انتهت يوم أمس أعمال مؤتمر أستانا 10، أو سوتشي 2، وللقارئ أن يختار الاسم الذي يريده، ببيان ختامي لم يحمل سوى الرطانة المملة حول الحفاظ على سيادة سوريا واستقلالها ووحدة أراضيها، والاستمرار في مكافحة الإرهاب، فضلاً عن عبارات أخرى غير واضحة المعالم عن ملفات المعتقلين واللاجئين والدستور، تُخفي خلفها ما اتفقت عليه الدول الضامنة دون أن تكون معنية بإعلانه طبعاً.

ومما يثير السخرية السوداء، أن التمسك بمسار جنيف، الذي يستند إلى قرارات دولية تتعلق بالانتقال السياسي، ربما يكون آخر نقاط القوة التي يمكن للمعارضة الرهان عليها، لكن الأخيرة، مُمثلة بائتلافها الذي بات رهينة بيد الحكومة التركية، تشارك باجتهاد في تجاوز مسار جنيف، واستبداله بمسارات أخرى عبّدتها الطائرات الروسية بدماء السوريين وخرائب بيوتهم.

مسار أستانا الذي انطلق برعاية روسية تركية إيرانية مطلع 2017، بعد سقوط أحياء حلب الشرقية بيد النظام، كان في الأساس مساراً متعلقاً بالأوضاع الميدانية، ومن خلاله تم نقل كل حديث عن الأوضاع العسكرية واتفاقيات وقف إطلاق النار إلى خارج أروقة جنيف. وفي أستانا اخترعت روسيا مصطلح خفض التصعيد، ليكون بديلاً عن مصطلح وقف النار، وهو تركيبٌ لغويٌ مُخادع، يجعل أطرافه في حلّ من أي التزام قابل للتعيين، الأمر الذي يصبّ في مصلحة الأقوياء طبعاً.

أفضى مسار أستانا في جولاته التسعة السابقة إلى لا شيء على صعيد حقن دماء السوريين، وسهَّلَ على روسيا وإيران والنظام الاستفراد بمناطق سيطرة فصائل المعارضة واحدة تلو الأخرى، فيما واصلت تركيا، حليفة المعارضة الوحيدة، الاكتفاء بإطلاق التصريحات التي تدين خرق اتفاقات خفض التصعيد، دون القيام بأي شيء عملي لوقفها. لكن بالمقابل تمّ إطلاق يدها لاحتلال عفرين وضمان مصالحها في الشمال السوري بالتعاون مع فصائل سورية مناهضة للنظام، بعد أن تراجع الدعم الدولي للمعارضة السياسية والعسكرية ثم تلاشى، ليصبح شريان حياتها في يد تركيا.

أما سوتشي، فهو المؤتمر الذي حاولت روسيا، أيضاً بالشراكة مع تركيا وإيران، استخدامه لسحب النقاش السياسي حول مصير سوريا إلى خارج جنيف، وهو ما بدى مشروعاً مثيراً للسخرية وقتها، إذ تحوّلَ المؤتمر إلى مهرجان خطابي مبتذل، غابت عنه المعارضة التي أوكلت لتركيا مهمة التحدث باسمها، وهو ما أعطى انطباعاً أن روسيا ستفشل في تحويل انتصاراتها العسكرية إلى منجزات سياسية.

اعتقد كثيرون وقتها أن الرفض الغربي، الأوروبي والأمريكي، لهذا الابتذال السياسي الذي تقوده روسيا، واحتضان المعارضة من قبل تركيا التي بدت في موقع قوة، واستمرار وجود فصائل مناهضة للنظام في معظم أرجاء البلاد، أمورٌ ستجبر الجميع على العودة إلى قاعات جنيف لنقاش الانتقال السياسي، لكن هذا لم يحدث، بل واصل سلاح الجوي الروسي تمهيد الأرض أمام قوات النظام وحلفائها في سائر مناطق خفض التصعيد، بما فيها الأجزاء الشرقية من إدلب، وارتُكبت في هذا السياق أعمال تهجير وإبادة وحشية، شملت استخدام السلاح الكيميائي في دوما، دون أن يرقى الردّ الدولي إلى أكثر من غارات غربية سخيفة لحفظ ماء الوجه، فيما أشاح العالم كله ببصره عن مناوئي النظام السوري وهم يُسحقون ويُبادون ويُهجّرون في طول البلاد وعرضها.

