«قد يكون مُتاحاً تعداد سمات أنماط حياة الطبقات المُهيمَن عليها والتي تستبطن شيئاً من الاعتراف بالقيم السائدة، عبر الشعور بعدم الكفاءة أو الفشل أو الامتهان الثقافي. إنه غرامشي من قال إن العامل لديه جهوزيةٌ وملكاتٌ طبيعية ليكون مُنفِّذاً، جهوزيةٌ ينقلها إلى كل الميادين». (بيير بورديو، التمايز 1979، ص. 448).
«وكما حين أُسأل عن علاقتي بغرامشي الذي يجدون عنده الكثير مني، حتماً لأنهم قرؤوني، إلا أني لم أتمكن من اكتشاف هذه الأشياء لأنني لم أقرأها (الشيء الأكثر إثارة للاهتمام عند غرامشي والذي قرأتُهُ مؤخراً، هي تلك العناصر التي يُقدمها لعلمِ اجتماعِ رجلِ جهازِ الحزب ولحقلِ القادةِ الشيوعيين في عصره – كل هذا بعيداً عن إيديولوجيا «العضويّة» التي هو الأشهر فيها)» (بيير بورديو، أشياء مقولة، 1987، ص. 39).
«هذا سببٌ آخر لتأسيس تعاون كوني مُكرَّس للدفاع عن المصلحة العامة الصريحة. إنّ واحدة من العقبات الرئيسية هي (أو كانت) أسطورة «المثقف العضوي» العزيزة جداً على غرامشي. لأنه باختصارِ المثقفين في دور «رفقاء طريق» البروليتارية، فإن هذه الأسطورة تمنعهم من الدفاع عن مصالحهم الخاصة ومن استخدام أكثر وسائل كفاحهم فعالية باسم القضايا العالمية» (بيير بورديو، «التعاون الكوني»، مجلة تيلوس، خريف 1989، ص. 109، تُرجِمَ من قبلنا).
إذا كان ثمّة ماركسيٌ واحد ينبغي على بيير بورديو أن يأخذه بجدية، فهو بلا شك أنطونيو غرامشي. أفلا يجب على مُنظّر السلطة الرمزية أن ينخرط في نقاش مع مُنظّر الهيمنة؟ ومع ذلك لا يمكنني العثور سوى على بعض الإشارات المقتضبة لأعمال غرامشي في كتابات بورديو. في الإشارة الأولى المذكورة أعلاه، يشارك بورديو غرامشي تفكيره الخاص حول السلطة الثقافية. في الثانية، يستخدم غرامشي لتدعيم نظريته السياسية. ثم في الثالثة، يسخر من أفكار غرامشي حول المثقفين العضويين.
نظراً للاهتمام واسع النطاق بكتابات غرامشي في الستينيات والسبعينيات، تحديداً في الوقت الذي كان بورديو يقوم فيه بتطوير أفكاره حول السلطة الثقافية، فإن الافتراض الوحيد الموثوق به هو أن هذا الإغفال كان مقصوداً. تظهر حساسية بورديو تجاه الماركسية هنا في رفضه الأخذ بعين الاعتبار، ولو للحظة، أفكار الماركسيين الأقرب لفكره. فهو يعلن صراحة أنه لم يقرأ غرامشي أبداً، وأنه لو فعل ذلك، لكان قد وجّه له انتقادات واضحة لا لبس فيها. لكن ببساطة، كان غرامشي من بين جميع الماركسيين، الأقربَ إلى بورديو إلى درجة أربكته.
في الواقع إن أوجه التشابه بينهما جليّة. فقد رفض كلاهما قوانين التاريخ الماركسية، لصالح تطوير تصورات متقدمة حول صراع الطبقات، تلعب فيها الثقافة دوراً أساسياً، كما ركّزَ كل منهما على ما أطلق عليه غرامشي البنية الفوقية، وما أسماه بورديو حقول الهيمنة الثقافية. لقد وضع كلٌّ منهما جانباً التحليل الاقتصادي في حد ذاته لصالح التركيز على آثاره: الحدود والإمكانيات التي يخلقها من أجل التغيير الاجتماعي. كما قادتهما الأهمية التي أولياها للسيطرة الثقافية إلى دراسة المثقفين من وجهة نظر العلاقات الطبقية والسياسية. وسعى كلٌّ منهما لتجاوز ما اعتبراه تعارضاً زائفاً: الإرادوية مقابل الحتمية، والذاتوية مقابل الموضوعية. كما رفض الاثنان صراحةً الوضعية المادية والغائية، وأصرّا بدلاً من ذلك على أن النظرية والمنظرين هم في الواقع جزءٌ من العالم الذي يدرسانه.
إن كنّا نبحث عن أسباب لشرح هذا التقارب النظري الاستثنائي، فقد نجد في المقارنة بين سيرتهما الذاتية نقطة بداية جيدة. فمن بين كبار المنظرين الماركسيين، وحده غرامشي (كما بورديو) جاء من خلفية ريفية متواضعة. لقد واجه كلا الرجلين الشعور ذاته بالضيق داخل الإطار الجامعي، هذا ما ترجمه غرامشي بتركه للجامعة ليعيش حياة مُكرّسة للصحافة والسياسة، قبل أن تسجنه الدولة الفاشية بوحشية. في حين أن بورديو وجد لنفسه سريعاً موطئ قدم داخل العالم الأكاديمي، حتى بلغ ذروته بأن أصبح أستاذاً في الكوليج دو فرانس، ومن هناك سيغامر عدة مرات في دخول مُعترك الحياة السياسية. إضافة لأنه مع انتقالهما بعيداً عن العالم الريفي الذي وُلدا فيه، لن يقطع أيٍّ منهما الاتصال بهذا العالم، فالاثنان جعلا من تجربة المُهيمَن عليهم أو المرؤوسين انشغالاً مستمراً.
لكن اختلافاتهما الأساسية أكثر إثارة للاهتمام بسبب تشاركهما في مسارات اجتماعية متماثلة ومصالح نظرية مشتركة، ولذلك فإن هذه الاختلافات قد تبدو مرتبطة بقوة بسياقات تاريخية أو بحقول سياسية مختلفة جداً لعبا فيها دوراً. في نهاية المطاف، بقي غرامشي ماركسياً وناقش أسئلة تتعلق بالاشتراكية، التي كانت في عصر لا تزال تُشكّل فيه صلب الاهتمامات السياسية. بينما نأى بورديو بنفسه عن الماركسية، ممهداً بذلك لما سيصبح عالم ما بعد الاشتراكية. من شأن إجراء نقاش بين بورديو وغرامشي، مبني على اهتمامهما المشترك بالهيمنة الثقافية، أن يبدو بمثابة تعهد بتوضيح خلافاتهما السياسية. سأبدأ محادثة متخيّلة من هذا النوع من خلال استعادة تقاطع سيرتهما الذاتية مع التاريخ، ثم سأوسّعُ الخطوط المتوازية الموجودة في إطارهما المفاهيمي، بهدف دراسة اختلافاتهما وتعارضاتهما النظرية فيما يتعلق بالسيطرة الثقافية – الهيمنة مقابل العنف الرمزي – ومكانة المثقفين.
سيرتا حياة وممارسات متوازية
إن كان الأمر يتعلق بفهم الأنشطة السياسية للبشر، فإن مفهوم الهابيتوسيسمح مفهوم الهابيتوس عند بورديو بفهم الصفة التي يصبح الإنسان من خلالها كائناً اجتماعياً. ستتمّ ترجمته داخل هذا النص بالعادات أو المكتسبات أو التطبّع، أي الاستعدادات التي يكتسبها الفرد خلال عملية التنشئة الاجتماعية. (المترجمة) عند بورديو – الذي يشير إلى الميول المُدرجة والمُدمجة فينا والمكتسبة على مدار مسار الحياة – يدعونا لدراسة التقاطع بين السيرة الذاتية والتاريخ. تتلخص كلتا الحياتين السياسيتين لغرامشي وبورديو في الآثار التراكمية لأربعة مراحل من التجارب:
– الطفولة وفترة التعليم التي شهدت انتقال كل منهما من القرية إلى المدينة لاستكمال تعليمه.
