تقوم الرؤية الروسية للحلّ السياسي في سوريا على فكرة أن ما ينبغي أن يجري هو حوار بين سوريين مختلفين في الرؤى، وليس تفاوضاً يُفضي في النهاية إلى انتقال سياسي كما تنصّ القرارات الأممية الناظمة لمسار جنيف. وقد حاولت روسيا مطلع العام الجاري فرض هذه الرؤية عبر فرض مسار سوتشي بديلاً عن مسار جنيف، ولمّا فشلت في ذلك بعد أن تحوّلَ مؤتمرها ذاك إلى مهزلة مثيرة للسخرية، لجأت إلى نقل المُخرَج الأساسي لسوتشي، اللجنة الدستورية، إلى مسار جنيف.
في سوتشي، فشلت روسيا في جعل الحوار بديلاً عن التفاوض، لكنها نجحت لاحقاً، عبر انتزاع موافقة الهيئة العليا للمفاوضات على المشاركة في اللجنة الدستورية، في تمييع التفاوض وإفقاده مضامينه، بل وفي تزوير القضية السورية كلها. وهذا أساساً عبر اختزال القضية السورية إلى مشكلة دستورية، بينما جوهر المشكلة في سوريا هو نظام حكم لم يلتزم يوماً بأي دستور، بما في ذلك الدساتير التي أقرّها بنفسه لنفسه، وكان دستوره الوحيد دوماً هو البقاء في السلطة «إلى الأبد».
وافقت المعارضة الرسمية تحت الضغط على الانخراط في نقاش الدستور، بصرف النظر عن الانتقال السياسي ومصير المعتقلين وصلاحيات الأجهزة الأمنية، أي بصرف النظر عن كل ما هو محوريٌ في القضية السورية. ولكن ما الذي كان سيخسره السوريون المناهضون للنظام لو أن المعارضة السياسية رفضت هذا التزوير؟ لا شيء بالتأكيد. ذلك أن ما آلت إليه جميع اتفاقات خفض التصعيد حتى الآن يؤكد أن المسار العسكري للنظام وروسيا لا علاقة له بالمسار السياسي، وأن المذابح المتنقلة مرشحة للاستمرار أياً كان ما يحدث على مستوى العملية السياسية. بل أكثر من ذلك، لا يُخفي مسؤولو النظام وعلى رأسهم بشار الأسد هذه الحقيقة، ولا يبذلون أي جهد لتمويهها والمناورة حولها، فهم يقولون إنه لا يوجد في سوريا سوى إرهابيين. لا معارضة ولا من يعارضون.
لا يوجد دليلٌ واحدٌ على أن الانخراط في مسار سياسي وفق رؤية روسيا يمكن أن يحمي مدنياً واحداً من الموت، ولا منطقة واحدة من الاجتياح والإخضاع أو التهجير أو «المصالحة» (أي الإذعان تحت تهديد السلاح المتفوق). وفوق هذا فإنه ليس للمعارضة السياسية وزن يذكر على الأرض، ولم يحدث أن فاوضها الروس والنظام بخصوص أي منطقة من المناطق التي تم إخلاؤها أو فرض مصالحات عليها، حتى أن مسار الأحداث في ريف دمشق وريف حمص الشمالي وأخيراً درعا، ما كان ليتغير لو لم يكن هناك ائتلاف ولا هيئة عليا للمفاوضات أصلاً. والأرجح أن المسار نفسه يمكن أن يتكرر في إدلب إذا ما حصل توافق على اجتياحها أو اجتياح أجزاء منها. ثم أن تركيا عندما تريد إجراء ترتيبات معينة في إدلب بالتوافق مع روسيا، فإنها تتحدث مع قادة الفصائل والوجهاء المحليين، وليس مع هيئات المعارضة السياسية.
