«الرجل الذي لم يوقّع»، بهذا العنوان البوليسي ستُقلِقُ قناة الميادين ما تبقى من راحتنا النفسية، أسبوعياً وعلى مدار ثلاثة أشهر، بسلسلة وثائقية من إثني عشر جزءاً عن «أربعين سنة من تاريخ سوريا والصراع العربي الإسرائيلي».

وبطبيعة الحال لن يقف خلف التورية التي يحملها العنوان سوى حافظ الأسد، ليس لأنه لم يوقّع على اتفاقيات «المساومة» مع إسرائيل والغرب فقط، بل لأن الوثائقي -وكعادة أي خطاب للنظام- يُفرِغُ التاريخ السوري والعربي والعالمي من أي معنى قبل عام 1970، ليشغل حافظ الأسد موقع التأسيس من كل شيء، الرجل الأول، والقائد الأول، والمقاوم الأول، وبالتالي فإنه لا وجود لسواه على الساحة ليوقّعَ أو يرفض. وحتى لو كان عنوان الوثائقي «الرجل الذي وقَّع»، فلن نأمل بوجود رجل آخر سوى حافظ الأسد خلفه.

يتناول الوثائقي تاريخ المنطقة بِدءاً من عام 1948 مع قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي، ويعتبر الحركة التصحيحية وتثبيت حكم الأسد الأب عام 1971، وحرب تشرين 1973، مرتكزاً لتغيير شكل الشرق الأوسط، فضلاً عن المفاوضات حول اتفاقيات «كامب ديفيد» و«وادي عربة» و«أوسلو» التي رفضها حافظ الأسد.

ويأخذ الرفض الأسدي هنا عاملاً تأسيسياً أيضاً، لأن الاستنتاج النهائي الذي سنصل إليه بعد ثلاثة أشهر، سيكون أن «الحرب الكونية» على سوريا الآن، وظهور صفقة القرن، ليست إلا نتائج للـ«إرادة الحرة» التي تمتع بها حافظ الأسد في تلك الحقبة، والتي أضنت مفاوضيه من الأمريكيين الذين فشلوا في إقناعه بالتوقيع، وذلك وفقاً لما جاء في مقابلة لصناع الوثائقي، في برنامج «حوار الساعة» على قناة الميادين نفسها.

يبدأ الجزء الأول بمقدمة هي عبارة عن «كولاج عناوين» عريضة تبجيلية للأسد الأب، تُلقيها الإعلامية سعاد قاروط العشي من على سفح جبل قاسيون. ويتزامن التصوير مع فترة قصف متواصل سابقة لسيطرة النظام على الغوطة الشرقية، لكن العشي المترددة في الإفصاح عن مكان سقوط القذائف، دمشق أو الغوطة الشرقية، أوضحت بمنتهى «الشاعرية» أنها لم تكن خائفة، بل كانت على العكس «مُطمئنة وسعيدة»، فالنيران التي كانت تكوي «آخرين» خارج التاريخ، هي نيرانٌ صديقةٌ للعشي.

للحظة خلال متابعتي للجزء الأول من الوثائقي ومقابلة صُنّاعه في «حوار الساعة»، انتابني شعورٌ بأنني أقفُ أمام فريق من فنيي «الإضاءة»، فالعشي تعتبر العمل «فرصة لإضاءة سجلها الإعلامي» (لم أتوقف عن التفكير في مدى سواد سجلها إذا كان تناولُ تاريخ دولة معادية للحرية ومعتمة إعلامياً مثل «سوريا الأسد» يُعدّ إضاءة بالنسبة لها). وبثينة شعبان التي تلعب دور الراوي والمصدر الرئيسي للوثائق تريد الإضاءة أيضاً، على أهمية مواقف حافظ الأسد. وزاهر العريضي، منتج ومُعدّ الوثائقي، يريد رواية التاريخ بعيداً عن نقاط اليأس المظلمة، مثل نكسة 1967، التي يُتهَم حافظ الأسد وزير الدفاع حينها، بتأديته دوراً جوهرياً في هزيمة العرب فيها، والانسحاب من القنيطرة قبل دخول الإسرائيليين إليها من جبهة الجولان، الجبهة الأكثر تحصيناً في تلك المنطقة، دون طلقة رصاص واحدة، وفق محمد الزعبي، وزير الإعلام السوري حينها (من وثائقي للجزيرة عن سقوط الجولان). حافظ الأسد هو بقعة الضوء الوحيدة المتفشية في تاريخنا المظلم.

وإذا كنتَ تعتقدُ أن الموضوعية والمصداقية بعد كل هذا الكلام قد غابت عن ذهن صناع السلسلة فقد جانبكَ الصواب، فالعريضي وزميلته المخرجة هالة أبو صعب، واثقان من موضوعية ما طرحاه، لأنهما قدّما «ما قِيلَ وما فُعِل»، معتمدان على «شهود» من عدة أطراف «متناقضة»، مثل وليم كوانت، عضو مجلس الأمن القومي الأمريكي في إدارتي نيكسون وكارتر، والمؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه، وغيرهم.