– الخبرات السياسية المُتكوّنة. بعبارة أخرى، انغماس بورديو في الثورة الجزائرية ومشاركة غرامشي في العمل السياسي الذي قاد إلى حركة مجالس المصانع.
– النضوج النظري: بالنسبة لبورديو في العالم الأكاديمي، وبالنسبة لغرامشي في الحركة الشيوعية.
– التغييرات النهائية في التوجه، والتي تركت أثرها على مسار حياة بورديو في عبوره من العالم الأكاديمي إلى المجال العام، في حين أُرغِمَ غرامشي على الانسحاب من الحزب خلال فترة سجنه.
في كل مرحلة من هذه المراحل حمل بورديو وغرامشي معهما مكتسباتهما (الهابيتوس)، أو كما يسميه غرامشي ملخص ماضيهما، الذي وجّه نشاطاتهما في مجالات جديدة.
نشأ كلّ من غرامشي وبورديو في مجتمعات فلاحيّة. ولد غرامشي في سردينيا عام 1891؛ بينما ولد بورديو عام 1930 في بيرن، وهي منطقة من جبال البيرينيه. كان كلاهما ابنين لموظفين عامين: كان بورديو ابن ساعي بريد أصبح يعمل لاحقاً في مكتب بريد القرية؛ وكان غرامشي ابن سكرتير في السجل العقاري للبلدية، وقد تم سجنه بعد اتهامه بالاختلاس. كان بورديو الابن الوحيد، بينما كان لدى غرامشي ستة إخوة وأخوات، جميعهم لعبوا دوراً رئيسياً في بداية حياته. كان الاثنان شديدي الارتباط بأمهاتهما (وفي الحالتين كانت كلتا الأُمّان قادمتين من شرائح أعلى في عالم الفلاحين مما كانت عليه طبقة زوجيهما). وكان كلاهما متفوقين في الدراسة، واستطاعا أن يصلا بسبب قوة إرادتهما من القرية الفقيرة إلى مركز المدينة، بحيث حاز كلّ منهما على دعم معلميه وتفانيهم معهم في المدرسة.
كانت حياة غرامشي من دون أدنى شكّ هي الأكثر صعوبة. ليس لأن عائلته أكثر فقراً فحسب، بل أيضاً لتحمله المعاناة الجسدية والنفسية المرتبطة بكونه أحدباً. لكن بفضل مخزون العزيمة الوافر لديه ودعم أخيه الأكبر، تمكَّنَ غرامشي عام 1911 من السفر إلى شمال إيطاليا، وذلك بعد الحصول على منحة لدراسة الفلسفة واللغويات في جامعة تورينو. وبالمثل، سوف يمر بورديو من خلال الفصول التحضيرية لينضم إلى مدرسة إعداد المعلمين العليا (l’École Normale Supérieure) وهي قمة الهرم الفكري الفرنسي، هناك حيث سيدرس الفلسفة.
كان الانتقال من وسط ريفي إلى مدينة حضرية، سواء باريس أو تورينو، تجربة مهيبة: فكلاهما كان أشبه بالسمك خارج الماء في هذه البيئة الجامعية الجديدة، والتي كانت حكراً على الطبقات المتوسطة والعليا. يصف بورديو تفكك نمط حياته هذا (الهابيتوس خاصته):
«إنّ الأثر الدائم لتفاوت كبير جداً بين تحصيل دراسي عالٍ وبين منبت اجتماعي منخفض، يعني هابيتوس مُتصدّع ومسكون بالتوترات والتناقضات»P. Bourdieu, Esquisse pour une auto-analyse, Paris, Raisons d’agir, 2004, p. 127..
وعلى الرغم من أنهما أصبحا مثقفَين لامعَين وشخصيتين سياسيتين، إلا أنهما لم يفقدا الاتصال بأصول هامشيتهما، أي بقريتيهما وعائلتيهما. إنّ إخلاص غرامشي لعائلته وللأعراف الريفية انعكست في رسائله المكتوبة في السجن؛ وبالطريقة نفسها، سوف يظلّ بورديو على مقربة من والديه، ويعود إلى منطقته الأصلية بانتظام لإجراء البحوث الميدانية. لقد كانت تنشئتهما في المناطق الريفية متجذّرة بعمق في طباعهما وفكرهما، كإرثٍ راسخ أو كموضوع تفاعل حادوفقاً لمواقف واتجاهات فكرية مختلفة تماماً، كان هناك تباين جوهري حول العلاقة التي تربطهما بأصولهما الاجتماعية. في فيلم (علم الاجتماع رياضة قتالية)، الذي يصوّر الحياة الأكاديمية والسياسية لبورديو، نجد مشهداً يصف فيه بورديو اشمئزازه من اللهجة العامية في منطقته الأصلية في جبال البيرينيه، موضحاً الهابيتوس الطبقي الذي تطوّر في المؤسسة الجامعية، بينما كتب غرامشي من السجن رسائل مؤثرة إلى أخته يناشدها أن تتعهد بأن لا يفقد أطفالُهُ استخدام اللهجة والكلام الشعبي..
لم يكمل غرامشي دراسته الجامعية، بل انخرط في النضالات السياسية للطبقة العاملةلقد اتخذنا عموماً موقفاً بترجمة «working class» إلى «الطبقة العاملة»، التي نجدها لدى جميع المؤلفين الماركسيين (بمن فيهم غرامشي)، وليس «الطبقات الشعبية» كما هو موجود عموماً في عمل بورديو. في تورينو، التي اكتسبت شدتها خلال الحرب العالمية الأولى. بدأ الكتابة للجريدة الاشتراكية AVANTI (إلى الأمام) وكذلك لصحيفة Il Grido (النداء). بعد الحرب، أصبح سكرتير تحرير مجلة L’Ordine Nuovo (النظام الجديد)، وهي مجلة الطبقة العاملة في تورينو، المُصمَّمة للتعبير عن ثقافتها الجديدة، والتي ستصبح المتحدّث بلسان حركة مجالس المصانع، ولاحقاً خلال احتلال هذه المصانع في عام 1919-1920.
من جانبه، أكمل بورديو دراسته، وبعد أن أمضى عاماً في التدريس في إحدى المدارس الثانوية تم استدعاؤه لأداء خدمته العسكرية في الجزائر عام 1955. سيبقى خمس سنوات في هذا البلد الذي مزقته الحرب، وهناك سوف يجري دراسة ميدانية بمجرد انتهاء خدمته العسكرية. كما سيدرس في الجامعة، ويُمثّل في كتاباته ثقافة ونضالات الشعوب المُستعمَرة في المدن كما في القرى. لكن مع القمع الذي أعقب الانتكاسة المؤقتة للحركة المناهضة للاستعمار، تلك الانتكاسة التي تكبدتها الحركة أثناء معركة الجزائر عام 1957، أصبح وضع بورديو لا يُحتمل، فاضطر إلى المغادرة في عام 1960. هكذا سنجد أنه خلال سنوات تكوينهما بعد الدراسة، كان كل من غرامشي وبورديو يتعرضان لتحول عميق بسبب نضالات تجري بعيداً عن وطنهما الأصلي.
حتى خلال تلك السنوات كان غرامشي أقرب سياسياً إلى أبطال هذه النضالات من بورديو، الذي سيتجلى التزامه السياسي بأخذه مسافة من الناحية العلمية. إن الفصل المُتأصّل في عالم الاستعمار أبقى بورديو خارج مجتمع المُستَعمَرين، في حين أن النظام الاجتماعي الطبقي في إيطاليا ألقى بغرامشي، على الرغم من كونه مهاجراً من سردينيا شبه الإقطاعية، داخل نضالات الطبقة العاملة. نتيجةً لذلك، وفي هذه المرحلة من مسارهما، سلكَ الرجلان طريقين مختلفين للغاية.
