الأشياءُ من حولي كما هي الآن، وكما ستكون دائماً، يخنقني روتينها، تحاصرني زحمتُها، وكان عليَّ أن أتخذ قراراً جديّاً بالتغيير الفعلي لحياتي الهاربة من وقت الأيام، الماضية بسرعة الضوء في درب اللاجدوى.
الآن، تفيقُ الشمسُ في كبدِ السماء، توهِّجُني، فأُقرّر التالي: أنا سعيدةٌ ومتفائلة هذا الصباح.
عليَّ إذن أن أقفز من فراشي بنشاط، وكي يبدأ اليومُ متفائلاً لا بدّ أن أرتب السرير، أنتقل الى الغرفة المجاورة وأفكر: يبدو الصباحُ ناقصاً تماماً دون قهوتي وصوت فيروز، عليها أن تُباركَ المكانَ من حولي. والآن سأضع «الركوة» على النار، وسأعدُّ فنجانين كاملين من القهوة الشهية.
تباغتني الأفكارُ فأنصتُ لها:
سعد الله ونوس قال: «رائحةُ القهوة شهيةٌ حتى بالنسبة لرجلٍ سيموت». يا له من اكتشافٍ يحبس الأنفاس، مريضٌ بمرضٍ قاتل، وتمّ صكُّ قرار موتِه بختمٍ إلهيّ، وما يوجع أكثرَ أنه قد تمّ إعلامُه بذلك، فكيف يصبحُ لشيءٍ طعمٌ في حياةٍ حُكِمَ عليها بالانتهاء! لكنه يعجب حين يشمُّ رائحةَ القهوة، فتبدو له كدفقةِ حياة! المفارقةُ بدت لي في منتهى العمق والذكاء والرهافة، وجعلتني منبهرةً على الدوام.
الحياةُ من حولي ثابتة، لا تَحِنُّ إلى أحدٍ ولا إلى مكان، لكنني أشعر أن هذا صحيح تماماً، رائحةُ القهوةِ طيبةٌ حتى بالنسبة لرجلٍ سيموت.
أؤكد هذه المرة بصوتٍ عالٍ: «اكتشافٌ مذهل»، يا لها من قصة، وكم يكون وقعُها دوماً مدويّاً في نفسي.
وأكتشفُ أنا هذه المرة أثناء قراءتي لقصة ونوس رحلة في مجاهل موت عابر: الصدقُ تجربةٌ شخصيةٌ في البوحِ عن حدثٍ كبير وفكرةٍ عظيمةٍ تسمو بالروح نحو أفقٍ آخرَ من الحسّ.
آه يا سعد الله، عبَرَك الموت، وهو اليومَ مقيمٌ فينا لا تزعزعُه فكرةُ الرحيل.
تبّاً لأفكاري، أتجاهلُها وأختارُ فنجاناً جميلاً كي يلِّون هذا الصباحَ السعيد، أحمر كبيراً ومرتباً.
أضع كأسَ ماءٍ منعش وبعض حبات الشوكولا، فلا بدّ لها من التواجد ملاصقةً لقهوتي في صباحاتي. أكتفي بالقليل منها ثم أتوجه إلى كنبتي المفضلة، وأبدأ باحتساء فنجاني.
أولُ رشفةٍ يرافِقُها صوت انفجار في الخارج، تعود إليَّ أفكاري مجدداً: ماذا لو كانت هذه الأصواتُ مجردَ مفرقعاتٍ ناريةٍ! كم كان الأمرُ ليصبحَ أقلَّ بشاعةً. لم أحب المفرقعات يوماً، لكنها كانت ستبدو أكثر قبولاً في مشهد الأيام البائس هذا، سأتخيل أنها كذلك، فأنا لن أعكِّرَ هذا الصباح بالشكوى والكآبة، ولن أسمحَ لصوتٍ ساذجٍ منفجرٍ أن يُفسدَ عليَّ سعادتي الصباحية.
