«لا تلعب بها، كي لا تَفرُط أمعاؤك»، هذا التنبيه سمعناه ونحن صغار، حين حاول كثيرون منّا «اللعب» بسرّتهم، واكتشافها، لنعلم لاحقاً أن لا وظيفة لها. هي فتحة مغلقة، وعلامة الولادة، ووسمة «التناسل الجنسيّ»، وأثرُ الحبل السريّ الذي يصل الفرد مع «الرحم»، هي ندبة التمايز بين موضوعتين، الطفل ووالدته، وأَثرُ استقلال الفرد كوحدة عضويّة مغلقة.
تُعدُّ السرّة علامة على «اللا وظيفيّة» من وجهة نظر طبيّة، والشيء ذاته على المستوى الثقافيّ، فمفهوم التحديق بالسرّة Navel gazing، ضمن الثقافة الشعبيّة يحيل إلى الوقت الضائع في التفكير بالذات، وإنتاج معارف لا قيمة لها، وطرح أسئلة بلا أجوبة، وتكهنات عقيمة وشعريّة في بعض الأحيان، كسؤال «هل لآدم سرّة؟»، أو «هل يمكن أن يكون للسرّة دلالة ثقافيّة؟».
العجز أمام السرّة: فرويد هارباً
شكلّت السرّة تحديّاً لمؤسس التحليل النفسي سيغموند فرويد، ففي كتابه تفسير الأحلام – 1899نقصد هنا الطبعة الأولى من الكتاب بعنوان «تفسير الأحلام»، وهي مختلفة عن ترجمة جورج طرابيشي للنسخة الفرنسيّة بعنوان «عن الأحلام»، والتي كتبها فرويد لاحقاً بسبب تعقيد النسخة الأولى وطولها.، وأثناء سرد مريضته «إرما» لحلمها، واجهت فرويد مشكلة، إذ يكتب في إحدى الحواشي: «هناك نقطة في كل حلم عصيّة على التفسير، كأنّها سرّة، هي نقطة الالتقاء مع المجهول». يبدو فرويد هنا محتاراً، ويستحضر مجاز السرّة بوصفها المكان الذي يعجز عنه «التفسير»، وبوابة نحو مجاهيل اللاوعي العصيّة على الفهم، وكأن الحلم ذاته، لا يتيح الوصول الكامل إلى اللاوعيّ، ليكون فقط واحداً من أعراضه.
توقّفُ فرويد عند السرّة يشكل خطراً عليه، هي تهدّدُ البنيان المعرفي والرمزيّ الذي يوظفه لتفسير الحلم، لتبدو هذه النقطة كما في دلالات السرّة الطبيّة، زائدة مرئيّة لا معنى لها، وجسر نحو مساحات اللاوعيّ الهذيانيّة التي لا جدوى من تفسيرها.
يميل الفرنسي جاك لاكان إلى السرّة حين أعاد قراءة فرويد، ويراها جوهريّة أثناء عملية «التحديق في المرآة»، بوصفها النقطة الثابتة التي تحدق فيها الموضوعة البشريّة لبناء تكوينها الرمزي، إذ يتحرك الفرد حولها، ولا يستطيع تجاوزها، بالتالي تجاوز المرآة. هي النقطة الثابتة التي تنتج المعرفة بالذات، بوصفها مركز التساؤلات المعرفيّة، وتمنع تهشم «المرآة» التي تُنتج الفرد، وفي الوقت ذاته هي منبع الرغبّة، ومساحة الامتلاء باللذّة التي لا تفسير لها، فالسرّة، حاضرة فقط كمجاز، لا تعبيرَ «عقلانيّاً» عنها، هي خارجَ الإدراك، وفي الوقت ذاته مركز «المرآة» وتكوين الوعيّ.
السرّة كنكتة غير مفهومة
تربط النكتة والسرة علاقة مجازيّة، فالأولى، إن لم تكن مضحكة، لا معنى لها، فدون «آخر» يضحك، تفقد قيمتها، تصبح بلا وظيفة، وهنا تشترك مع السرّة بتساؤلات حول فهمنا للعالم وتكوينه الرمزيّ، فكما السرّة عقدة بين «المجهول» و«المعلوم»، النكتة تهدد النظام المعرفيّ لكل من القائل والمستمع، هي نقط التقاء، ويبرز عندها تساؤل «لماذا لم يحصل الضحك؟».