بعد هزيمة مجالس المصانع، أصبح غرامشي زعيماً للحركة العمالية، وعضواً مؤسساً في الحزب الشيوعي عام 1921، وأمينه العام في عام 1924، وذلك في الوقت الذي استقرت فيه الفاشية بصورة دائمة. أمضى غرامشي بعض الوقت في موسكو مع الكومنترن وفي المنفى في فيينا، لكنه سافر إلى إيطاليا بعد عام 1923 في وقت كان فيه منصبه كنائب منتخب من الشعب يمنحه الحصانة السياسية. هذا الوضع انتهى في عام 1926 عندما تم القبض عليه، ليخضع لسلسلة جديدة من القوانين ويُقدَّم في عام 1928 للمحاكمة، حيث سيقرر القاضي وجوب وقف دماغ غرامشي عن التفكير لمدة 20 عاماً. تم إرساله إلى السجن على الرغم من أمراضه المتعددة، التي كانت مُميتة في نهاية المطاف. هناك حيث أنتج الفكر الماركسي الأكثر إبداعاً في القرن العشرين: دفاتر السجن الشهيرة. ومن المفارقات، أن هذه السجون الفاشية كانت قد تجنّبت الستالينيين المتوحشين. استمرّت صحة غرامشي في التدهور حتى وفاته في عام 1937، التي نجمت عن الآثار المشتركة لمرض السلّ ومرض بوت (الذي يهاجم الفقرات) وتصلّب الشرايين، تماماً في الوقت الذي كانت فيه الحملة الدولية لإطلاق سراحه تكتسب زخماً.
بدوره كان مسار حياة بورديو مختلفاً جذرياً. فبعد الجزائر التحق بالجامعة واستلم مناصب في مراكز أبحاث بارزة في فرنسا، وكتب عن دور التعليم في إعادة إنتاج العلاقات الطبقية الخاصة بالمجتمع الفرنسي. ثم انتُخِب بورديو لاحقاً لشغل كرسي أستاذ علم الاجتماع في كوليج دو فرانس المرموقة عام 1981، مما جعله شخصية فكرية عامة بارزة، وفي السنوات التي أعقبت ذلك أصبح الوريث العلمي لسارتر وفوكو. منذ البداية كان لكتاباته أهمية ودلالة سياسية، لكن هذه الكتابات ستأخذ صبغة أكثر نضالية وأكثر حدّة في منتصف سنوات التسعينيات، خصوصاً مع عودة الاشتراكيين للسلطة في عام 1997. لقد دافع بورديو علانيةً عن المحرومين، مهاجماً التكنوقراطية الصاعدة والمُكرّسة للنيوليبرالية، ومنتقداً بشكلٍ لاذع وسائل الإعلام الجماهيري والصحفيين بشكل خاص في كتابه عن التلفزيون. قام بمشاريع نشر مختلفة، من أكثرها أكاديمية مثل مجلة أعمال البحث في العلوم الاجتماعية، إلى أكثرها نضالاً مع مجموعة الكتب المنشورة في «Liber-Raisons d’Agir». خلال السنوات الأخيرة من حياته، حاول صياغة ما أسماه «المثقف الجماعي»، الذي يجب أن يتجاوز الحدود القومية وحدود التخصصات، جامعاً بين العقول التقدمية للتأثير في النقاش العام.
وإذا كان غرامشي قد انتقل من التزام سياسي «حزبي» إلى حياة أكثر توجهاً للبحث في السجن، هناك حيث كان يفكر في فشل الثورة الاشتراكية في الغرب. فإن بورديو كان قد اتخذ المسار المعاكس. حيث تحوّل من حياة تتركز على البحث إلى معارضة علنية ضد الموجة المتصاعدة للأصولية الليبرالية، ذاهباً حدّ التواصل مع العمال المضربين ودعم نضالهم. إن الارتباط العضوي الذي كان لغرامشي مع الطبقة العاملة من خلال الحزب الشيوعي جعله يبالغ في تقدير الإمكانيات الثورية للطبقة العاملة. لهذا السبب، فقد كرَّسَ وقته في السجن لفهم كيف أن البنية الفوقية المعقدة للرأسمالية المتقدمة، والتي لا تشمل فقط الدولة المتقدمة ولكن أيضاً علاقة هذه الدولة بشرائح المجتمع المدني الوليد، «لا تبرّرُ هيمنتها وتحافظ فحسب، لكنها تنجح كذلك في الحصول على المُصادقة الحيّة من أولئك الذين تقودهم» (غرامشي، 1971، ص. 245).
من ناحية أخرى، فإن تبني بورديو لموقف سياسي أكثر وضوحاً في أواخر حياته كان مصحوباً بنظرية السيطرة الثقافية التي قام ببلورتها، وهي نظرية مبنية على تحليل الفعل الاستراتيجي داخل الحقول وعلى مفهومه المرافق «الهابيتوس». في نهاية التسعينيات، حين وجد بورديو أن المجال العام يتم تشويهه أكثر فأكثر من قبل وسائل الإعلام، تبنى موقفاً أكثر هجومية وصل إلى حدّ الدعم العلني لحركات الاحتجاج. إن دفاعه العنيف عن الاستقلال الذاتي الفكري والأكاديمي، وكذلك هجماته النشطة على النيوليبرالية، جعلته أحد أبرز الشخصيات العامة في فرنسا.
ألقت كتابات السجن لغرامشي نظرة انتقادية على ممارساته السياسية بل وتجاوزتها. لذا فقد كرّس أعماله حول الحزب الشيوعي المثالي – الأمير الحديث – دون أن يتمكن من العثور على من يُمثّله في الممارسة. فإذا كانت نظرية غرامشي قد تخطّت ممارسته، فالعكس كان صحيحاً بالنسبة لبورديو في أواخر حياته، حين اقتحمَ المشهد السياسي متجاوزاً أُسس تفكيره النظري، مما كان من شأنه أن كشفَ عن فاعلين مُقيّدين بحجاب من الجهل. في هذه الحالة، ذهبت الممارسة أبعد من النظرية. ومن أجل دراسة الانقطاع الموجود بين النظرية والممارسة، يتوجب علينا وضع نظريتهما في حوار الواحدة مع الأخرى.
الطبقة والسياسة والثقافة
يبدو من الصعب تقسيم الهيكلين النظريين لكلّ من غرامشي وبورديو إلى شرائح مُتوازية وقابلة للمقارنة، نظراً لأن كل جزء يحمل معناه الخاص بعلاقته بالكل. ومع ذلك، سأقترح أقسام متوازية داخل كل هيكل نظري، آخذاً بعين الاعتبار التداخلات والتكرارات التي قد تترتب على ذلك. سوف أبدأ بالإشارة إلى الإطارين النظريين العامين لأجل دراسة العلاقات بين الطبقة والسياسة والثقافة، والتي يمكن العثور عليهما في كتابي الأمير الحديثVoir : « Machiavel, la politique, le prince moderne et les classes subalternes », in A. Gramsci, Guerre de mouvement et guerre de position. Textes choisis et présentés par Razmig Keucheyan, Paris, La Fabrique, 2011, p. 159-269. والتمييزP. Bourdieu, La distinction, Paris, Minuit, 1979.. في هذه الكتابات، يقسم كل من غرامشي وبورديو التكوين الاجتماعي إلى فضاءات متوازية ومتماثلة: الفضاء الاقتصادي الذي تتجذّر فيه الطبقات؛ الفضاء السياسي – الثقافي، حيث تُمارَس الهيمنة والصراع؛ وعند غرامشي بشكلٍ أقل الفضاء العسكري، الذي يفرض قيوداً على هذا الصراع.
