بدأت عمليات إخلاء كفريا والفوعة في ريف إدلب ليل أمس الأربعاء الثامن عشر من تموز 2018، وذلك بانطلاق سيارات إسعاف تحمل حالات مرضية من البلدتين باتجاه معبر العيس قرب حلب، لتنطلق بعدها حافلات بدأت فجر اليوم بنقل ما تبقى من مدنيين ومقاتلين في البلدتين عبر المعبر نفسه إلى مركز إقامة مؤقت في جبرين في ضواحي مدينة حلب الشرقية، لتكتمل بذلك حلقة جديدة من حلقات التهجير وإخلاء مناطق من سكانها في سياق الحرب السورية.

وكانت 121 حافلة و10 سيارات إسعاف قد دخلت إلى بلدتي كفرية والفوعة نهار أمس، وذلك استعداداً لتنفيذ اتفاق كان قد جرى الإعلان عنه يوم الثلاثاء الماضي، يقضي بإخراج جميع السكان المدنيين وعناصر الميليشيات الموالية للنظام من البلدتين اللتين تخضعان لحصار من قبل فصائل في ريف إدلب أبرزها هيئة تحرير الشام، مقابل إطلاق النظام سراح 1500 معتقل من سجونه، إلا أن عمليات الإخلاء تأخرت عن موعدها لتبدأ ليلاً حسب ما نقلت وكالة سبوتنيك الروسية.

وفي حين نقلت وكالة رويترز عن مصدر في المعارضة قوله إن الاتفاق جرى بين هيئة تحرير الشام والحرس الثوري الإيراني، للإفراج عن 1500 معتقل مقابل خروج كل عناصر الميليشيات والسكان المدنيين من بلدتي كفريا والفوعة، البالغ عددهم حوالي سبعة آلاف شخص، فإن مصادر أخرى، من بينها المرصد السوري لحقوق الإنسان، قالت إن هذه العملية تتم بموجب اتفاق روسي- تركي، يشمل بنوداً أخرى ذات صلة بمصير منطقتي إدلب وتل رفعت.

لا يبدو ممكناً تأكيد أي من الروايتين على نحو قاطع، ذلك لأن ملف البلدتين بالغ التعقيد والتشابك، وسبق أن كانتا جزءً من اتفاقات جرى تنفيذ مراحل منها، وتدخلت فيها أطراف متعددة، إلا أن مصادر في المعارضة المسلحة شمال سوريا قالت للجمهورية إن: «الاتفاق الأخير هذا جاء بعد طلب تركي مباشر لهيئة تحرير الشام، مقابل ضمانات من أنقرة بعدم استهداف إدلب بأي عملية عسكرية مستقبلاً».

ويبدو أن السياق والظروف التي تحيط بالاتفاق ترجّح الرواية التي حصلت عليها الجمهورية من مصدر في المعارضة، خاصة وأن خروج مقاتلي الميليشيات الإيرانية من كفريا والفوعة سيصعّبُ مهمة النظام إذا ما أراد فتح معركة في إدلب، نتيجة خسارته لنقطة ارتكاز رئيسية في قلب المحافظة كان يمكنه الاعتماد عليها لتقطيع أوصالها على غرار ما كان يقوم به في سائر عملياته العسكرية، وهذا قد يعني أن إيران ما كانت لتوافق على هذا الاتفاق لو أنها بصدد عملية عسكرية في إدلب، لكن يبقى أن هذه التكهنات والتحليلات المُرجّحة ليست قاطعة، في ظلّ شحّ المعلومات وسرية معظم الاتفاقات ذات الصلة بمسار العمليات الميدانية في سوريا.

يتابع المصدر من المعارضة حديثه للجمهورية فيقول: «الاتفاق يشمل الإفراج عن 1500 معتقل سيختارهم النظام بنفسه بعد أن رفض تسلّم أي قائمة بأسماء المعتقلين من جانب الفصائل، كما أنه يشمل الإفراج عن 43 معتقلاً لدى ميليشيات حزب الله بعضهم مقاتلون، والآخرون مدنيون من أبناء الزبداني ومضايا».

من جهتها نشرت وسائل إعلام تابعة للنظام أن الاتفاق يشمل إطلاق هيئة تحرير الشام سراح أربعين شخصاً، هم باقي أسرى اشتبرق بريف جسر الشغور جنوب غرب محافظة إدلب، الذين كانت فصائل جيش الفتح قد احتجزتهم من القرية ذات الغالبية العلوية عند سيطرتها على المنطقة عام 2015. فيما نشرت وكالة سمارت أن الميليشيات الموالية للنظام في كفريا والفوعة، ستفرج عن 15 أسيراً لديها بين مدنيين وعسكريين.

كفريا والفوعة، اللتين تقطنهما غالبية من أبناء الطائفة الشيعية، كانتا قد خضعتا لحصار جزئي منذ تصاعد المواجهات العسكرية بين قوات النظام السوري وفصائل المعارضة المسلحة أواسط 2012، وتحولتا إلى نقطة ارتكاز للميليشيات المرتبطة بإيران وحزب الله اللبناني، ثم تحوّل الحصار الجزئي إلى حصار كلي بعد سيطرة تحالف جيش الفتح على مدينة إدلب عام 2015.