فكرةٌ أخرى تمرّ في مخيلتي موازيةً لسابقتها في الوقت نفسه: «الحياةُ ليست سبيس توون»، ليتها كانت، كان كلُّ شيءٍ عندئذٍ سيغدو أجملَ وأكثرَ تلويناً.
«ما علينا»، سأرتبُ أفكاري وأرسمُ خطتي المتفائلة لهذا اليوم.
سأتناول شيئاً خفيفاً ثم سأكتبُ القليلَ من قصتي غيرِ المنتهية، واليوم سأبتسمُ كثيراً في وجه أبي وأمي، وسأخبرهما كم أحبُّهما. سأكون أيضاً في غاية اللطف مع أخي الحبيب، عليَّ أن أكون قريبة منه كقرب الرمش من عينها، وأن أرِقَّ له وأتناسى مجملَ مشاحناته.
ومن يدري! في الوقت الذي نعتقد فيه أننا كنّا الضحايا، قد نكون نحن المذنبين، فالحقيقةُ في النهاية مجردُ وجهةِ نظر!
بين الناس
أمشي في الزقاق ذاته منذ بدأتُ أخرجُ من بيتي متوجهةً إلى عملي، والرائحة البشعة ذاتها تنخرُ تلافيفَ دماغي كل صباحٍ، وصوتُ المرأة الرخيم وهي تشتُمُ زوجةَ ابنها ذاته يعكر صفوَ صباحاتي المتتالية. أشدُّ أصابعي بيدي الأخرى، وأكرر في داخلي: أنا سعيدة ومتفائلة، هكذا قررتُ هذا الصباح.
أتجاهل، أغلقُ حواسي، أسدُّ أنفاسي وأعبر المكان وصولاً إلى الشارع الرئيسي. زحمة الطريق تتناسب طرداً مع ازدياد نسبة الشحادين، فمنذ بدء الحرب حتى الآن تتزايد أعدادهم، حتى أنني أكاد أجزم أنهم اليوم يشكلون شريحةً واسعةً من المجتمع المتدهور نحو القاع هذا. وقد تنوعت أيضاً الطرق التي باتوا يمارسون فيها هذا العمل؛ طفلٌ على يد إحداهن تمشي حافيةَ القدمين بثياب مغبرة، وأخرى تجلس في وسط بقعةٍ من ماءِ الطريق، والثالثةُ تمسك بيدها قصاصةً من إحدى علب الأدوية وتئن، وطفلتان صغيرتان تقتربان مني وتبدآن الدعاءَ لي والسؤال. أفكّرُ قليلاً ثم أفتح حقيبتي وأهمُّ بإخراجِ بعضِ النقود، تتصارعُ الطفلتان وتشدُّ إحداهما شعرَ الأخرى وتركلُها ثم تقولُ لي: «أمانة لا تعطيا».
استفزني الموقف، فقد بدت لي الأخرى مسحوقةً تماماً. قدحتُ الأولى بشرارةٍ من عينيَّ وقلت: سأعطيكما معاً ما يكفي، لماذا تفعلين هذا بها؟ أخرجتُ النقود وأعطيت كل واحدة منهما النصف ومضيت، متجاهلةً مرة جديدة صوت عراكهما المبتعد.
الأفكارُ مجدداً: عليَّ أن أخصص راتباً دوريّاً لهم كل شهر، لكنني عندها لن أستطيع إطعامَ نفسي. راتبي العقيم عليه أن يفكر جديّاً بالتكاثر.
أصلُ إلى العمل:
«يومية
ذات الوجوه…
ذات الإشيا…
بتوعى…
بتتحمم من كذب المجتمع المعلق عليك».
أتجاهلُ هذه الفكرة المنغرسة في عمقي منذ سمعت الأغنية أول مرة، وأُذكِّرُ نفسي طاردةً عبثيةَ هلوساتي: أنا سعيدة ومتفائلة.