بالنسبة لغرامشي، يوفر الاقتصاد أساساً لتشكيل الطبقات: الطبقة العاملة، الفلاحين، البرجوازية الصغيرة، والطبقة الرأسمالية. فالاقتصاد يحدد القوة الموضوعية لكل طبقة، وفي الوقت نفسه يُنشئ حدوداً للعلاقات بين هذه الطبقات. بيد أنّ المواجهات والتحالفات التي تُعقَد فيما بينها يتم تنظيمها في ميدان السياسة والإيديولوجيا، وهو ميدان له منطقه الخاص. على سبيل المثال، يُنظم الهيكل السياسي أشكال التمثيل الطبقي في أحزاب سياسية معينة. كل نظام سياسي مُشبع بإيديولوجيا الهيمنة الخاصة به، أي أنه نظام مُهيمِنٌ من الإيديولوجيات، التي تُقدِّمُ لغة مشتركة وخطابات وتمثيلات معيارية مُتوافقاً عليها على نطاق واسع من قبل الفاعلين في الصراع. إن الصراع الطبقي ليس صراعاً بين الإيديولوجيات، بل هو صراعٌ يبقى الرهان فيه على تفسير وتهيئة النظام الإيديولوجي نفسه. لا يمكن لهيمنات بديلة أن تظهر إلا في حالات الأزمة العضوية؛ ولن يكون لديها إلا القليل من الدعم في أي حالة أخرى. في نهاية المطاف يظهر نظام عسكري، وإن بطريقة غير مرئية عادة، وتتمثل مهمته فيما يتعلق بالصراع الطبقي في كبح انتهاكات القانون من قبل الجماعات والأفراد، أو باستعادة النظام في فترات الأزمات الكبرى. لقد أولى غرامشي القدر نفسه من الاهتمام للشرط السياسي للنظام العسكري، أي بذاتية الفرد العسكري، وللتحضيرات التقنية لقوى الإكراه.
بالمثل، يصف بورديو فضاءات مناظرة لفضاءات غرامشي، مؤكداً على التقسيم بين الحقول الاقتصادية والثقافية. فلنقلها مرة أخرى: لا يوجد لديه تحليل للاقتصاد بحد ذاته، فالطبقات تُفهَم لديه، كما هو الحال لدى غرامشي، كبداهة: الطبقات المُسيطرة والبرجوازية الصغيرة والطبقات الشعبية. لكن الطبقات لا يمكن أن تُختَصَر بأبعادها الاقتصادية المحضة، وهي تتضمّن خليطاً من رأس المال الاقتصادي والثقافي، بحيث تتميز الطبقة الحاكمة ببنية متحركة مُقسّمة بين: جزء مُهيمِن غني بشدة برأس المال الاقتصادي، ولكن ضعيف في رأس المال الثقافي، وجزء مُهيمَن عليه، يتمتع بدرجة عالية من رأس المال الثقافي ولكنه فقير نسبياً في رأس المال الاقتصادي. بالطريقة نفسها، تنقسم الطبقات المتوسطة بين البورجوازية الصغيرة القديمة (المتمتعة برأس مال اقتصادي معين)، والبرجوازية الصغيرة الجديدة (بالنسبة لها الرأسمال الثقافي هو المُهيمِن). وأخيراً، تتميز الطبقات العاملة بقدر محدود في كلا النوعين من رأس المال، مما يجبر أعضائها على أن يعيشوا حياة تخضع إلى حد كبير للضرورة المادية.
ينقل غرامشي طبقاته إلى الساحة السياسية، حيث تتشكل وتُنظّم مصالحها. لنجد هناك الأحزاب السياسية والنقابات والغرف التجارية وغيرها من المنظمات التي تمثل المصالح الطبقية المرتبطة بطبقات أخرى، حيث تُكافح كل منها من أجل تحقيق مصالحها الخاصة، الفئوية والضيقة. كما تسعى طبقتان – هما الرأسمالية والعمالية على وجه التحديد – إلى تحقيق مستوى من الهيمنة، وإلى فرض تمثيل مصالحهما الخاصة كمصالح الجميع.
ووفقاً لمسار موازٍ، يصرُّ بورديو على الطريقة التي يميل بها الفضاء الثقافي إلى إخفاء التصنيف الطبقي الذي يقوم عليه. إنّ استبطان ممارسات الثقافة المُهيمِنة «صاحبة الشرعية» يخفي الموارد القادمة من ثقافة طبقة معيّنة، والتي تجعل هذه الممارسات ممكنة. بالتالي، الذوق الفني والموسيقي والأدبي المُقدَّم كتعبير عن مَلكة فردية، يجد ظروف إمكانيته أصلاً في وقت الفراغ المُرتبط بحياة متميّزة ورأسمال ثقافي موروث. إخفاء هذا الأمر هو ما يبعث على الافتراض بأن الأفراد هم أعضاء في الطبقات الحاكمة لأنهم موهوبون، وليسوا موهوبين لأنهم ينتمون إلى الطبقات الحاكمة.
تُصنَّف جميع الممارسات الثقافية – من الفن إلى الرياضة، من الأدب إلى الطهي، ومن الموسيقى إلى قضاء العطلات – في تسلسل هرمي يتشابه مع التسلسل الهرمي الطبقي. فتسعى الطبقات الوسطى إلى محاكاة الممارسات الثقافية للطبقة الحاكمة، بينما تعترف الطبقة العاملة لهم بهذه الشرعية من خلال امتناعها عنها – فالثقافة الرفيعة، بحكم تعريفها، ليست للجميع. وهكذا ستكون الممارسات الشعبية موجهة نحو الأولويات الوظيفية التي تفرضها تلبية احتياجاتها المادية.
إن كان الفضاء الثقافي بالنسبة إلى غرامشي هو حقل صراع طبقي، فإن هذا الفضاء يميل إلى تعطيل الصراع الطبقي وفقاً لبورديو. حيث يأخذ الصراع مكانه داخل الحقول الثقافية المنفصلة أو داخل الطبقات المُسيطِرة، ولكنه ليس صراعاً طبقياً. إنه صراع التصنيف الذي تحدثنا عنه، وهو صراع يبقى الرهان فيه داخل الفئات وأشكال التمثيل. لم ينتقل بورديو أبداً من صراعات التصنيف هذه داخل الطبقات إلى الصراع بين الطبقات، وهو ما يفسر ربما لماذا لم تظهر مطلقاً مسألة القوة العسكرية في افتراضاته النظرية. هذه الاختلافات بين غرامشي وبورديو فيما يتعلق بالطريقة التي يفكران بها في السياسة، تتطلب إيلاء اهتمام خاص للتناقضات بين ميداني نزاع شديدي الاختلاف هما: المجتمع المدني وحقل السلطة.
المجتمع المدني مقابل حقل السلطة
يكمن ابتكار غرامشي في تَحقيبه للرأسمالية، الذي لا يعتمد على التحولات التي جرت في قاعدتها الاقتصادية (من الرأسمالية التنافسية إلى الرأسمالية الاحتكارية، أو من الفردانية إلى الرأسمالية المنظمة)، ولكن على صعود المجتمع المدني – الجمعيات والحركات والمنظمات التي لا تشكل جزءاً من الاقتصاد ولا من الدولة. وبالتالي فقد أشار إلى ظهور النقابات العمالية، والمنظمات الدينية، ووسائل الإعلام، والمدارس، والجمعيات المدنية والأحزاب السياسية التي تتمتع باستقلال ذاتي معين تجاه الدولة، التي تميل مع ذلك إلى ضمان وجودها وتشكيل تنظيماتها. تُنظّم «خنادق المجتمع المدني» قبول الهيمنة بشكلٍ فعّال من خلال استيعاب مشاركة الطبقات الدنيا، مُفسحةً بذلك مساحة للأنشطة السياسية، ولكن فقط ضمن الحدود التي تفرضها الرأسمالية. إن المشاركة في الانتخابات، والعمل في المهن، والتعليم، والممارسة الدينية، وقراءة الصحف، كلها أمورٌ كان لها تأثيرٌ في توجيه التحدي إلى داخل الأنشطة، التي تشرف عليها المنظمات التي تتنافس على لفت انتباه الدولة.