كان وفد المعارضة الذي رفض دخول قاعات «الحوار» في سوتشي قد أوكل مهمة التحدث باسمه فيها إلى ممثليّ تركيا، ويبدو واضحاً أن موافقة الهيئة العليا للمفاوضات على المشاركة في اللجنة الدستورية ناتجةٌ عن إرادة تركيّة روسيّة. واللافتُ هنا هو أنه رغم عدم تأثير الهيئة العليا على مسار الأحداث الميدانية، فإن هناك إصراراً على إجبارها على الدخول في العملية السياسية وفق الرؤية الروسية، وهو ما تتكفل به تركيا على ما يبدو، في مقابل تعاون روسيا معها في الشمال السوري.
يعني هذا الإصرار على جرّ المعارضة إلى خيار «الحوار» الروسي أن ثمة عامل قوة تملكه هذه المعارضة، وتبدو عاجزة عن استثماره، وهو حاجة الجميع إلى توقيعها على حلّ سياسي في نهاية المطاف، أو حاجة الجميع على الأقلّ إلى وجودها في مسار تفاوضيٍ مائعٍ مرعيٍ أممياً، ريثما تنتهي جميع الترتيبات الميدانية على الأرض. وفي كلتا الحالتين، فإن المطلوب دولياً وإقليمياً من المعارضة أن تكون شاهد زورٍ على تصفية القضية السورية وإفراغها من معناها، عبر تحويلها إلى إجراءات تقنية تتعلق بصياغة دستور لن يحترمه أحد، دستور ستقوم على تنفيذه السلطات نفسها التي تقتل السوريين تحت التعذيب، وتعترف بجرائمها عبر اتصالات هاتفية مع ذوي الضحايا تخبرهم بوفاة أحبابهم بـ… «أزمات قلبية»، على غرار ما بات يحصل بكثافة خلال الأيام الأخيرة.
إذا كان هناك دوافع لا نعرفها للقبول بهذه المهزلة، فإن الهيئة العليا للمفاوضات مدينةٌ على الأقل بتقديم إجابة واضحة للسوريين حول هذه الدوافع، حول أسباب قبولها بما يبدو أنه يمكنها رفضه دون عواقب واضحة، سوى أن يتنحى أعضاؤها عن العمل السياسي. لم تُقدَّم الإجابة المأمولة في أي وقت، إلا إذا كان ما قاله نصر الحريري، رئيس الهيئة العليا للمفاوضات، في السادس من تموز على تويتر يصلح كإجابة: «إيماناً منها بضرورة مواصلة العمل والصمود في كل الجبهات بما فيها السياسية، سلّمت هيئة التفاوض السورية قائمة مرشحيها للجنة الدستورية للمبعوث الخاص للأمم المتحدة».
ليس مفهوماً من أين جاء السيد نصر الحريري بكلمة «صمود» في سياق الحديث عن القبول بالسير في عملية التزوير الكبرى تلك. الاسم الصحيح للذهاب إلى اللجنة الدستورية هو الاستسلام، شأنه شأن توقيع المصالحات مع روسيا والنظام. أما الصمود فهو ما حاول جزء من مقاتلي حوران القيام به قبل أن يُسقَطَ في يدهم في مواجهة التخيير الروسي بين التدمير الشامل لحواضر حوران، وبين القبول بالإملاءات الروسية التي هي في واقع الحال إملاءات العالم كله، الذي يريد أن تعود حوران كلها إلى سلطة «الدولة السورية».
لكن خلافاً لنصر الحريري، لم تُسمِّ غرفة العمليات المركزية في الجنوب السوري في بيانها الأخير الاستسلامَ الذي أُجبِرَت عليه صموداً. ولعلّ أفضل ما يمكن أن يكون رداً على نصر الحريري وكل المنظومة الدولية التي تسوق السوريين بالحديد والنار إلى حكم الأسد، هو ما ختمت به غرفة العمليات المركزية بيانها الأخير: «ذاك عالمٌ أديانه وأخلاقه ومعارفه وعلومه كلها عبث».