بقوة سلاحها الجوي، نجحت روسيا في بعث سوتشي من تحت ركام الاستعصاء السياسي، وتم نقل أعمال أستانا من كازخستان إلى مدينة فلاديمير بوتين الأثيرة، مع دمج أعمال أستانا الميدانية بأعمال اللجنة الدستورية التي أقرّها سوتشي الأول، في مسعى واضح لربط القضايا الميدانية بالقضايا السياسية خارج جنيف، على الأراضي الروسية، وتحت وقع التهديد بالمزيد من الحرب والمذابح في إدلب.

في سوتشي الثاني أو أستانا العاشر، تم نقاش أربعة ملفات رئيسية؛ اللجنة الدستورية، ومسألة المعتقلين، ومسألة اللاجئين وترتيبات عودتهم إلى سوريا، ومستقبل منطقة خفض التصعيد في إدلب. ولم يحمل البيان الختامي أي عبارة واضحة تشرح مصير أي من الملفات الأربعة، باستثناء التأكيد المليء بالبهجة على التقدم في مسار اللجنة الدستورية، والتوجه نحو وضع اللمسات الأخيرة عليها مطلع أيلول المقبل، استعداداً للسير في أعمال صياغة دستور سوري جديد، وفقاً للقرارات الدولية طبعاً، لكن بعد طيّ صفحة الانتقال السياسي، وهو ما يعني أن «مؤسسات الدولة» التي ستسهر على تنفيذ الدستور الجديد، هي نفسها التي ترسل في هذه الأيام آلاف شهادات الوفاة لمعتقلين قضوا في زنازينها جراء «ذبحات قلبية».

رفضت الولايات المتحدة الدعوة الروسية لحضور المؤتمر بصفة مراقب، لكن الأمم المتحدة حضرت مُمثلة بمبعوثها ديمستورا، وخبراء مرافقين له للعمل على ملفات «المعتقلين والمحتجزين والمختفين والمفقودين» وفق تعبيرات البيان الختامي، كما حضر ممثلون عن اللجنة الدولية للصليب الأحمر للهدف نفسه. حتى المؤسسات الدولية راحت تخضع أكثر فأكثر لابتزاز الحديد والنار الروسي، وترضى بإفراغ عملها من مضمونه السياسي، أمّا الدول العظمى فتكتفي بالانسحاب والتفرّج على مسرحية التفاهة الدموية من بعيد.

بموجب البيان الختامي، ستواصل اللجنة الدستورية عملها وكأن سوريا تعاني أزمة دستورية لا حرباً دموية أزهقت أرواح مئات الآلاف، وستواصل روسيا تسويق مشروعها المبهم لإعادة اللاجئين بالتنسيق مع الدول المستضيفة، أما المعتقلون الذين يواصل النظام تصفية ملفهم عبر شهادات الوفاة، فإنهم سيبقون مع عائلاتهم في جحيم التعذيب والفقدان بانتظار أعمال اللجان البيروقراطية، وإجراءات «بناء الثقة» على حد تعبير البيان الختامي. كذلك سيبقى مصير إدلب ومحيطها غائماً، تحت رحمة شعارات الحرب على الإرهاب والاتفاقات السرية، ومصطلح خفض التصعيد الذي لا يعني شيئاً سوى انتظار المجهول.

تسعى روسيا إلى تحويل انتصاراتها العسكرية إلى إنجازات سياسية، وتحويل العصبة المقاتلة التي يقودها بشار الأسد إلى نظام سياسي، لكن هذا لا يزال متعذراً حتى الآن. وفي كل محطة تستعصي فيها السياسة، تلجأ روسيا إلى مزيد من الطلعات الجوية، بهدف انتزاع توقيع المعارضة على أوراق تعترف لها بأن بربريتها العسكرية قادرة على إنتاج السياسة. ومع كل مذبحة وجريمة إبادة أو تهجير جديدة، تضيق الفوارق بين الحرب والسياسة في سوريا، ويصبح السلام الروسي تبشيراً عدمياً بمزيد من الحروب وسفك الدماء والعذابات.