وفقاً لغرامشي، كان لهذا نتائج هامّة على فكرة التحول الاجتماعي ذاتها. فمحاولات الاستيلاء على سلطة الدولة لا يمكن إلاّ أن يتم إرجاءها طالما بقي المجتمع المدني سليماً. لذلك يتوجب في المقام الأول أن نبدأ مسيرة طويلة وشاقة من خلال خنادق المجتمع المدني. تتضمن «حربُ المواقع» هذه إعادة بناء المجتمع المدني، وكسر آلاف الروابط التي تربط هذا المجتمع المدني بالدولة لوضعه تحت قيادة حركة ثورية، وعلى وجه الخصوص تحت قيادة حزبها، الذي يسميه غرامشي بـ «الأمير الحديث». إن غزو سلطة الدولة، الذي يصفه غرامشي بأنه «حرب الحركة»، ليس أكثر من ذروة صراع طويل وشاق. إن النضال العلماني ضد الفصل العنصري وخاصة في الثمانينيات، ونجاح «حركة تضامن» (Solidarnosc) في بولندا في فترة 1980-1981، أو حتى حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة، تعطي أمثلة جزئية إلى حدٍّ ما عن حروب المواقع. الحجة بسيطة: يمكن أن يكون للهجوم على الدولة فرصة بالنصر إذا كانت المجتمعات المدنية «بدائية وهُلاميّة» (على سبيل المثال: الثورة الفرنسية أو الثورة الروسية)، ولكن ليس في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة. إن نظرية الثورة التي دافع عنها لينين في كتاب الدولة والثورة، والتي جعلت من غزو الدولة أولوية، ليست نظرية عامة بل هي انعكاس للظروف الخاصة لروسيا.
على الرغم من احتوائها على بعض العناصر من صراع التصنيف، إلاّ أن فكرة حرب المواقع على أرضية المجتمع المدني، وصُنع تحدٍ شعبيٍ للنظام الاجتماعي، لا تجد إلا القليل من الصدى في نظرية بورديو. قد يبدو هذا غريباً بالنسبة لعالم اجتماع، فبورديو لم يطوّر مفهوماً عن المجتمع المدني. بدلاً من ذلك، نجد قادة منظمات المجتمع المدني – قادة سياسيون ونقابيون ومثقفون ودينيون – يتنافسون داخل حقل السلطة الذي هو فوق المجتمع المدني، مستخدمين وظائفهم التمثيلية في خدمة مصالحهم الخاصة، ودون أن يكونوا مسؤولين عن أفعالهم عملياً أمام أنصارهمP. Bourdieu, Langage et pouvoir symbolique, Paris, Seuil, « Points », partie 3.. هنا وحيث يركز غرامشي على الصراع الطبقي – وإن كان مدركاً تماماً للصراعات داخل الطبقات وخاصة في الطبقات المهيمِنة – فإن بورديو يصرّ كما رأينا على صراعات التصنيف، أي الصراعات داخل الطبقة المُسيطرة، هناك حيث تتم وتجري التصنيفات المُهيمِنة. وكما أن الدولة في تحليل غرامشي تقوم بتنسيق عناصر المجتمع المدني، فإن الدولة في تحليل بورديو تشرف على صراعات التصنيف من خلال الاحتكار الذي يُمارس في نهاية المطاف على الوسائل المشروعة للعنف الرمزي.
تُنتج صراعات التصنيف تأثيرات على المُسيطَر عليهم، على الرغم من أن هؤلاء الأخيرين لا يملكون أي تأثير على هذه الصراعات. لا يقدم بورديو أي إشارة للمجتمع المدني: بالنسبة له لا توجد سياسة إلاّ داخل حقل السلطة، ومخصصة للطبقات المُسيطرة. كما هو الحال مع ماكس فيبر، فإن الغالبية تغرق في مستنقعات الخضوع شبه غائبة عن الوعي، يتلاعب بها المتحدثون باسمها.
الهيمنة مقابل السلطة الرمزية
للوهلة الأولى، نجد أن الهيمنة والسلطة الرمزية تعملان بأساليب متشابهة جداً، وبالشكل الذي يضمن الحفاظ على النظام الاجتماعي من خلال الهيمنة الثقافية (وليس بالإكراه). كما يمكننا العثور فيها على قنوات بحيث تبدو وكأنها هي نفسها فعلياً، والتي تميل إلى إخفاء الاختلافات الجوهرية، الأمر الذي يعيدنا في النهاية إلى قدرة المُسيطَر عليهم على فهم وتحدي ظروف وجودهم.
ووفقاً للتعريف الشهير الذي يعطيه غرامشي للهيمنة، فإن الهيمنة هي شكل من أشكال السيطرة المبنيّة على «الجمع بين القوة والقبول اللذان يتوازنان بأسلوب متفاوت، دون أن تتغلب القوة بشكل مفرط على القبول، بل تسعى لأن تبدو هذه القوة مُستندة على قبول الأغلبية»A. Gramsci, Guerre de mouvement, guerre de position, op. cit., p. 234.. لذلك يجب تمييز الهيمنة عن الدكتاتورية وعن الاستبداد، والتي هي أنظمة يسود فيها الإكراه ويُطبّق تعسفياً بدون معايير تنظيمية. يتم تنظيم الهيمنة داخل المجتمع المدني، لكنها تشمل الدولة أيضاً: «فالدولة هي مجموع الأنشطة العملية والنظرية التي من خلالها لا تقوم الطبقة الحاكمة بتبرير هيمنتها والحفاظ عليها فقط، ولكنها تنجح في الحصول على الإجماع الفعلي من المحكومين»Antonio Gramsci, Cahiers de prison, nrf Gallimard, Bibliothèque de Philosophie, traduit de l’italien par F. Bouillot et G. Granel, avant-propos, notices et notes de Robert Paris, 1990, Cahier 15, § 10, p.120.. بالتالي، فإن جوهر مفهوم الهيمنة يستند إلى فكرة القبول هذه، والمشاركة الواعية والطوعية للمحكومين في الهيمنة عليهم.
يستخدم بورديو أحياناً كلمة «قبول» لوصف السلطة الرمزية، لكنه يجد نفسه معنيّاً بالعمق النفسي أكبر بكثير من الهيمنة. يقول بورديو عن مفهوم الهابيتوس في كتاب التمايز إنه «الشكل المستبطن للواقع الطبقي والاشتراطات التي يفرضها»P. Bourdieu, La Distinction, Paris, Minuit, 1979, p. 112.. «إن ترسيمات الهابيتوس، أي أشكال التصنيف الأصلية، تدين بفعاليتها لكونها تعمل بمعزل عن الوعي والخطاب، وبالتالي بدون أن تخضع للفحص والتدقيق الواعي»Ibid., p. 543.. وفي كتاب تأملات باسكالية يكتب بورديو:
«إن الفاعل الاجتماعييستعمل بورديو مصطلح AGENTS SOCIAUX، والذي يمكن ترجمته حرفياً بالعون أو الوكيل الاجتماعي، بدلاً من مصطلح ACTEUR SOCIAL الفاعل الاجتماعي. لكننا اعتمدنا في هذا النص ترجمة SOCIAL AGENT بالفاعل الاجتماعي نظراً لكون كلمة فاعل بالعربية أكثر وضوحاً للقارئ وتشمل المعنى المقصود. (المترجمة) الذي ينخرط في الممارسة يعرف العالم، ولكن من خلال معرفة لا تنشأ، على ما أظهر مرلو بونتي، في العلاقة الخارجية للوعي المعرفي. فهو يفهم العالم بطريقة جيدة جداً، بدون مسافة موضوعية وكمسألة بديهية. وبالتحديد لأنه موجود في هذا العالم، ولأنه يشكّلُ جزءاً منه، ولأنه يسكنه كما لو كان قطعة ثياب أو مسكناً مألوفاً، يشعر وكأنه في موطنه تحت أنماط التطبّع (الهابيتوس). وهي حاجة تصنع ميزة، تتضمن شكلاً من أشكال حب الضرورة، أي حب المصير أو قبول المرء بمصيره»P. Bourdieu, Les méditations pascaliennes, Paris, Seuil, p. 206..
وهكذا، لا تستند السلطة الرمزية على القوة المادية ولا حتى على الشرعية. إنها في الواقع تجعل من هذين البعدين عديمي الفائدة:
«لا تحتاج الدولة بالضرورة إلى إعطاء الأوامر وممارسة الإكراه المادي أو الإلزام التأديبي لإنتاج عالم اجتماعي منظم: طالما أنها قادرة على إنتاج بنى معرفية إدماجية تكون متوافقة مع البنى الواقعية، وذلك لضمان الخضوع الكلي للنظام القائم»P. Bourdieu, Ibid., p. 257..