هذا التساؤل مرتبط بالتكوين المعرفي والسياق الذي تحضر ضمنه النكتة، كونها محاولة لترتيب ما هو لا منطقي ضمن منطق ما، لتأتي السرّة/النكتة كعقدة، إما تصيب أو لا تصيب، ليصبح المستمع نفسه كفرويد، يستعصيّ عليه تفسير ما سمعه إن لم يفهم، وكأن النكتة سرّةٌ من نوع ما، الحدُّ الفاصلُ بين ما نعلم وما لا نعلم، النكتة أيضاً كالحلم، تحوي ضمنها نقطة/سرّة «عصيّة على التفسير»، كعلامة منتشرّة للاوعي تتحرك ضمن اللغة وتكويناتها.
الـ Teletubbies: السرّة عتبة للمخيّلة
تشكل ندبة الحبل السريّ، العلامة الفارقة بين اللحم البشريّ الواعي وبين الآلي المبرمج، فالبشريّ يحدّقُ بلا جدوى في سرّته، يهدر وقتاً بالتفكير بالذات، في حين أن الآلي لا يمتلك فراغات من اللاعمل، هو وظيفي إما «on or off»، ولا مساحات للارتجال، إذ يرى اللعب –إن كان واعياً- كخطأ في الحساب، فالسرة هي امتداد للتاريخ البيولوجيّ للبشر، ومخيلتهم اللاوظيفيّة، لتكون نقطة «اللاكمال» البشريّ ولهوه، ومنها يمكن الهيمنة عليه. في الجزء الأول من فيلم ماتريكس، نرى «نيو» وقد استُخرج من سرته «سايبورغ عضويّ»، بعدما زُرِعَ فيه أثناء ما ظنّه حلماً، وذلك من أجل تتبّعُه، وعبره تتمكن «الآلات» من السيطرة عليه في عوالم المصفوفة المتخيّلة، وكأن الهيمنة الآلية تتم عبر المخيلّة/اللاوعيّ، والسرّة هي البوابة نحوها، إن سيطرت عليها، فستأسرُ «البشريَّ» وإدراكَهُ للعالم.
youtube://v/HeECSyq_tZg
يحمل غياب السرّة أيضاً دلالات مرتبطة بانقراض التكاثر الجنسيّ، والتمايز الجندري، وتهشّم علاقات القوة الناشبة بسبب هذا التمايز، فالمُستنسَخُ مثلاً بلا سرّة، هو لا يُولَد، لا تاريخ له ولا حبل سريّ له، هو ينشأ ضمن المختبر، هو بلا حمض نوويّ متغيّر، دوماً نسخة طبق الأصل، فالاستنساخ وغياب السرّة يحرر البشريّ من «جهد التكاثر» لكنه في الوقت ذاته يقضي على لذّته، ومساحاته العصية على الفهم، فالإطاحة بالسرّة تقضي على التحديق، وتجعل من الآلي مثلاً دونَ تكوين رمزيّ مُتغيّر، لا يضحك على النكات، كالتيرميناتور، الذي لا يفهم معنى السخريّة حين يُخاطب بها، إذ يلكم المتعري الذي رفض إعطاءه ثيابه ويردّ عليه: «تحدّث لليد!».
youtube://v/yRfdXZ4sFLU
لا تقتصر المفارقات على اليوتوبيات السوداوية، إذ يمثّل مسلسل تيلي تابير (1997-2001) حالة مغايرة، كونه نوع من اليوتوبيا المثاليّة اللاإنسانيّة، فبعيداً عن الألوان البراقة والرقص والمرح الذي تمارسه الشخصيات الأربعة، نحن نشاهد كائنات لا لغة لها، ولا جنس لها، أشبه بسايبورغات مُستنسخة، المميز فيها أنه عوضاً عن السرّة، هي تمتلك شاشة، تلفاز يحيل إلى واقع واقعيّ، ذو بنيان رمزي يشبهنا ونعرفه ونتعامل معه. هي كائنات تنتمي إلى يوتوبيا ما، لا وعيُها هو «واقعنا الرمزيّ»، وتحديقُها بـ«سرّتها» مٌشابه لتحديقنا بالشاشة، حين نعي التكوين الرمزي للعالم، أو حين نتأمل التلفاز ونقف مدهوشين أمام الـSimulacrum ، أمام نسخة مُستنسخة مثاليّة من العالم، بوصفها –الشاشة- بوابة نحو المتخيّل، وأول خطوة نحو وباء الفانتازم.