وكانت البلدتان جزءاً من اتفاق أُطلق عليه اتفاق المدن الأربعة ربيع 2017، وهو اتفاق بدأته حركة أحرار الشام وجيش الفتح، ومن ثم تسلمت ملفه هيئة تحرير الشام بعد انفراط عقد جيش الفتح. وكان هذا الاتفاق يقضي بإخراج أعداد من المدنيين والمقاتلين من البلدات الأربعة ودخول كميات متساوية من المساعدات الإنسانية إليها، في حين دخلت قضية الأمراء القطريين المخطوفين في العراق على خط الاتفاق، حيث جرى دفع فدية بلغت مليار دولار حسب تقرير نشرته بي بي سي، وتهجير جميع سكان بلدتي الزبداني ومضايا نحو الشمال، مقابل الإفراج عن المخطوفين القطريين لدى ميليشيات شيعية عراقية.

لم تكن بنود الاتفاق واضحة آنذاك، ورافقت مراحل تنفيذه عراقيل، تبادل النظام والفصائل الاتهامات بالمسؤولية عنها، من بينها المذبحة التي تسببت بها سيارة ملغمة استهدفت باصات الخارجين من كفريا والفوعة على النقطة الفاصلة بين مناطق سيطرة النظام ومناطق سيطرة المعارضة. وقد تحدث أنباء وقتها عن أن الاتفاق كان يفترض أن يؤول في مراحله الأخيرة إلى إخلاء كامل لكفريا والفوعة، لكن هذا الأمر لم يتم لأسباب لم تتضح تماماً، رجّحت تحليلات أنها تتعلق برغبة الأطراف في ربط ملف كفريا والفوعة بملف أحياء دمشق الجنوبية.

عاد اسم البلدتين إلى الواجهة مجدداً في سياق اتفاق عقد نيسان الماضي، وقضى بخروج عناصر هيئة تحرير الشام وعائلاتهم من مخيم اليرموك، مقابل خروج من يرغب من أهالي بلدتي كفريا والفوعة. ومجدداً لم تكن بنود الاتفاق واضحة، وقد تم تنفيذ عمليات إخلاء وقتها من كفريا والفوعة، لكنها لم تشمل سكان البلدتين والمقاتلين المتمركزين فيهما بشكل كامل.

وبسبب هذا التعقيد والتشابك، تتضارب الروايات اليوم بين القول إن الإخلاء يأتي استكمالاً لاتفاقات إيران مع هيئة تحرير الشام، وهو ما يحرص الطرفان على إظهاره من خلال وسائل الإعلام والمنصات المرتبطة بهما أو الحليفة لهما، وبين القول إنه يأتي في سياق تفاهمات روسية تركية، تثبت أن روسيا وتركيا قد باتتا الطرفين المتحكمين بمصير الشمال السوري دون غيرهما من الأطراف.

على صفحات التواصل الاجتماعي، أعرب كثيرون من أبناء البلدتين في كفريا والفوعة عن رفضهم لهذا الاتفاق، قائلين إنهم كانوا ينتظرون قوات النظام لفك الحصار عنهم، ولم يكونوا ينتظرون اتفاقاً يقضي بإخراجهم من بيوتهم بعد سنوات من الحرب. أما أبناء قرى ريف إدلب الخارجة عن سيطرة النظام، فقد تراوحت تعليقاتهم بين الترحيب بالاتفاق باعتباره تأكيداً على أنه ليس هناك عملية عسكرية ستستهدف المنطقة، وبين التخوف من هذا الاتفاق، باعتبار أنه قد يكون تمهيداً لعمليات عسكرية سينفذها النظام مستخدماً كعادته نهج الإبادة وسياسة الأرض المحروقة، دون أن يكون له أنصارٌ ومقاتلون محاصرون يقلق على مصيرهم في المنطقة.

يأتي هذا الاتفاق في وقت تتحدث فيه دوائر النظام وحلفائه عن أن إدلب ستكون على موعد مع معركة كبرى لاستعادة السيطرة عليها، ويقول مسؤولون أتراك بالمقابل إن بلادهم ستعمل على ضمان ألّا يحدث ذلك، فيما تؤكد مسارات الأحداث السابقة في مجمل مراحل الثورة والحرب في سوريا، أنه لا يمكن التعويل على أي تصريحات من أي طرف محلي أو إقليمي أو دولي، ولا على أي ضمانات أو اتفاقات معلنة.

لا يبدو إذن أنه يمكن اتخاذ هذا الاتفاق منطلقاً لاستشراف مصير محافظة إدلب، لكنه يصلح منطلقاً لاستشراف مصير البلاد التي أغرقها النظام وحلفاؤه بالدم والصراعات الطائفية والإثنية وأعمال التهجير بغية التمسك بالسلطة، فيما أمعنت بعض الفصائل المناوئة للنظام مع حلفائها وداعميها الإقليميين والدوليين في سلوكيات مماثلة، وصلت في استهتارها بحياة أبناء البلاد ومستقبلهم إلى حدّ جعل إطلاق سراح أمراء مخطوفين خارجها، بنداً في عمليات قذرة للتهجير وتبادل السكان داخلها.