تعرّف السلطة الرمزية بالتعارض مع الشرعية، وهو ما لا يظهر إلاّ على المستوى الشكلي، وكذلك بالتعارض مع الهيمنة التي تنطوي على وعي بالسيطرة، وعلى حسّ عملي يعمل أيضاً بشكل واعٍ. في فقرة كاشفة، يرفض بورديو مفهوم الوعي الزائف، دون التشكيك في مفهوم الزيف (كما هو معمول به عموماً)، بل بمفهوم الوعي:
«في مفهوم «الوعي الزائف» الذي يستعين به بعض الماركسيين لفهم آثار السيطرة الرمزية، «الوعيُ» هو الزائدُ عن حده. والحديثُ عن «الإيديولوجيا»، هو أن نضع في نظام التمثيلات القابلة لأن تكون متغيّرة من خلال هذا التحول الفكري الذي يسمى «الوعي»، ما يتموضع في نظام المعتقدات، أي في أعمق المَلكات الجسدية»Ibidem, p. 255..
بدلاً من الوعي الزائف، يتكلم بورديو عن «سوء الإدراك»: إن الطريقة التي يعرف بها الأفرادُ العالمَ بشكل عفوي هي عبارة عن سوء إدراك متجذر بعمق في الهابيتوس، وهو على ما يبدو غير قابل للتفكير فيه.
إن منظور غرامشي لا يختلف كثيراً. فبدلاً من سوء الإدراك، يتحدث عن قبول واعٍ وعقلاني للهيمنة؛ وبدلاً من الهابيتوس، يطور مفهومَ الحسّ المشترك الذي يشير أساساً إلى «الحسّ السليم» – النشاط العملي الذي يمكن أن يؤدي إلى فهم أصيل – بالإضافة إلى إرث الحكمة الشعبية والإيديولوجيات التي تشربنا بها:
«الإنسان النشط بين الجماهير هو من يقوم بنشاط عملي بينها، وإن لم يكن لديه وعي نظري واضح بهذا النشاط، والذي هو فهم للعالم من حيث أنه يغيّره. ويمكن لوعيه النظري أن يتعارض تاريخياً مع نشاطه، ويمكن القول إن له وعيان نظريان (أو وعي واحد متناقض)؛ أحدهما مُضمَر في نشاطه، وهو في الحقيقة ما يوحده مع كل زملائه الذين يعملون معه في عملية التغيير العملي للواقع، والآخر صريح بشكل ظاهر أو لفظي، ورثه من الماضي وتشرّبه دون أن ينقده. ومع ذلك، فإن هذا المفهوم «اللفظي» لا يخلو من العواقب: فهو يتصل بجماعة اجتماعية محددة، ويؤثر على السلوك الأخلاقي وعلى توجيه الإرادة بأسلوب فعّال بقدر ما، ما يمكنه أن يصل إلى وضع لا تسمح فيه حالة التناقض في الوعي بأي حركة أو قرار أو اختيار، وهو ما يُنتِجُ حالة من السلبية الأخلاقية والسياسية. لذلك يأتي الفهم النقدي للذات من خلال صراع بين «الهيمنات» السياسية، بين التوجهات المتناقضة، أولاً في حقل الأخلاق، ثم في حقل السياسة، من أجل الوصول لصياغة أدق للمفهوم الخاص بالواقع»A. Gramsci, Guerre de mouvement et guerre de position, op. cit., p. 112..
هنا نصل إلى الاختلاف الأساسي بين غرامشي وبورديو: في حين أن الأول يفهم النشاط العملي للتحول الجماعي للعالم كأساس للحسّ السليم وكطريق من المحتمل أن يؤدي إلى الوعي الطبقي، فإن الثاني يتصور النشاط العملي بطريقة معاكسة – حيث لا يوجد وعي طبقي بل قبول العالم كما هو. دعونا نرى الآن هذا المقطع عند بورديو، الذي يعكس بشكل جليّ الاقتباس السابق من غرامشي:
«التذكير بأن إدراك العالم الاجتماعي يفترض فعلَ بناء، لا يعني أبداً القبول بنظرية فكروية للمعرفة: جوهر التجربة الاجتماعية وعملية البناء التي تفترضها تلك التجربة يجريان في الممارسة العملية قبل مستوى التمثيل الصريح والتعبير اللفظي. من حيث كونه أقرب إلى اللاوعي الطبقي من «الوعي الطبقي» بالمعنى الماركسي، فإن الإحساس بالمكانة المشغولة داخل الفضاء الاجتماعي (ما يسميه غوفمانإرفنج غوفمان Erving Goffman : عالم اجتماع أمريكي من أصل كندي. كان أستاذاً في جامعة بيركلي منذ 1960.حتى وفاته عام 1982، من أهم كتبه «عرض الذات في الحياة اليومية»، الذي يقدم فيه نظريته المعروفة بالنظرية الدرامية لفهم الحياة الاجتماعية (Dramaturgy). اهتم بتطوير مدخل التفاعلية الرمزية لتحليل الأنساق الاجتماعية، مؤكداً على أن التفاعل – وخاصة النمط المعياري والأخلاقي- ما هو إلا الانطباع الذهني الإرادي الذي يتم في نطاق المواجهة. استشهد به بورديو في مرات عديدة، وخاصة في مسألة الوضعية الطبقية التي تتحكم بشكل مباشر أو غير مباشر، وعبر المكانة التي يخولها لها التقسيم الاجتماعي، في تمثلات الأفراد لمواقعهم الاجتماعية وما يترتب على هذا من ممارسات. «شعور المرء بالمكانة/sense of one’s place») هو المتحكم الفعلي بالبنية الاجتماعية بمجملها، هذه البنية التي تُمارَس من خلال الشعور بالمكانة المشغولة فيها. تعتبر مقولات إدراك العالم الاجتماعي، في معظمها، نتاج استبطان البنى الموضوعية للفضاء الاجتماعي. وبالتالي، تميل هذه المقولات لدفع الفاعلين الاجتماعيين لأخذ العالم الاجتماعي كما هو، ليقبلوه على أنه أمر بديهي، بدلاً من أن يثوروا ضده، ويعارضوه بالإمكانات المختلفة بل والمُعادية»P. Bourdieu, « Espace social et genèse des classes », Actes de la recherche en sciences sociales, vol. 52-53, juin 1984, p. 5..
بعبارة أخرى ووفقاً لبورديو، فإن الحسّ المشترك هو ببساطة حجاب من سوء الإدراك، الذي يبدو وكأنه يغلّف كل واحد منا، ربما باستثناء بعض علماء الاجتماع الذين ينجحون بأعجوبة في الرؤية عبر الضباب. بينما لدى غرامشي، يمكن لبعض الجماعات التي تحتل مكانة «مرموقة» أن تطور فهماً للعالم الذي تعيش فيه. فالطبقات المختلفة لديها فرص مختلفة لتطوير «الحسِّ السليم». إن الطبقة العاملة، على وجه الخصوص، في وضع ملائم بسبب نشاطها في التحويل الجماعي للطبيعة، في حين أن الإنتاج داخل طبقة الفلاحين والبرجوازية الصغيرة مفرط في فردانيته، والطبقات المهيمنة لا تستثمر مباشرة في الإنتاج.
يبدو التناقض مع لينين هنا جليّاً. مثل بورديو، اعتبرَ لينين أن الطبقة العاملة غير قادرة على تجاوز الوعي «النقابي» بمفردها. لقد استخلص لينين من ذلك أن الحقيقة – التي يحملها المثقف الجماعي – يجب أن تُحضَرَ من الخارج إلى الطبقة العاملة. بورديو ينكمش رُعباً أمام هذه الفكرة: فالطبقة العاملة غارقة في الخضوع إلى العمق، بحيث أنها لن تتمكن من التحوّل من خلال هذه الطليعية المغرورة، التي تُعرِّض كل من المثقفين والعمال للخطر. بالنسبة إلى غرامشي، وإن كان قد انتقد لينين أيضاً، فإنه لم ينتقده بما يخصّ جانب الوعي بل بما يخصّ جانب الزيف. إنه يعطي أيضاً للطبقة العاملة أساساً من الحقيقة، تاركاً بالتالي الباب مفتوحاً أمام المثقفين القادرين على تشكيل هذه الحقيقة من خلال الحوار. من هذه الاختلافات العميقة تظهر تصورات مختلفة، ليس فقط للصراع الطبقي، ولكن أيضاً لدور المثقفين.