يمثل التيليتابيز الانحراف الذي أصاب تحديقنا بسرّتنا، فنحن عوضاً عن التحديق بـ«المرآة» وخصائصها اللغويّة من أجل تكوين أنفسنا، نحدق في سرّة العالم الوهميّ/ الشاشة، ونحاكي ما فيها بوصفه يختزن المتعة واللذة، وخصوصاً أن عوالم الشاشة تغذي عشوائيّة الرغبة.
مفارقات السرّة العربيّة: غوايات المنع والتأويل
تحضر السرّة في الثقافة العربيّة ضمن سياقين مميزين، الأول هو «العورة»، إذ تُحدَّدُ عورة الرجل وعورة الأَمَة، بأنها من السُرّة إلى الركبة، هذا التحريم أو «الغياب» المتعمّد لما تحت السرّة مرتبط بالشبق، أي أنها آخر حدّ «ظاهر»، وبداية للتغييّب وجهود «الإخفاء» للّحم المُشتهَى، كون المعنى اللغوي للعورة مرتبط بجذره بغياب «البصر»، وكأن ما بعد في هذه العقدة/العورة يُذهِبُ العقل، فأغلب التفسيرات اللغويّة مرتبطة بـ«السوء» وممارسة العصيان في حال تُجاوز هذا «الثغر/ الحدّ»، فكشفها يفسد الصلاة والعلاقة مع العُلويّ والربّانيّ، كما يجب ستر ما بعدها، وكأن التحديق الذي يتجاوزها يفتح الباب على تساؤلات لا مجديّة، تتسع فيها مساحات الزندقة والكفر – اللامنطق- كالتي يولّدها التحديق الذاتي، حتى لو كان الفرد وحيداً، «فالله أحقّ أن يُستحيا منه» لأن أسفلها يختزن الشرّ على أشكاله، ويهدّد نفس المؤمن التي تتكون على أساس الطاعة. أما تجاوزها فيُشرَّعُ فقطّ في سياق الإباحة، حيث لحم الآخر واللحم الذاتي موضوعات للّذة، ويُستثنى من ستر ما بعدها الأطفال، وكأنهم موضوعات لم تطوِّر الوعيّ «بالعورة»، فلا حدود عندهم بين ما هو شهوانيّ وعقلانيّ، وكأنهم مازالوا امتداداً جسدياً لذويهم.
يستدعي سؤال السرّة آدم، «الإنسان» الأول، فغياب سرته يحيل إلى تكوينه «الكامل»، على أحسن تقويم، هذا الغياب يعني استحالة السلَف «الإنسانيّ» والولادة، وهو دليلٌ على علاقة ربانيّة مباشرة بين الخالق والمخلوق، وكأن غيابها يعنيّ أنه لا «يحدّق» بها، فهو يعلم الأسماء كلّها، ويعلم أصله وخالقه وجدوى وجوده، ما يجعل ظهور السرّة لاحقاً في نَسَبه، يترافق مع ظهور اللايقين، وقلق الوجود ومعناه، إذ يحدق في علامة لا-اكتماله مُسائلاً «وظيفتها»، ليكون السؤال عنها هرطقة وكفراً وشكّاً باليقين الأول.
ما سبق يمكن أن يجعل آدم نفسه سرّة ثقافيّة، والحدَّ بين المعرفة الإنسانية والعِرفان الربانيّ، وكل التساؤلات التي تتجاوزه تدخل في علوم الغيب، التي يجب التسليم بها، وكأن اليقين يتوقف عنده، لندخل بعدها في العلم اللدنيّ وعلوم اللاهوت.
هذا الحدّ الجسديّ يمتدّ نحو النص الرسميّ نفسه، عبر خلق الحدود والفواصل، تلك التي يقف عندها التأويل، كعقد مرئيّة/سرّة تعيّنُ المساحة التي لا يجب تجاوزها، أو ولوجها وفهمها، كما في النص المرتبط بالآيات المتشابهات، تلك التي تشكّل الحدّ، التي لا يعلم تأويلها إلا الله والراسخون في العلم الذين يؤمنون بها، وتجاوز هذه «العُقد» هو مساحة للخطأ، وللذين في قلوبهم زيغ، المتسائلين والمحدقين في النص، وخصوصاً أن أحد المعاني اللغويّة للزيغ، مرتبطة بالبصر، وانحرافه وميله وضعفه كما الإيمان، الذي قد ينقص في حال تجاوز الحدّ.