أكّدَ الشهود جميعاً، لأجل المصادفة، على «الرواية السورية»؛ كوانت مُمتدحاً دروسَ حافظ الأسد الارتجالية عن «سايكس بيكو»، وحسَّ الدعابة لديه، وبابيه الذي أشبع آمال مستمعيه بتفاصيل حول الهلع الإسرائيلي من حرب تشرين، التي احتلوا بفضلها مرصد جبل الشيخ (يا للهلع فعلاً!).

بعد مقدمة «حوار الساعة»، التي استشهدت كذلك بوصف الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون لحافظ الأسد بأنه «مفاوض صعب وغامض، ورجل ذو معدن أصيل، وسيكون قائداً ذا شأن عظيم في هذا الجزء من العالم»، ثم بشهادة رئيس الأركان الإسرائيلي إيهود باراك «إنه أهم قادة الشرق الأوسط»، تكتشفُ أن أي شيء في العالم قد يكون محطّ خلاف، بِدءاً من موقع الأهرامات وصولاً إلى الأنبياء والديانات السماوية والله، إلا حافظ الأسد الذي يُجمِعُ العالم كله على عظمته (كانت 99.9% نابعةً عن إيمان إذن!).

تغوص بثينة شعبان في كواليس حقبة الأربعينات، وتكشفُ خفايا الأحداث الجلل، من خلال حديثها عن قرار تقسيم فلسطين عام 1947، ثم إعلان بن غوريون وقيام دولة إسرائيل في العام التالي، وثورة العرب ضد هذا الإعلان، في حين كانت حكوماتهم غير قومية، فالملك فاروق يحكم مصر، والهاشميون في الأردن والعراق، وآل سعود متفقون مع روزفلت، وجميعهم وقّعوا على اتفاق الهدنة عام 1948، باستثناء سوريا وحدها، التي لم توقّع حتى انقلاب حسني الزعيم.

ما يثير الدهشة هنا أننا سنكتشفُ مباشرةً أن هذا السرد التاريخي لم يكن سوى خلفية درامية للـ«هلع» القادم إلينا من بواطن الغيب، ففي تلك الأثناء -تخبرنا شعبان- كان حافظ الأسد طالباً في الثانوية، وانتُخِبَ رئيساً للاتحاد الوطني لطلبة سوريا. قد تكون جالساً في مقعدك مثلاً، مهموماً بسبب امتحانات الثانوية العامة، ولا علم لك بأن زميلك الذي يجلس قربك أهمّ من بن غوريون وروزفلت والملك فاروق والهاشميين وآل سعود، وبقاؤه قربك وتسكّعه معك تاركاً ساحة الصراع السياسي الدولي، جزءٌ من رؤية قومية نافذة يتمتع بها، فهو ينتظرُ إتمامه سن 18 عاماً حتى يكشف عن نفسه لهذا الكوكب.

تعرّجُ شعبان على العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وعن دور مساندة سوريا لمصر خلاله في قيام الوحدة لاحقاً، وكنتُ على وشك الاعتقاد بأنها لم تطلع على شيء من مؤلفات باتريك سيل، الصحفي البريطاني المؤرخ لحياة الأسد الأب، الذي أسهب في كتابه الصراع على سوريا في توصيف «ورطة الوحدة» التي دُفِعَ إليها جمال عبد الناصر عنوةً، لولا استشهادها به لاحقاً بعد تجاهل كما سنرى.

تبرّرُ شعبان هزيمة 1967 بأن حافظ الأسد فوجئ بضعف الجيش السوري حين استلم وزارة الدفاع، ولم يتمكن من إعادة بناء الجيش بسرعة تسمح له بمواجهة إسرائيل، ولا تخبرنا شيئاً عن صدمة محمد الزعبي حين وصله بيان سقوط القنيطرة من حافظ الأسد، فرفضَ بثّه حتى أُمِرَ بذلك من القصر الجمهوري، لأنه كان منافياً لأي منطق بسبب الاستعدادات الهائلة للمواجهة في تلك المنطقة.

ثم فجأة حدثت الحركة التصحيحية عام 1970، التي انقلب فيها الأسد على رفاقه وأمسك بزمام السلطة، دون أن نسمع أي شيء عن صلاح جديد أو ما شابه، وبنى «القائد المؤسس» دولة اشتراكية تعددية خلافاً للدول الاشتراكية التي حكمها الحزب الواحد في تلك الفترة، وأسّسَ جيشاً بلغ خمسة أضعاف ما كان عليه سابقاً بمساعدة الاتحاد السوفييتي ليتمكن من مواجهة إسرائيل، وبنى دولة على أُسس مؤسساتية، وصولاً إلى خيانة السادات له، وإفضائه لباتريك سيل بألمه من تركه وحيداً في حرب تشرين، وقبوله بإيقاف الحرب على مضض، بالرغم من أنه بخلاف السادات الخائن كان يريد استرجاع أرض وكرامة العرب بالقوة، وليس بالمفاوضات السياسية.

تريد الميادين ضمن «رؤيتها» تقديمَ هذه السلسة كوثائقي، وليس كأفلام كرتون، بكل ثقة وجرأة، عقوبةً لنا على ضعف انتمائنا القومي.