المثقفون: التقليديون والعضويون
في حالة فريدة من نوعها بين الماركسيين الكلاسيكيين، يكرّسُ غرامشي كثيراً من الاهتمام للمثقفين وللعلاقات فيما بينهم، ومع الطبقة العاملة والطبقات المهيمنة. لقد رأينا أن ماركس لم يكن قادراً على توضيح موقفه، أي أن يشرح أولاً، كيف يستطيع المثقف البرجوازي أن يناضل مع الطبقة العاملة ضد البرجوازية، وثانياً، كيف ولماذا كانت جميع أعماله المكتوبة ذات أهمية لتشكيل الطبقة العاملة والصراع الطبقي. ببساطة لم يكن لديه ما يقوله بشكل منهجي عن المثقفين. إن اهتمام غرامشي بالهيمنة الثقافية والوعي الطبقي للبروليتارية قاده لأن يأخذ بجديّة دور ومكانة المثقفين.
ينطلق غرامشي من افتراض هام: كل البشر مثقفون بمعنى من المعاني، ويتصرفون على أساس النظريات الموجودة في العالم، لكن بعض الأشخاص فقط يتخصصون في إنتاج مثل هذه النظريات، نطلق عليهم لقب «المثقفين» أو «الفلاسفة». هناك نوعان من هؤلاء المثقفين: المثقفون العضويون والمثقفون التقليديون. في النوع الأول يرتبط المثقفون عضوياً بالطبقة التي يمثلونها، في حين أن مثقفي النوع الثاني يتمتعون باستقلالية نسبية عنها. في ظل الرأسمالية، تعتمد الطبقات الدنيا على الفئة الأولى من المثقفين، في حين أن الطبقات المُهيمِنة تنتفع من الفئة الثانية. دعونا نستمر في استكشاف هذا التمييز.
لكي تصبح الطبقة العاملة قوة ثورية، فإنها تحتاج إلى مثقفين لتطوير حسّها السليم في إطار الحسّ المشترك ذاته. مثل هكذا عمل للتطوير يحدث في حوار بين الطبقة العاملة ومثقف جماعي – وهو الحزب الشيوعي، أي «الأمير الحديث» الذي يُنظر إليه على أنه «مُقنِعٌ دائم». إنها ليست مسألة جلب الوعي للطبقة العاملة من الخارج، وهي نقطة يميز فيها غرامشي نفسه عن لينين، بل أن يُبنى الوعي على أساس ما هو موجود بالفعل داخل هذه الطبقة. لا يمكن للمفكر العضوي أن يعمل إلا من خلال الحفاظ على علاقة حميمة مع الطبقة العاملة، أن يشاركها حياتها، والذي يعني ضمناً ووفقاً لبعض قُرّاء غرامشي أن يكون أصلاً من الطبقة العاملة.
يمكننا أن نرى هنا لماذا أخضع بورديو ما أسماه «أسطورة» المثقف العضوي إلى نقد شديد. فبما أن الحسّ المشترك للطبقة العاملة يتلخص في نقص الإدراك، فلا يمكن أن يكون هناك أي حسّ سليم، ولا بذور لإدراك أصيل في التجربة العملية للطبقة العاملة، ولن يوجد فيها بالتالي أي شيء يمكن تطويره بالنسبة للمثقفين. إن الحوار الذي لا يمكن تحقيق شروطه الأساسية، يتحول إلى شعبوية، أي تعريف الطبقة العاملة بأنها ليست إلا إسقاط لرغبات وتخيلات المثقفين على الطبقة العاملة، الطبقة التي أخطأ المفكرون بتأكيد إدراكها:
«ليست هناك حاجة لمناقشة ما إذا كانت الصورة غير المقبولة التي أنتجها المثقف لعالَمِ العمل صحيحةً أم خاطئة، عندما يضع المثقف نفسه في وضع العامل دون أن يكون لديه عادات (هابيتوس) العامل، فإنه يتفهم ظروف الطبقة العاملة وفقاً لمخططات إدراك وتقدير غير تلك التي يتبناها أعضاء الطبقة العاملة أنفسهم للفهم؛ إنها بالفعل التجربة التي يمكن أن يتحصّلَ عليها من عالَم العمل المثقفُ الذي يدخل بطريقة مؤقتة ومحددة في ظرف حياة الطبقة العاملة، ويمكن لهذه التجربة أن تصبح أقل وضوحاً من الناحية الإحصائية إذا، كما هو الحال الآن، ازداد عدد الأشخاص الذين يجدون أنفسهم مرميين في ظرف الطبقة العاملة دون أن يكون لديهم العادات (الهابيتوس) التي هي نتيجة للتكيفات المفروضة «عادةً» على أولئك المحكومين بهذا الشرط. إن الشعبوية ليست سوى الوجه الآخر للتعصب الإثني»P. Bourdieu, La distinction, op. cit., p. 435..
وبعبارة أخرى، فإن المثقف الذي بُنيت عاداته في سياق السخولي (skholè)تعني كلمة سخولي باللغة اليونانية «وقت الفراغ»، وفي الأصل اللاتيني «مدرسة». في كتابه «تأملات باسكالية» يعطي بورديو كلمة سخولي معناً تقنياً فيعرفها بأنها: «الوقت الحر والمتحرر من ضرورات العالم، الذي يتيح علاقة حرة ومتحررة من هذه الضرورات ومن العالم». (المترجمة) وهو (العالم الذي لا تحكمه الضرورة المادية)، لا يستطيع أن يفهم وأن يكون حساساً لشروط حياة أعضاء الطبقة العاملة، التي تتشكل عاداتها من خلال عدم الاستقرار والبحث المستمر عن الوسائل المادية في الوجود. يثير هذا الانغماس المؤقت في الحياة داخل المصنع ردّ فعل في ذهن المثقف فيراقبها مع حيرة، فهذا المثقف يشمئز من ظروف حياة الطبقة العاملة، في حين أن هذه الأخيرة اعتادت على استعبادها.
المثقفون الذين ينتمون للجزء المُهيمَن عليه من الطبقة المُهيمِنة، ينظرون إلى حياتهم باعتبارها استعباداً، مما يدفع بعضهم إلى التعريف بأنفسهم كطبقات مُهيمَن عليها. لكن هذا التعريف مُضلِّل. فهؤلاء المثقفون ليس لديهم إلاّ القليل من القواسم المشتركة مع الطبقة العاملة. لذا من الأفضل للمثقفين أن يدافعوا صراحة عن مصالحهم الخاصة من خلال تقديمها كمصالح الجميع، أي المصالح الكونية للبشرية:
«المنتجون الثقافيون لن يجدوا في العالم الاجتماعي المكانة التي يستحقونها إلّا إذا ضحّوا لمرة واحدة وإلى الأبد بأسطورة «المثقف العضوي»، ودون الوقوع في الأسطورة المقابلة حول النخبويين المعزولين عن كل شيء، وذلك حين يوافقون على العمل بشكل جماعي للدفاع عن مصالحهم الخاصة: وهو ما ينبغي أن يقودهم إما لفرض أنفسهم كسلطة عالمية من النقد والمراقبة بل والاقتراح في مواجهة التكنوقراط، أو من خلال طموح أعلى وفي الوقت نفسه أكثر واقعية وبالتالي مُقتصر على مجالهم الخاص، للانخراط في عمل عقلاني للدفاع عن الظروف الاقتصادية والاجتماعية لاستقلالية هذه الفضاءات الاجتماعية المتميّزة، حيث يُنتَج ويُعاد إنتاج الأدوات المادية والفكرية لما نسميه العقل. هذه السياسة الواقعية للعقل سوف تتعرض بلا ريب للاشتباه بنزعتها للتعاون المشترك. لكن سيعود لهذه السياسات الواقعية أن تبرهن، من خلال النتائج التي ستُوظّف لخدمتها كل الوسائل التي تحصلّت عليها بصعوبة من خلال استقلالها الذاتي، أنّها تمثل أُطُر تعاون وتبادل كوني».