حادثة رقم 1
معتادةٌ في كل يوم، يمارسني طقسٌ جميلٌ، أحضِّرُ فنجاناً من الزنجبيل والعسل، وأجلس خلف مكتبي، لا عملَ في بلاد العطالة.
أقرأُ قليلاً، أكتبُ قليلاً، أتحدثُ مع من هم حولي قليلاً، والوقت يمرُّ برتابةٍ وبطء شديدين. يدخلُ أحدهم الغرفة وينظرُ إليَّ مليّاً، يلقي التحية ويطلب إذناً بالجلوس، يراقبني من رأسي حتى أخمص قدمي، ثم يقول: ألستِ ابنة فلان؟
– نعم!
يذكر بثقة أنه كان يعمل في الرقة حين كانت أختي تدرس هناك، ثم يفاجئني بحركة من عينيه الغائرتين ويقول: «وما زلتُ أتذكرُ المرة التي طلبَتْها السلطاتُ فيها، كنت أعمل هناك حينئذ». كان الوقت ظهراً، والشمس ترسل صخبَها الحانق على الوقت في فسحةٍ سماوية، والريحُ ساكنةٌ كسكونٍ روحيّ في تلك اللحظة، شعرتُ بقلبي يتوقف عن العمل لمدة دقيقةٍ كاملة بدت لي بحجمِ كون.
شخصٌ لا أعرفه يبثُّ ذعرَه حولي، يقتنص حِسَّ السلامِ في داخلي، وأنا لا أحرك ساكناً، عيناي مسمَّرتان في قدميَّ.
سكينةٌ لمدة دقيقةٍ على أرواحِ الغائبين، رفعتُ عينيَّ الواسعتين بعدها في هدوءٍ عجيب، وخرجت مني الكلمات دفعةً واحدةً، بشكل متسلسل يحمل إيقاعاً: «ومن أنت…؟»، يحاولُ الإجابة، لا أسمع، أتابع: «… حتى تقولَ لي ما تقوله، ينبغي على الأشخاصِ الذين يثيرون عجبي كل وقت أن يمتنعوا عن التدخل في شؤون الآخرين…»، يهمُّ بالكلام مرةً أخرى، لكنني أتابعُ: «…مقدارُ الجرأةِ يتعدى في بعض الأوقات الحدَّ الطبيعي! لا حقَّ يملكُه أيُّ أحدٍ في التعدي على خصوصية حياة الناس، ولذا فلا يمكنك التحدثُ معي أبداً في أي شأن». يتلعثمٌ، ينظرُ أرضاً ثم يقف، أقولُ: «لا يوجد لدينا ما طلبت، اقصد مكتباً آخر».
يخرجُ مسرعاً متعثراً بخطواتِه، سرعة نبضي ألفٌ في الدقيقة، لكنني أرسم بسمةً على شفتيَّ ولا أغيِّر شيئاً من سحنتي الهادئة، فأنا سعيدةٌ هذا الصباح، ألم أكن قد قررتُ ذلك!
هامشٌ متصلٌ بالحادثة رقم 1
إن كنتُ قد اعتقدتُ في ذلك الوقت أن القصة انتهت عند هذا الحد، وأن شجاعتي كانت ستسجَّلُ في تاريخ حياتي كحكاية سأرويها للزمن كبطلة، فأنا اليومَ أعترفُ أنني كنت جاهلةً حدَّ الانفصام عن الواقع، وبريئةً حدَّ السذاجة الكرتونية «السبيس تونية».
أسردُ لكم في عجلةٍ نهاية القصة، في البلاد الخارجة من ظلمة إلى ظلمة.
غادر الرجلُ يومَها ونسيتُه تماماً، لكن لم أكن لأغادرَ مخيِّلتَه أبداً. بعد فترة قصيرة عاود مجيئَه إليَّ أكثرَ من مرة مفتعلاً الحجج، ممارساً ضغطَه وسيطرته على المكان، مفترساً إيايَ بعينيه كذئبٍ خسر كل أنيابه، وليس يستطيعُ الهجومَ على فتاة لا تخاف.
