«يعدّ العنف مخادعاً. إذ إنّهُ مُدان في كل أنحاء العالم، ورغم ذلك موجود في كل مكان، ومعظمنا مفتون به ومرعوب منه، وهو المقوِّم الأساسيّ في كيفية إمتاعنا لأنفسنا (قصص الأطفال، الأدب العالمي، صناعة الأفلام)، كما أنه سمة أساسية لكثير من مؤسساتنا الاجتماعية. وفي معظم أرجاء العالم نراه شائعاً بشكل سيء السمعة في الحياة الأسرية والأمور الدينية والتاريخ السياسي»
روبرت ليتكروبرت ليتك، أستاذ الفلسفة بجامعة wilfred laurier بكندا.
يُسرف اليمين السياسي المحافظ في سوق تنويعات من الحجج التي تبرّرُ العنف، وترفض في الوقت ذاته العنف المضاد بوصفه استخداماً غير قانوني أو غير شرعي للقوة، بينما قدَّم كلٌ من ماركس وإنجلز، والماركسيون من بعدهما، مبررات مختلفة لاستخدام العنف في السياقات الثورية المتأجّجة، دون أن تحوي تلك النقاشات جميعها جدالاً منظّماً حول القضايا الأخلاقية المتعلقة بتبرير العنف، هذا إذا كانت قد تبنت الرؤية القائلة بإمكانية تبرير بعض ممارسات العنف ابتداءً.
غالباً ما تكون النقاشات المُثارة حول العنف نقاشات انفعالية مؤدلجة مدفوعة دولتياً؛ تتناول بشكل أساسيّ العنف السياسيّ الذي سينحصر خطابياً في لفظة «الإرهاب» وحدها، بما تحمله من حمولات تغييبية تلقي الضوء على الجناة الإرهابيين دائماً، وتبرئ ساحة الطرف الآخر، أعني النظام/الدولة.
ليس ثمّة مفهوم جامع مانع عن العنف ومقابله اللاعنف، وبحسب نيوتون جارفرنيوتون جارفر، الأستاذ بجامعة Buffalo بنيويورك.، يصعب التوصل إلى أولئك الذين يتبرؤون من العنف، فقد كان كلٌّ من تولستوي وغاندي وموستي من مؤيدي اللاعنف في القرن الماضي، ولكن عندما يقرأ أحد الأشخاص لهم، فسوف يدرك أنهم لا يتبرؤون جميعاً من الشيء نفسه، وأن هناك كثيراً من الأمور المحددة والمفصَّلة في كتابات أولئك الثلاثة، إلا أنه ليس من السهل تجنب انطباع أن اللاعنف ما هو في الحقيقة إلا المبادئ الأخلاقية، وليس الالتزام المحدد لتجنب نوع محدد من السلوك.
في العام 1969، استولى طلاب جامعة Dartmouth على أحد المباني الإدارية، وأثناء إخراج عمداء الكليات من المبنى، احتجَّ أحدهم بأن الطلاب يستخدمون العنف معه، فأجاب أحد الطلاب بأنهم لا يستخدمون العنف، ولكنهم يستخدمون القوة!
يوجد كثيرٌ من التشويش عند مناقشة ماهية العنف، ورغم ذلك، فقد تطور مفهوم العنف على المستوى التحليليّ على نحو ملحوظ. يتعقّب جارفر الجذور اللغوية لكلمة «العنف»، مشيراً إلى أنَّ الكلمة الفرنسية يعود أصلها إلى اللاتينية، وربما اليونانية من قبل. ويتكون الأصل اللاتيني لمفردة العنف من كلمتين لاتينيتين: كلمة «vis» بمعنى القوة، وكلمة «latus» التي هي التصرف الثالث من كلمة «fero» بمعنى استخدام، وهكذا فإن الكلمة اللاتينية «violare» تتركب من كلمتي قوة واستخدام، والتصريف المضارع لها «violans» هو مصدرٌ واضحٌ لكلمة «violence» الإنكليزية. إذن كلمة «عنف» تحوي في نشأتها مفهوم استخدام القوة ضد شيء ما، ومن الخصائص المهمة لنشأتها أنَّ كلمة «violation» (انتهاك) تنبع من المصدر الخاص بكلمة «violence»، مما يوحي لنا بفكرة مهمة هي أنَّ العنف يُعدُّ انتهاكاً لشيء ما، إذ أن استخدام القوة ضد أحد الأشياء يُعدّ بصورة أو بأخرى انتهاكاً لها.
