لم تكن حربٌ كبيرةٌ كهذه في حوران أمراً متوقعاً بالنسبة لكثيرين، فالحديث المستمر عن معركة وشيكة في درعا منذ أواسط شباط الماضي كان مبهماً، والضامنون الدوليون والإقليميون حرصوا طويلاً على إعطاء انطباع بأن مصير حوران سيكون مختلفاً عن غيره، وأن تسويات كبرى ستجنّبُ السهل الثائر حرب الإبادة والتهجير التي طالت غيره، لكن نظام الإبادة في دمشق لا يبدو قادراً على وقف حربه وممارسة السياسة، أي سياسة.

وردة الياسين التي كتبت للجمهورية عدة نصوص عن الأوضاع في درعا مؤخراً، لم تستطع هذه المرة أن تكتب، لأنها نزحت باتجاه الحدود الأردنية بعد أن بدأ كل شيء حولها يتحول إلى جحيم. ووردة الياسين هو اسم مستعار لصبية حورانية، كانت تأمل أن الأيام القادمة قد تحمل لها ولأبناء حوران حياة أفضل، لكن يبدو أن لـ «القوات الفضائية الروسية» رأياً آخر.

أتحدّثُ إلى وردة كتابة عبر تطبيق ماسنجر، وهي تقول إنها «حزينة جداً»، هذا ما بدأت به كلامها، الحديث عن الحزن، وليس الغضب أو الخوف أو أي شعور آخر. في اللحظة التي تمكنتُ فيها من التواصل معها، كان هناك خبر غير مؤكد يتم تداوله في صفوف النازحين حولها، يقول إن مدينة الحراك، أيقونة الثورة كما يسميها أبناء حواران، قد أصبحت في قبضة قوات النظام بعد مئات الغارات التي حولتها إلى ركام.

كانت وردة قد كتبت عن عودة الحياة إلى مدينة الحراك قبل بضعة أشهر، وفي مدينة الحراك كانت تقطنُ عندما بدأت هذه الحملة العسكرية. تقول إنها خرجت من الحراك مع معظم السكان عند تصاعد القصف عليها قبل نحو أسبوع، وإنها لم تكن تتوقع أن يكون حجم الحملة كبيراً إلى هذا الحد، بل كانت تعتقد مع معظم من خرجوا معها أن العودة قريبة. من الحراك إلى صيدا جنوباً كانت الوجهة، ويوم أمس خرجت وردة مع مجموعة أخرى من صيدا، بعد أن تحولت الحملة العسكرية إلى محرقة كبيرة جراء تدخل سلاح الجو الروسي، وبدأ الأفق يشتعل من كل الجهات.

تقول وردة إنها خرجت من صيدا خوفاً من القصف الشديد، وخوفاً من تقدم قوات النظام المحتمل، وإن الوجهة الوحيدة الممكنة كانت صوب الحدود الأردنية المغلقة بشكل كامل، لأن المسؤولين الأردنيين كانوا قد قالوا إن بلادهم لن تستقبل لاجئاً سورياً واحداً، وإنه إذا كانت الأمم المتحدة ترغب في إغاثة السوريين، فإن عليها أن تفعل ذلك على الأراضي السورية.

تتحدث وسائل إعلام النظام عن معابر مفتوحة للمدنيين إلى مناطق سيطرته، ويبدو أن هناك عائلات خرجت فعلاً من عدة مناطق عبر هذه المعابر، وتم نقلها مباشرة إلى مخيمات. تقول وردة إن هذا خيارٌ ممكنٌ بالنسبة لمن قد يكون متأكداً أنه ليس مطلوباً للنظام، وبالنسبة لمن ليس في عائلته مطلوبون بسبب نشاطهم المعارض أياً كان نوعه، لكنه ليس خياراً بالنسبة للباقين فيما يستمر النظام في قتل الناس تحت التعذيب، كما أن فكرة تجميع الخارجين قسراً في مخيمات كفيلةٌ لوحدها بجعل الخروج نحو معابر النظام خياراً مستبعداً بالنسبة لكثيرين.

وصلت وردة مع مرافقيها إلى منطقة قريبة من الحدود الأردنية، قرب بلدة نصيب في أقصى جنوب محافظة درعا. تصف وردة المكان الذي تقيم فيه الآن مع عدة عائلات: «بيتٌ صغير من البلوك، سقفه من الصفيح، مخصصٌ أصلاً لاستخدام أصحاب المزارع أثناء موسم قطاف الزيتون. تبلغ مساحته نحو أربعين متراً، وفيه حمام صغير، وأمامه بئر ماء».

هذا البيت الزراعي الصغير ليس الوحيد في المكان، بل حوله عدة بيوت مشابهة، كلها مليئة بالنازحين الآن. وهو يقع على تلة صغيرة تطلُّ شمالاً على الطريق الحربي، وجنوباً على سهول تخترقها الحدود الأردنية التي تليها مباشرة قرية جابر ثم مدينة المفرق. تقول إنها لا ترى شريطاً شائكاً بالعين المجردة من مكان تواجدها، لكن الجميع يعرفون أن الحدود القريبة مليئة بكاميرات المراقبة ونقاط الجيش الأردني، ولذلك فإن أحداً لا يفكر بالتوجه جنوباً. في تلك السهول يقع المعبر الذي استماتت قوات النظام لاستعادة السيطرة عليه العام الماضي دون جدوى، المعبر الذي يقال إنه أحد أبرز النقاط المستعصية في المفاوضات الغامضة حول مصير الجنوب.

