وصلت تيريزا ماي، رئيسة الوزراء البريطانية، إلى نهاية الأسبوع الماضي مرتاحة، إذ كانت قد تمكّنت من الحصول على إجماعٍ بين أعضاء حكومتها، خلال اجتماع في مقرّ إقامتها الصيفي في تشيكرز يوم الجمعة، للموافقة على مسودّة مقترحات لأسلوب إدارة فكّ الارتباط البريطاني مع الاتحاد الأوروبي (بريكست) من الناحية التجارية، وتصوّرات لنمط علاقة المملكة المتحدة مع دول الاتحاد الأوروبي بعد دخول قرار انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي حيّز التنفيذ في آذار عام 2019.

لم يكن هذا الإنجاز بسيطاً، إذ تواجه ماي واقع وجود انقسام عميق للغاية داخل حكومتها، هو ذاته انعكاسٌ لانقسام عميق آخر داخل السياسة البريطانية ككل، يسيطر على المشهد السياسي عموماً منذ استفتاء حزيران عام 2016، حين فاز خيار الخروج من الاتحاد الأوروبي بفارق بسيط إثر حملة انتخابية حافلة بالشعبوية والأكاذيب والعنصرية من قِبل الجانب المعادي للاتحاد الأوروبي، أي الجناح الأكثر يمينية من حزب المحافظين، بالإضافة للقوميين اليمينيين البريطانيين، استُخدمت فيها وسائل التضليل ونشر الأكاذيب  عبر الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي نفسها التي ساهمت في نجاح دونالد ترامب بعدها بأشهر قليلة. وتحوم حول تلك الحملة شبهات التدخّل الروسي نفسها التي أُشير إليها في تقارير عديدة بُعيد فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية.

وتنتمي مقترحات ماي إلى طيف ما سُمّي صحفياً «البريكست الناعم»، أي فكّ ارتباط مدروس وبطيء، مع محاولة الحفاظ على بعض العلاقات الخاصة، لا سيما التجارية منها، بين بريطانيا وكتلة دول الاتحاد الأوروبي عن طريق اتفاقيات شراكة جديدة. ويسمّى هذا «البريكست» ناعماً مقابل أطروحات «خشنة»، تدعو لفكّ الارتباط بشكل كامل ومباشر ونهائي، تقودها الأجنحة الأكثر عداءً للاتحاد الأوروبي داخل حزب المحافظين، بالإضافة لأوساط القوميين اليمينيين، وبعض النواب العماليين. وقد كانت مسودّة مقترحات ماي وسطيّة، لا تُرضي أحداً من فرقاء الحكومة، لكنها بالمقابل لا تشكّل استفزازاً لحدّ اعتبارها غير مقبولة من قبل أيّ فريق، أو هكذا اعتقدت ماي حين قدّمتها ولم تجد تصويتات رافضة في اجتماع تشيكرز.

لكن ارتياح ماي سرعان ما تبدّد، فبدل أن تبدأ بالتجهيز لإقناع كتلة نواب حزبها في مجلس العموم بصوابية تصوّراتها خلال هذا الأسبوع قبل التوجّه بمقترحاتها نحو بروكسل في جولة جديدة من المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي، وجدت نفسها أمام أزمة حكومية اعتقدت أنها كانت قد تجاوزتها، إذ أعلن ديفيد ديفيس، الوزير المسؤول عن إدارة ملف فكّ الارتباط مع الاتحاد الأوروبي، استقالته يوم الأحد الماضي اعتراضاً على أطروحات تيريزا ماي، ليتبعه بعد ساعات بوريس جونسون، وزير الخارجية.

ورغم أن الثقل الرمزي لمنصب وزارة البريكسيت كان كافياً بحدّ ذاته لإعلان أزمة حكومية، إلا أن ديفيد ديفيس أقل أهمية ونفوذاً من هذا الثقل الرمزي، كشخصية سياسية ضمن حزب المحافظين وضمن الحكومة أيضاً، إذ كانت تيريزا ماي قد تولّت بنفسها سياسياً (وبمساعدة من أوليفر روبينز من الناحية التقنية) قيادة مفاوضات فكّ الارتباط مع الاتحاد الأوروبي، وبالكاد أدّى ديفيس أدواراً فعّالة في هذا المجال. لكن استقالة بوريس جونسون، وزير الخارجية المشاغب والثرثار والشعبوي، تعني تهديداً صريحاً لقيادة تيريزا ماي لحزب المحافظين وللحكومة البريطانية في لحظة شديدة الصعوبة بالنسبة لها، ليس لأنها وجدت نفسها بدون وزير خارجية في اليوم الذي كانت لندن تستقبل فيه اجتماعاً على مستوى وزراء الخارجية حول البلقان، وقبل أيام من اجتماع شديد الأهمية على مستوى دول حلف شمال الأطلسي، فغياب بوريس جونسون يكاد يكون أكثر فائدة من حضوره أو تصريحاته بالنسبة للسياسة الخارجية البريطانية، لكن لجونسون حيثية سياسية مهمة ضمن جناح «الصقور» المحافظين، وقد تضاعفت هذه الحيثية إثر فوز استفتاء البريكسيت، فهو يشكّلُ تهديداً صريحاً ومباشراً لزعامة وشرعية تيريزا ماي، وكان هذا الخطر هو ما دعاها لتعيينه وزيراً للخارجية في محاولة لاحتوائه وترويضه، يبدو واضحاً اليوم أنها كانت محاولة فاشلة ومكلفة سياسياً.

وقد أُعلن صباح الاثنين عن تعيين دومينيك راب خلفاً لديفيد ديفيس في منصب وزارة البريكست. راب، المحامي اللامع في أواسط الأربعينات من العمر، هو أحد الوجوه الصاعدة في أوساط المحافظين الداعين للانفصال عن الاتحاد الأوروبي، وقد كان أحد المنادين بخروج بريطانيا من الاتحاد منذ ما قبل الاستفتاء، وشارك بفعالية في الحملة المؤيِدة للبريكست؛ بالمقابل، قرّرت ماي تعيين وزير الصحة جيرمي هانت وزيراً للخارجية عوضاً عن بوريس جونسون، وعلى عكس راب، كان هانت، المخضرم في إدارة القطاع الصحي البريطاني، من المؤيدين لبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي.

أمام وقائع الأيام الأخيرة، وقبل أقلّ من تسعة أشهر من تاريخ دخول قرار انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي حيّز التنفيذ، تجد بريطانيا نفسها دون خطّة مقترحة حول كيفية سير الأمور على الصعيدين السياسي والاقتصادي، ودون استراتيجية ملموسة لإدارة المفاوضات مع بروكسل حول كيفية استعادة الصلاحيات أو إمكانية التوافق على إبقاء «علاقات خاصة» في بعض المجالات. وبالنظر إلى تسارع الأمور قد تجد بريطانيا نفسها أيضاً دون حكومة، إذ ضجّت الساعات الماضية بمطالبات الحزب العمالي المُعارض، برئاسة جيرمي كوربن، لتيريزا ماي بإعلان انتخابات مبكّرة، كما لا تُخفي الأوساط الأكثر تشدداً ضمن المحافظين الجدد انتقاداتها لماي ومطالباتها لها بالتنحّي، مطالبات قد تتطوّر إلى محاولات حجب الثقة عن حكومة ماي من قِبل أوساط حزبها نفسه، فشخصيات مثل جاكوب ريس موغ، أو بوريس جونسون نفسه، يرون في هذه اللحظة فرصتهم للإمساك بزمام الحزب، وقيادة بريطانيا في طريقها نحو مجهولٍ-مرغوبٍ ما.