يَخلُص جارفر من هذا المدخل اللغوي إلى أن العنف يتصل بفكرة الانتهاك أو الاعتداء، أكثر من ارتباطه بفكرة القوة، ثمّ يفصّل أربعة أنماط للعنف بالاعتماد على معيارين: الأول، ما إذا كان العنف شخصياً أم مؤسساتياً. والثاني، ما إذا كان العنف علنياً أم خفيّاً.
ثمّة معايير مختلفة يرتكز عليها تناول مفهوم العنف، من بينها تعريف العنف على أساس: 1) القائم به (عنف فرديّ، عنف جماعيّ)، 2) من وقع عليهم العنف (أشخاص، ممتلكات، أو حتى حيوان أو جماد)، 3) درجة العنف (فتّاك، غير فتّاك)، 4) عنف اشتباكي متبادل في مقابل عنف مُمَارَس عن بعد، 5) العنف الدفاعي والعنف الهجومي، 6) العنف المنظم والعنف العشوائي، 7) العنف الممتد، والعنف المؤقت.
تُنتج المعايير السابقة، إلى جوار غيرها من المعايير، عدداً كبيراً من التعريفات التحليلية لمفهوم العنف، وقد حاول عالم الاجتماع النرويجي جوهان جالتنج، المهتم بأبحاث السلام العالمي، صكّ تعريف موسّع للعنف بناءً على أنماطه المختلفة، بهدف التكيف مع جميع تلك الأنماط. فقام بالتمييز بين العنف الشخصي الذي يشتمل على العنف البدني والعنف النفسي، ويمثّل حالات دالّة على العنف النفسي بالكذب وغسيل المخ والتلقين والتهديدات، وبين العنف البنيوي الذي يمثل الظلم الاجتماعي. ويخلُص إلى أن العنف يتواجد عندما يتم التأثير على الأشخاص، بحيث يكون مستوى إدراكهم الجسدي والذهني الفعلي أقلّ من مستوى إدراكهم الاحتمالي.
لا نهدفُ هنا إلى تحرير مفهوم العنف، ولكن ثمّة ملاحظة أولية تقول إن تعريف العنف قد ساد دائماً من منظور القائم به، لا من وجهة نظر الضحايا، أولئك الذين عانوا من العنف وعاينوه، وهم أصحاب الحق في الإنصات إليهم دون غيرهم، بيدَ أنهم يُقاسون الإهمال أيضاً/ وهو عنفٌ خفيّ. تقول إحدى رفيقات تشارلوت ديبلو: «لقد توفيتُ في معسكر اعتقال أوشفيتز، إلا أنّ أحداً لم يعرف ذلك».