ولو لم يكن مقتنعاً أنني امتلك سلطةً قوية، جعلتني لا أحسب حساب الكلمات، لكانت القصة اتخذت منحىً مختلفاً تماماً ربما.
في المرة الأخيرة التي رأيته فيها طلب مني بوضوحٍ أن يتزوجني، ولن أخبركم الآن عن طريقة ردي في تلك اللحظة، لكم أن تتخيلوا.
حادثة رقم2: قهوة… وأمريكية
إنها الحادية عشرة من منتصف النهار، أنظر حولي، «فرنش برس» على يمين المكتب، وبجانبها علبةٌ مغلفةٌ من قهوةٍ جديدة أمريكية.
يعبثُ الحديث التالي في ذاكرتي كنسمةِ ربيعٍ صافٍ من أي كدر:
– هل تذوقتَ القهوة الأمريكية؟
– نعم طبعاً.
– تبدو شهيةً، هل هي لذيذةٌ حقّاً؟
– أنا أحبُّها، لكنّ قهوتَنا الشامية ألذ. هي قهوةٌ خفيفةٌ تستطيعين تناولَها في كوبٍ كبير.
– لقد شاهدتُ مقطعاً على يوتيوب جعلني أرغب كثيراً في تجريبها.
– تحتاج إلى فلترٍ خاصّ، أو فرنش برس.
– لم أجد هنا مثل هذه الأشياء، بحثتُ كثيراً.
– لا تقلقي، ستجربينَها وهذا وعد.
«الفرنش برس» الآن إلى جانبي، كقطعةٍ مني، وهي تُشجيني اليوم بالقدر ذاته الذي ملأ قلبي بالبهجة في ماضٍ نَقشَتْهُ خطوطُ الحب في وجداني، جارياً داخل عروقي كدَمّ.
لكنني اليومَ سعيدةٌ، ما لي أنسى؟!
أغني: «قومي من تحت الردمِ كزهرةِ لوزٍ في نيسان». أمسحُ دمعة عيني الحارة، وأقوِّمُ جلسَتي وأعنِّفُ نظرةَ عينيّ الرقيقة، فأنا هذا الصباح سعيدة.
حادثة رقم 3 متصلة وجوباً بالحادثة رقم 2
الأفكارُ الآن في كل مكان، وأنا لستُ أنا.
أيها الحبُّ الذي تركتُه في اسطنبول، لاقِني في الحلم حيث أكون، سامح جُبني، واعذر ضعفي وقلةَ حيلتي. اليوم وبعد تسع سنوات، أعلن نفسي قتيلةَ حرب، طهَّرَها الحبُّ ودنستها الحقيقة. أقترفُ العشقَ آثمةً مجتهدةً في البعد، في حقيبةِ يدي تميمةُ الحبِّ الثمينة، علقتُها في جزدان صغير، ستُّ خرزاتٍ زرقاءَ وثلاثة أسنانٍ وجَرَس، صنَعَتْها عشرُ أصابع لرجلٍ، أحملُها معي أينما ذهبت، أضمها إلى صدري حيث «هو» في تلك البقعة الصغيرة من القلب، فأؤمن أنها تحميني من حادثٍ على قارعة الطريق، من رصاصة طائشة ربما، من ثلاثة ندبٍ جراحية صارعتُ فيها الموت. أُبقي تلك التميمة قريبةً مني وأحلم، هذا القلب يسكنه ذاك الرجل دائماً وأبداً، وعلى طول الأيام.
أفيقُ من غيبوبة الدمع المملح، متذكرةً قراري السعيد، فتصيح مني الصرخة، والغصةُ تعقبُها الغصة.
أنا سعيدةٌ… سعيدةٌ… سعيدة…
هكذا قررتُ هذا الصباح
هكذا أمسيتُ هذا المساء
هامشٌ أصغرُ وأسعدُ مما أريد وأرغب:
قَبَّلتُ أبي وأمي هذا الصباح، وابتعتُ لأخي هدية.