الطريق الحربي القريب هو الطريق الوحيد الذي يصل بين ريف درعا الشرقي وريف درعا الغربي، كانت وردة قد كتبت عنه أيضاً، وهو شريان الحياة في ريف درعا الخارج عن سيطرة النظام، وتعبره الآن مئات السيارات التي تقلّ نازحين يتجهون من ريف درعا الشرقي نحو ريف درعا الغربي ثم القنيطرة.

يخطر في بالي أن شحن هاتفها الخلوي قد يفرغ، فأطلب منها أن نتوقف عن الحديث لأنها قد تحتاج ما بقي فيه من طاقة، لكنها تقول إن السكان النازحين قد أحضروا معهم بطاريات وألواح طاقة شمسية. الجميع في مكان تواجدها يتدبرون أنفسهم بإمكانياتهم الذاتية، لا منظمات إغاثة، ولا مساعدة تأتي من الجانب الآخر للحدود. لقد تقطعت السبل بآلاف النازحين على امتداد الحدود الأردنية.

من على تلك التلة، يشاهد النازحون بوضوح الطائرات الحربية والمروحيات أثناء ألقائها للصواريخ والبراميل، ويسمعون بوضوح أصوات الغارات والمعارك والقصف المتبادل، خاصة على جبهات مدينة درعا القريبة. تتصدى الفصائل للنظام هناك باستماتة، لأنه إذا نجح في التقدم هناك باتجاه الحدود الأردنية، فإنه سيكون قد عزل الريف الشرقي عن الغربي وقطع الطريق الحربي.

تقول وردة إنها ورفاقها يفكرون بالاتجاه نحو ريف درعا الغربي ثم ريف القنيطرة قرب الحدود مع الجولان لسوري المحتلّ، حيث اتجه آلاف النازحين لاعتقادهم أن الطائرات الحربية لن تقصف قريباً من جنود الاحتلال الإسرائيلي في منطقة فضّ الاشتباك المرعية أُممياً. بعد دقائق يأتي خبر يقول إن الطائرات الحربية قصفت قرية الرفيد قرب القنيطرة، فيتراجعون مؤقتاً عن فكرتهم، التي كانت قد خطرت لهم بعد أن تأكدوا أن السلطات الأردنية لن تفتح الحدود ولن تقدم أي مساعدة.

مساء أمس، أطلق ناشطون أردنيون حملة على وسائل التواصل الاجتماعي شعارها «افتحوا الحدود»، مطالبين حكومتهم باستقبال اللاجئين السوريين، لكن دون جدوى حتى الآن. بعدها تحدثت أنباء لا سبيل لدينا لمعرفة خفاياها عن مفاوضات وهدنة مدتها 12 ساعة، بدا واضحاً في ساعات الليل أن روسيا وحلفاءها لم يلتزموا بها، فيما قالت الأنباء نفسها إن روسيا ترفض أي شيء سوى استسلام أبناء حوران غير المشروط لقوات النظام.

يسأل المدنيون في درعا أسئلة كثيرة، ليست موجهة إلى النظام وروسيا طبعاً، بل إلى فصائل المعارضة المسلحة. أسئلة عن التعتيم الإعلامي على مجريات المعارك، وعن حقيقة الأوضاع والمفاوضات السرية التي خاضوها أو خاضها بعضهم، أو التي يخوضونها حتى الآن ربما، وعن تسويات محتملة لا يعرف المدنيون عنها شيئاً رغم أنهم سيدفعون ثمنها، أياً كان الثمن وأياً كانت هذه التسويات. تقول وردة إن هذا الغموض والتخبط هو ما يضع الفصائل في محلّ تساؤل، حتى أن كثيرين من أبناء حوران يعتقدون أن هناك سلاحاً ثقيلاً لم يخرج من مخازنه، وأن هناك اتفاقات وتفاهمات خلف بيانات الصمود والوعد بالنصر.

يقول ديمستورا ببرود إن سيناريو الغوطة على وشك أن يتكرر في درعا، ويأسف لأن ذلك قد يعرقل عمل لجنته الدستورية. تقول روسيا إنها لم تنسحب من اتفاق خفض التصعيد في الجنوب، فيما تمسح طائراتها الأحياء وتدمر المستشفيات. تقول الحكومة الأردنية إنها قامت بواجبها الإنساني على أتمّ وجه، وفي الوقت نفسه إنها لن تقدّم المساعدة لسوري واحد إضافي. هذا هو العالم الذي يواجهه أبناء سهل حوران اليوم، فيما يتمسك بعضهم بالأمل، «الأمل بأن في العمر بقية لرواية الحكاية»، هكذا ختمت وردة شهادتها من أقصى جنوب الجزء السوري من سهل حوران.