في السياق العربي، كانت حالة تسييس العنف محرّكاً قوياً لقمع ضحاياه، بل وتجريم مجرد الحديث عن هؤلاء الضحايا، بحيث تنظر الحكومات والأنظمة بعين الريبة دائماً إلى منظمات المجتمع المدني التي تلحّ في طلب أصوات الضحايا وقضاياهم. بحسب الأنثروبولوجي الفنلندي صامولي شيلكه، برزت حالة إراقة الدماء كَحلّ مرجوّ لتوترات واضطرابات الفترات الثورية، وفي تعليقه على العنف المروّع الذي وقع في صيف وخريف عام 2013 في مصر، يقول «إنه على الرغم من أنَّ العنف الذي انتشر في أعقاب 30 يونيو 2013، والذي كان من الواضح أنه نتيجة لمناورة متعمدة وتصعيد من قبل أقوى اللاعبين المعنيين، إلا أن كثيراً من دعم المصريين الفعلي لهذا العنف كان أخلاقياً في طبيعته، كنتيجة لتكثيف حالة الاستقطاب حيث تصاعدت الحاجة إلى الدفاع عن الحق في مواجهة الباطل في مسار مستمر مشحون بالتوتر والارتباك والقلق. في هذا السياق من «الخوف المكسور»، لم يكن هناك شيء يماثل التغلب على هذا الخوف، وكان توقّع «إراقة الدماء» هو الوعد بالوصول إلى الوضوح والنقاء والحقيقة من خلال معركة حاسمة. يمكن وصف حالة التحريض على سفك الدماء ودوامة العنف بأنها شكل من أشكال التأهيل الإيتيقي، حيث يتم تأسيس شعور بالنقاء من خلال المواجهة الدراماتيكية الجذرية».
لم تكن ممارسة العنف في السياق العربي تعدو إحدى ممارسات القوة التي يسعى من خلالها الفاعل القوي إلى فرض سيطرته وسرديته، وإخضاع الآخر السياسي وطمس سرديته تماماً. وهنا نلحظ كيف غابت عن الساحة الأكاديمية العربية بشكل ملحوظ دراسات العقوبات (التي تقتضي وجود جانٍ ومجنيّ عليه مُورس عليه عنفٌ ما) بوصفها مجال دراسة القانون وفلسفة التشريع، بينما سادت في مراكز البحث المستقلة ووسائل الإعلام الرئيسية الأبحاث والتقارير التي تتناول الإرهاب بوصفه الممارسة الأكثر شيوعاً في العنف السياسي. والحديث عن «الإرهاب» هنا هو ديناميكية خطابية شعبوية وحالة تحريض على من وقع عليهم العنف، ابتداءً بوصفهم إرهابيين بشكل مجرد وحاسم حتى من قبل أن تتم إدانتهم إجرائياً، وهي غاية ما ترنو إليه حالة تسييس العنف التي تُعدّ بذاتها إحدى حالات العنف الإقصائيّ.
اختلفت استجابات هؤلاء الضحايا تجاه حملات العنف المنظمة التي شنّتها أجهزة الدولة في أعقاب إجهاض «الانتفاضات» العربية. في الحالة المصرية على سبيل المثال، يمكننا بشكل عام التفرقة على نحو إجرائي بحت بين نوعين من الاستجابة التي شكلت ردة فعل هؤلاء الضحايا. أولاً الاستجابات الفردية للإسلامويين المنشقين الذين يحملون بذرة تنظيمية تبلورت لاحقاً إلى أشكال تنظيمية تمارس عنفاً منظماً كما في حركتي «حسم» و «لواء الثورة»، وهي الاستجابات التي كسرت الفرضية التقليدية في دراسة الحركات الاجتماعية عموما والإسلاموية خصوصاً، والتي تقضي بأن هذه الحركات تميل إلى التكيّف عندما تواجَه بقمع وإقصاء النظام، كما دعمت في الوقت نفسه الشكوك الدولتية في سردية الأحزاب الإسلاموية التي موضعت نفسها كحركات وسطية بديلة للتنظيمات الجهادية العنيفة. ثانياً الاستجابات المدنية الليبرالية التي اتخذت منحى القانون باعتباره حاجز الصدّ ضد ممارسات العنف الواقع ضدهم، متغافلين عن السياق الذي يشتبك فيه القانوني بالسياسي حيث تمارس السلطة (الشرعية) العنف، بل تحتكره بحسب القانون نفسه من خلال الأجهزة الأمنية التي حولت ممارسة العنف إلى وظيفة قومية.