نعود هنا مرة أخرى إلى فكرة السياسة الواقعية للعقل Realpolitik، الفكرة القائلة بأنه يمكن للمثقفين، من خلال حماية استقلالهم الذاتي، الدفاعُ عن المصالح الإنسانية في الوقت ذاته. يقترح بورديو تشكيل تعاون على المستوى الدولي للمثقفين، لكن لماذا علينا أن نثق بـ «أميره الحديث» أكثر من الأمير الحديث الخاص بغرامشي؟ ما هي الغايات، ما هي الرؤى والتقسيمات، التي يفكر بها بورديو لـ «مثقفه العضوي الإنساني»؟حتى بورديو ينتهي بتبني فكرة المثقف العضوي: «وهذا يعني أن عالم الاجتماع الإثنولوجي هو نمط من المثقف العضوي الإنساني، والذي يمكنه، باعتباره فاعلاً جماعياً، أن يساهم في تجريد الوجود البشري من حقيقته وقدره من خلال وضع كفاءاته في خدمة عالمية متجذرة في فهم الخصوصيات». أنظر: (التدخلات – العودة إلى التجربة الجزائرية). لكن الأمر هنا يتعلق بالمفكر العضوي لكيانٍ مجرد (الإنسانية)، وهو النقيض الكلّي للمثقف العضوي وفقاً لغرامشي، بل حتى تجسيدٌ لما يسميه غرامشي بالمثقف التقليدي.. لماذا يجب أن نثق بالمثقفين، أولئك الذين لعبوا دوراً تاريخياً في إلهام النيوليبرالية والفاشية والعنصرية والبلشفية… إلخ، بغية لعب دور منقذي البشرية؟ وفي محاولته لتشريح أوهام الآخرين المدرسية، ألم يقع بورديو في أكبر واحدة منها، ألا وهي عدم قدرة المثقفين على مواجهة أنهم قد يكونون حاملين لعالمية مزيّفة؟ لقد استبدل بورديو عالمية الطبقة العاملة، القائمة على الإنتاج والمحمولة على حزب سياسي، بعالمية المثقف القائمة على أساس مؤسسة المدرسة.
في نظر غرامشي، فإن التعاون العالمي للمثقفين الذي اقترحه بورديو ليس سوى إيديولوجيا المثقف التقليدي، الذي في دفاعه عن استقلاله الذاتي يضمن هيمنة الطبقات المسيطرة على نحو أكثر فعالية. في الواقع إن هذه الأخيرة تسعى إلى تقديم مصالحها كمصالح للجميع، ولهذا فهي تحتاج إلى مفكرين مستقلين نسبياً يؤمنون بعالميتهم. فلا يمكن للمثقفين الذين يرتبطون ارتباطاً وثيقاً بالطبقة المهيمنة أن يصفوا هذه الأخيرة بأنها طبقة عالمية. حتى أن نقداً مُعمّقاً لسعي الطبقة المهيمنة وراء مصالحها الفئوية الخاصة – أي سعيها الحثيث للربح – يمكن أن يساعدها في تحقيق الهيمنة البرجوازية. هل يمكن للمثقفين إظهار استقلاليتهم في معارضة الهيمنة البرجوازية دون أن يخضعوا للمساءلة عن خطاباتهم أمام طبقة أخرى؟ يجيب بورديو عن هذا التساؤل بالإيجاب على عكس غرامشي. فبالنسبة لهذا الأخير، لا يكتفي المثقف العضوي بتطوير الحسّ السليم للطبقة العاملة: إنه يُنكر ادعاءات المفكرين التقليديين بتمثيل عالمية حقيقية.
خلاصة
يشكّل غرامشي وبورديو انعكاساً مقلوباً لبعضهما بعضاً: ينتقد بورديو المثقف العضوي لدى غرامشي ويعتبره أسطورة، بينما ينتقد غرامشي المفكر التقليدي لدى بورديو ويتهمه بالدفاع عن الأوهام. أساساً، يقوم الاختلاف حول مقدرة (أو عدم مقدرة) المهيمَن عليهم على فهم العالم، ومقدرة (أو عدم مقدرة) المثقفين على تجاوز مصالحهم التشاركية أو الطبقية. يردّ غرامشي وبورديو على هاذين السؤالين بطريقة متعاكسة، لكن هذا لا يعني أن هذه المحادثة غير مُجدية. خلال كتاباته في السجن، يُظهِرُ غرامشي مدى إدراكه للاعتراضات التي كررها بورديو منذ ذلك الحين، لأنه يشير في كثير من الأحيان إلى صعوبات المثقف العضوي في الحفاظ على حوار متبادل بين الحزب وأنصاره، وبين القادة والتابعين. لكن كما نعلم فإن بورديو ركّزَ انتقاده الخاص للمثقف العضوي بناءً على ملاحظات غرامشي حول مخاطر سياسة سيتم تجريدها من قاعدتها الاجتماعية. لكن بورديو يعرف جيداً حدود العالمية التي يتمتع بها المفكرون، وخطر الأوهام المدرسية التي تحصرهم في تعاون تشاركي ضيّق.
تصبح هذه المناقشة بين بورديو وغرامشي أكثر إثارة للاهتمام إذا تصدى المرء للنزعة المتناقضة لـبورديو تجاه الطبقات الشعبية في دراسته الاستقصائية الجماعية بعنوان بؤس العالم، الكتاب الذي حقق نجاحاً كبيراً في فرنسا عندما نشر في عام 1993، والذي يّعطي صوتاً للمُهيمَن عليهم ويرمي لتصحيح سلسلة من الأكاذيب الإعلامية المنتشرة على نطاق واسع. وفيه يوصّف بورديو والمتعاونون معه من الباحثين في الكتاب الارتباط العضوي الذي أقاموه مع العمّال وموظفي القطاع العام ومع العاطلين عن العمل والمهاجرين… إلخ. علاوة على ذلك، عندما نقرأ النصوص المُفرّغة حرفياً بالمقارنة مع تحليلات الباحثين، يصعب علينا أن نرى كيف يعاني المبحوثون من سوء الإدراك. على العكس من ذلك، فإنهم يُظهِرون فهماً اجتماعياً عميقاً لمصيرهم، بحيث تكاد تكون مفردات سوء الإدراك والعادات غائبة تماماً في هذا الكتاب.
ومما يثير الدهشة أيضاً، أن العرض المنهجي في نهاية الكتاب يسمح لبورديو بالحديث عن «العمل السقراطي» للباحثين، الذي ساعد على تسهيل التفسير، وعلى تقديم عالم الاجتماع كـ «قابلة» تساعد الناس على إدراك ما كانوا يعرفونه دائماً، أي إدراك طبيعة الهيمنة التي يخضعون لها. يمكننا أن نرى فيه، بطريقة ما، ممارسة لعملية توعية يتم فيها جعل «الضمني» يصبح «صريحاً» و«ملفوظاً». في الواقع، يمكن قراءة فصل «الفهم» باعتباره تطوراً لامعاً لتقنيات ومعضلات عالم الاجتماع كمثقف عضوي من الطبقات الدنيا. لكن بورديو لا يحاول التوفيق بين هذا الكتاب وبين إدانته لـ «المثقف العضوي». نعم، أن يكون المرء مثقفاً عضوياً فهذا يتطلب عملاً مطولاً وصبراً عنيداً ويقظة تأملية وجماعية شديدة البأس. لكن غرامشي لم يدّعِ أبداً أن المهمة كانت بسيطة. إضافة لذلك، بالنسبة له لا يمكن لهذا المشروع أن يكون فردياً؛ بل جماعياً.