المفارقة تكمن أن أول روبوت عربيّ، نال الجنسيّة السعوديّة، جنسية المملكة التي تعتمد على الشريعة الإسلاميّة ونظامها الإنسانيّ كمرجعية للسيادة، لكن لا ندري إن كان للروبوت صوفيا سرّة أم لا، إذ لا يوجد صورٌ لها بعورة مكشوفة، لكن، ما هي عورتها إن وجدت بوصفها كياناً قانونياً لا بشرياً؟، وهل مثلاً اغتصابها يُعدُّ جريمة ويُرجم أحد ما إن «زنا بها»؟ وأيٌّ من فتحاتها يعتبر الإيلاج فيها زِناً؟
التكهنات المرتبطة بصوفيا وسرّتها، تنسحب على القضايا الجندريّة أيضاً، وتلك السياديّة، فماذا لو رفضت صوفيا مبايعة ولي العهد؟ أو حصل خطأ في تصميمها ولم تبايع؟ لا حدّ للتساؤلات التي يمكن طرحها، لكن هنا تبرز سرّة صوفيا كنكتة، كونها تُحيل إلى تناقضات مرتبطة بوضعية المرأة في المملكة، فالسؤالُ عن السرّة يخلخل التكوين الرمزي والمعرفي والقانوني لإدراكنا للمملكة السعوديّة، ويتركُ الفردَ يضحكُ أحياناً، لأنه فَهِمَ «المُفارقة» التي خلقتها، وخصوصاً أن لا وليّ أمر لها، ولا يمكن لها أن تموت وتُبعث.
السياق الثاني للسرّة العربيّة والذي أثار كثيراً من الجدل، وهو سرّة ألين خلف في فيديو كليب «لا لي له»-الصادر عام 2000-، فأجزاء الثانية التي تظهر فيها سُرّتها أثارت موجة من الاستنكار والاستمناءات السريّة، فخلَفَ تؤدّي على حدود السرةّ، وبوابات المجهول والرغبة، وكانت ثوان ظهورها الجماهيري ضمن الـ pop culture رهاناً على مساحات اللذة/ العورة، إذ أصبحت عُرضة للتحديق الجماهيريّ، ومحركاً لانتصابات طفيفّة، بوصفها تجلٍّ لسياسات استعراض للّذة، وهذا ما يُحيلنا إلى تاريخ الرقص الشرقيّ، حيث السرّة واضحة، مرئيّة، تتماوج وتتحرك، بوابة اللذة المغلقة تأسر عيون المتفرجين، أشبه بهوة للتنويم المغناطيسي، نتابع حركاتها، وتقلباتها، وكأنها مركز التحديق الذي تتجمع فيه لذّة الجسد، حدّ اللا معنى، أو كما يصف إدوارد سعيد المفتون بجسد تحية كاريوكا دون أن يشير إلى سرّتها: «هو يوحي… بنوع من المراوغة اللطيفة التي تستعصي على التحديد العقلاني».
youtube://v/6bGhvdiW_eQ
السرّة والآخر: التحديق من أسفل
يمكن استحضار السرّة على المستوى اليومي والشخصيّ بعيداً عن التحديق الذاتيّ بها أو الفيتش الجنسيّ، وذلك عبر التحديق بسرّة الآخر، هذا السياق يحضر أولاً عبر الجنس الفمويّ أو الـCunnilingus والـfellatio، إذ يحدّق الفرد بسرّة الآخر أثناء اللعق أو الالتهام، حينها تكون العين، فتحة الوعيّ، على مواجهة تامة مع فتحة المجهول. تحديقةُ اللّذة هذه هي ما تميز عصرنا، فالسرة مرئية ومؤغلمة ومنتشرة من حولنا، وهنا يبرز ميلان كونديرا وروايته حفلة التفاهة، وسُرر فتيات باريس، إذ يتساءل عن كيفيّة «تعريف الإيروتيكيّة لدى الرجال – أو ضمن حقبة– ترى أن الغواية المؤنثة مركّزة في منتصف الجسد، في السرّة»، وكأنه يرى أن التحديق في «سرّة» الآخر، وجنسنتها، علامةٌ على ابتذال هذا العصر، وآخر «نكاته» الكبرى، إذ يُستثار «الرجل» من حفرة لا يولَجُ بها، وكأنها اختزالٌ رمزيٌّ لشبق تاريخيّ ذكوريّ تجمّعَ فيها. والأهمّ، أنها مرئيّة، تُحدِّقُ بنا، وتضبط سلوكنا، ونسعى لنرتعش ونحن نحدّقُ بها في فضاءات الرهز، لينحصر وعينا وبصرنا الديكارتيّ العقلانيّ، فقط ضمن نطاق هذياناتها.