لقد شكّلت الخبرات الشخصية جوهر استجابات هؤلاء الضحايا. بحسب خليل العنانيخليل العناني، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة جونز هوبكنز.، تركّز الأدبيات التي تتناول استجابة الإسلامويين للقمع على العوامل المباشرة (السياسية والمؤسسية والسياقية والتنظيمية، وما إلى ذلك)، في حين أننا لا نعرف سوى القليل عن العوامل غير المباشرة أو العوامل «الوسيطة». وتشتمل هذه العوامل على الذاكرة، والمشاعر (الخوف، والكراهية، والانتقام، واليأس، والمقاومة، وغير ذلك)، والتاريخ، والتجارب الشخصية، وغيرهم من العوامل الأخرى. وبالنظر إلى حقيقة أن الإسلامويين يعملون في ظروف استثنائية للغاية، فإن تأثير هذه العوامل الوسيطة في تفسير قابلية تكيّفهم يمكن أن يكون كبيراً. والأهم من ذلك، يمكن لهذه العوامل «الوسيطة» أن تساعدنا على تجنب التركيز على التفسيرات التقليدية لتكيّف الإسلاميين مثل: السياسي والمؤسسي مقابل الأيديولوجي والتنظيمي، لصالح المزيد من التفسيرات التفاعلية والديناميكية العلائقية. يقول العناني: «يمكن للمرء أن يلاحظ بسهولة من خلال القراءة والاستماع إلى القيادة الشابة الشعور باليأس، والانتقام، والمقاومة وهو ما يطغى على بياناتهم. وفي المقابلات الشخصية التي أجريتها معهم، أبدى بعض المُقابَلين مشاعر عنيفة ليس فقط تجاه النظام فحسب، ولكن أيضاً تجاه قياداتهم. إذ يشعرون بالخيانة من الجانبين، وقد قرروا، وإن كان ذلك لعدة أسباب مختلفة، أن يحددوا مصائرهم بأيديهم».
لقد شكّل العنف ذواتاً جديدة لهؤلاء الذين عاينوه بشكل شخصي مباشر، بعد أن عايشوا حالة من «الإبادة الذاتية»، وبحسب سوزان بريسونسوزان بريسون، أستاذة الفلسفة في كلية Dartmouth.، دائماً ما يؤكد الناجون من الصدمات أنهم لم يعودوا بنفس حالتهم التي كانوا عليها قبل تعرضهم لتلك الصدمات.
احتلَّ مفهوم الضحية/الأضحية مكانة مركزية في التقليد الأنثروبولوجي بما ينطوي عليه من أبعاد ثقافية أنثروبولوجية، وقد أكد مارسل موسالأنثروبولوجي المعروف، من روّاد ما يطلق عليه جيل التأسيس الثاني للعلوم الاجتماعية في فرنسا. على أن هذه الممارسة ترتبط بمفهومين مركزيين: مفهوم المقدس ومفهوم المدنس. إنها تعبر عن لحظة الخروج من الخطيئة إلى النقاء، وتضمن الحياة المشتركة والترابط بين الأفراد. وهو ما يؤكده الأنثروبولوجي شيلكه في دراسته عن إيتيقا العنف في مصر بقوله: «إنَّ كثيراً من دعم المصريين الفعلي لهذا العنف كان أخلاقياً في طبيعته… كان توقّع «إراقة الدماء» هو الوعد بالوصول إلى الوضوح والنقاء والحقيقة من خلال معركة حاسمة. يمكن وصف حالة التحريض على سفك الدماء ودوامة العنف بأنها شكل من أشكال التأهيل الإيتيقي، حيث يتم تأسيس شعور بالنقاء من خلال المواجهة الدراماتيكية الجذرية».
لقد قدمت الأنظمة العربية الشمولية ملايين السوريين واليمنيين والليبيين والمصريين قرباناً تتجاوز به «خطيئة الثورة» التي اجترحتها تلك الشعوب. وأخيراً، لا مفرّ من الإنصات إلى أصوات ضحايا العنف في كل مكان، «أتعلمُ أنَّ جراح الشهيدِ تظلُّ عن الثأر تستفهمُ؟».