب والمترجم بكر صدقي في حديثه مع الجمهورية حول الانتخابات أن «الرابح الأكبر بلا جدال، هو رجب طيب أردوغان، ويأتي بعده التيار القومي المتشدد، وخاصة حزب الحركة القومية بقيادة دولت بهجلي – الشريك الصغير في تحالف الشعب – وربما بالدرجة نفسها حزب الشعوب الديموقراطي، الذي حافظ على وجود نوابه في البرلمان بحصوله على أكثر من 10 % من الأصوات، وكان يُخشى عليه من عدم تجاوز هذه العتبة بسبب الظروف الجائرة التي خاض فيها الانتخابات، إذ يقبع جزء كبير من قيادته ونوّابه في السجون، بينهم صلاح الدين ديمرتاش، زعيم الحزب ومرشّحه للرئاسة».
الخاسر الأكبر من وجهة نظر صدقي هو «حزب العدالة والتنمية، الذي فقد الغالبية المطلقة، وبات أسير حليفه القومي. كذلك خسر حزب السعادة (إسلامي) قياساً على التوقعات السابقة، إذ توقع كثيرون أن يتمكن هذا الحزب الصغير من استقطاب كتلة من ناخبي العدالة والتنمية، لكنه فشل في ذلك. بالنتيجة فاز التطرف القومي، وخسر الإسلاميون. دون أن ننسى طبعاً الخسارة الكبيرة لحزب الشعب الجمهوري، في حين استطاع مرشحه لمنصب الرئاسة محرم إنجه تجاوز شعبية حزبه بثماني نقاط، وهذا إنجاز يُحسب له».
أما شناي أوزدن، الباحثة في علم الاجتماع من تركيا، فقد قالت للجمهورية إن «الرابح في هذه الانتخابات، بدون أي شكّ، هم القوميون المتشددون، الذين زادت نسبة الأصوات التي حصلوا عليها من 16 إلى 21.5%. لا تنخدعوا بفكرة أنهم منقسمون الى حزبين، أحدهما إلى جانب العدالة والتنمية (أي حزب الحركة القومية MHP) والآخر في المعارضة (الحزب الخيّر iYi Parti)، فالحزبان يضمران الكراهية لكل شخص لا ينتمي للعرق التركي. أخاف على السوريين الذين سيعيشون تأثير صعود هذا التيار، على الرغم من معرفتي أنهم مرتاحون الآن لنجاح العدالة والتنمية في الانتخابات».
عن حزب العدالة والتنمية، ترى أوزدن أنه «ثبّتَ أصواته، وأن سياسات أردوغان الإسلامية وصلت إلى أقصى حدّ لها، فلم تعد تجد أمامها سوى دعم القوميين المتشددين». وعن حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة، تقول أوزدن: «لقد أثبت الحزب لنفسه أنه لم يعد ذو فائدة، فعلى الرغم من الحملة الانتخابية الجيّدة لم يستطع زيادة نسبة التصويت له». وعن حزب الشعوب الديمقراطي قالت: «لقد ظهرت محدودية حجمه، وثبت أن إمكانية تأثيره أقل من المُتوقّع، ومن المؤكد أن الأيام القادمة ستكون أسوأ، وسنشهد ازدياداً في القمع والاعتقالات».
تقول أوزدن كذلك إن نتائج الانتخابات وازدياد أصوات القوميين المتشددين أمورٌ تُظهِرُ أن «الأمن القومي» و«بقاء الدولة» لا يزالان الهاجس الأكبر في تركيا، وهذا ما سينعكس على السياسة تجاه اللاجئين أكثر من ذي قبل، إذ سيُعتبَرُ السوريون من ضمن «التهديدات للأمن القومي»، مُتوقّعةً مزيداً من القيود على حقّ التنقّل للسوريين داخل تركيا، ومزيداً من نقاط التدقيق على الطرقات وفي المدن، وغيرها من السياسات المشابهة. وبالنظر الى ازدياد القيود على المجتمع المدني، «للأسف لن يكون هناك أي فرصة لتقديم تقارير عن خروقات حقوق الإنسان، وستستمر تركيا في كونها سجناً كبيراً للاجئين السوريين في الهواء الطلق».
الكاتب التركي زاهد غول، الذي تحدث للجمهورية أيضاً، يرى من جهته أن «الرابح الأكبر بطبيعة الحال هو السيد أردوغان، فيما حلّ حزب الحركة القومية، كرابح ثانٍ في هذه الانتخابات بعد أن تخطى كل التوقعات بحصوله على نسبة تجاوزت العشرة بالمئة». الرابح الثالث، وفق زاهد غول «هو السيد محرم إنجه، الذي استطاع أيضاً تخطي التوقعات والحصول على نسبة من الأصوات فاقت تلك التي حصل عليها حزبه (حزب الشعب الجمهوري، CHP) بنسبة أصوات تجاوزت الثلاثين بالمئة».
لم تأت الانتخابات التركية بمفاجآت كبرى، لكن أبرز ما فيها هو صعود التيار القومي المتشدد، وأنها جاءت تأكيداً على عدم قدرة حزب العدالة والتنمية على حكم البلاد وحده رغم تسخير وسائل الإعلام الرسمية لصالحه، فضلاً عن عشرات المؤسسات الإعلامية الخاصة، بالإضافة إلى حفاظ حزب الشعوب الديموقراطي ذي القواعد الكردية على مواقعه البرلمانية رغم حملات الاعتقال والترهيب التي تعرّضَ لها، وهو ما يعني أن مهمة أردوغان وحزبه لن تكون سهلة خلال السنوات القادمة.
سيعني اكتمال التحول الدستوري نحو النظام الرئاسي بعد هذه الانتخابات أن أردوغان قد نجح في الإمساك بمفاصل السلطة في البلاد، لكن هذا النجاح يواجه تحديات كبرى أبرزها ترميم شعبية حزب العدالة والتنمية المتراجعة، ووقف تدهور الأوضاع الاقتصادية، والمسألة الكردية المتفجرة داخلياً وخارجياً، وإدارة الملفات الإقليمية والدولية المتشابكة، وعلى وجه الخصوص العلاقة المتوترة مع دول الاتحاد الأوروبي، والتوازن القلق في العلاقة مع روسيا من جهة ومع الولايات المتحدة من جهة أخرى.