لم أخرج من سوريا إلا بعد أن كنتُ واحداً من المحظوظين بالتعرّف على «السياحة الدينية» التي تشتهر بها بلادنا، وذلك أثناء انتظاري مع عشرات الأشخاص لوسائل النقل في ساحة التربة بمدينة جرمانا «غير الأثرية»، وفي فورة نشاطنا لاصطياد ميكرو شارد في صباح أحد الأيام من العام 2015، عبرت شاحنةٌ صغيرةٌ تحمل ثلاثة عساكر، وترفع علم ميليشيا «حزب الله». أطلقت السيارةُ النار بشكل كثيف على مستوى منخفض فوق رؤوس الناس، ما أعطى انطباعاً أنها تهاجمنا، فركضنا مدفوعين بالنشاط والحيوية ذاتهما للاحتماء وراء السيارات وفي مداخل الأبنية.
مُطلِقو النار ندعوهم رسمياً في «سوريا الأسد» بالـ «الحُجّاج»، وهم موجودون في بلاد(نا) بهدف السياحة الدينية، أما أسلحتهم فهي مظهرٌ «ثقافي»، أنا مثلاً كنت أحمل حقيبة، المرأة إلى جانبي كانت تحمل طفلاً، «الحُجّاج» يحملون السلاح، فروقٌ حضاريةٌ لا أكثر، تعكس مدى التنوع والانفتاح على الآخر تاريخياً في بلادنا «المحظوظة».
العام 2018، أنا في إسطنبول (هرباً من زحمة السواح في دمشق وريفها)، والسفير السوري النشيط في موسكو، رياض حدّاد، يدعو الروس في لقاء له مع صحيفة أوفيستيا الروسية، للسياحة الدينية وزيارة أماكن العبادة في سوريا «الآمنة»، مؤكداً عزم «الدولة» تطوير البنية التحتية السياحية في البلاد بالتعاون مع روسيا، لتنظيم فعاليات منها ما هو ديني أو تاريخي أو ثقافي.
الثقافة مرة أخرى؟! الروس في كلّ الأحوال أكثر مهارة باستخدام الثقافة من سواهم، ميخائيل كلاشينكوف مثلاً، ثقّفَ من البشر ما لم يحلم به الأدب الروسي بشقيه القيصري والسوفييتي، وربما لا ينافسه في ذلك سوى حيدر العطار، الرادود مؤدي الرائعة الكلاسيكية في فنّ السياحة الدينية «قدح من درعا الشرر»، الذي أعطى صورة بانورامية عن المعالم السياحية في قطرنا الحبيب من درعا حتى حرستا.
يضعنا السفير حدّاد للحقيقة في موقف متأزم، ولأول مرة لا نجد يداً ممدودة، ولا لحية ربما أيضاً، لنتمسك بها سوى تلك التي يمدُّها لنا السياح من «حزب الله»، ففي شركة «الأسد توريزم» المدعوة عرفاً «سوريا»، لدينا ملحقٌ وطنيٌ للثالوث المحرّم عالمياً، ليُضاف إلى «الجنس والدين والسياسة»، السياحة أيضاً، التي لا بدّ من الخبرة في التعامل معها وإلا عرضتَ نفسكَ ومحيطكَ للخطر.
تحت شعار «لن تُسبى زينب مرتين» ساحت وفود الحجاج الصفراء من سوق الحميدية إلى الجامع الأموي ومرقد السيدة زينب، وصولاً إلى مقام السيدة سكينة في داريا، حتى القصير حيث… طريق القدس طبعاً.
ولأننا نحن السوريون اعتدنا دوماً وعلى مرّ التاريخ استقبالَ السواح بالقذائف الصاروخية والعبوات الناسفة، كانت أحياؤنا دوماً أكثر الأماكن مُلائمة لقضاء عطلة نهاية الأسبوع مع العائلة، وبعد استهداف الحافلات العائلية في دمشق والسيدة زينب، لم يُصَب السواح بالذعر ككل أقرانهم في العالم، بل عادوا رافعين شعارات مثل «نتحداكم باقين ما تسبوها مرتين».
ظاهرة صمود السياح هذه عوض استمتاعهم ستسبب إرباكاً في قراءة التاريخ مستقبلاً، حتى بالنسبة للطرف المنتصر، فبأي طريقة من المُتوقَّع عبورهم في التاريخ دون أن يُشكلوا ظاهرة سوريالية مقوِّضة للحقائق. تخيل أنك تقرأ في تاريخ إسبانيا مثلاً، أن مهمة ثوار الجبهة الشعبية ضد فرانكو كانت لتكون أسهل وأنجح لولا صمود السياح الألمان والإيطاليين!
أزمة خيال متفاقمة تضعنا فيها يا حضرة السفير، فمن سيحمي الروس غداً في بلادنا من السبي؟
وحتى لا تذهب سياحة الأصدقاء الروس الجرّارة في البلاد سُداً، أعتقدُ أن «ماتريوشكا» بحاجة للحماية، وهي اللعبة الروسية الشعبية المنتشرة بكثافة في أسواق الحميدية وفق ما أفادني بعض الأصدقاء، وأعتقدُ أن لديكم كل المبررات للصمود أنتم أيضاً في سياحتكم، والإصرار عليها 1400 عام أخرى مثل السواح من الشيعة، فماتريوشكا سيدة روسية حرّة ومُزخرفة، قد يحاول الإرهابيون إرغامها على ارتداء البرقع أو الخمار، وقد يجدون في زخرفتها تبرجاً مُحرّماً، فضلاً عن أن أحد الروايات حول أصول نشأتها تردُّها إلى عبادة وثنية لدى الصقالبة القدامى. مرحى! أصبح للروس ما يسوحون لأجله أيضاً.
ولأن السفير السوري لم يشغل باله بهذه المواضيع المثيرة للفتن، فقد ركّزَ جُلَّ اهتمامه على أكثر ما قد يقلق السواح الروس، تأشيرة الدخول، لن يواجه الروس مشكلة في السفارة السورية للحصول على تأشيرة دخول.
في الحقيقة، هذا الموضوع يُقلق السوريين وليس الروس يا سعادة السفير، فأكثر ما يرعبنا الآن أن نحصل على تأشيرة دخول إلى بلادنا مجدداً، بعد أن أكرمتنا الصدفة العبثية بالنجاة، خاصة وأن سياحكم من حزب الله وروسيا يسعون لإعادتنا «طوعاً» إلى منازلنا التي ثقبها الرصاص الحضاري والسياحي.
خلال السنوات السبعة الماضية من عمر الثورة، القطاع الوحيد الذي لم يتوقف رغم ركوده النسبي كان السياحة الدينية، وفق ما تبجّحَ به مسؤولو النظام، وإذا كنا نسردُ ما سبق بهذه الطريقة، فليس فقط من باب الإدانة، إنما أيضاً من باب الانبهار بهذه القدرة الهائلة على الاستثمار حتى في الخراب.
عام 2017 انقضّت الشركة السورية للسياحة والسفر، ومؤسسة الكرنك، على قطاع السياحة الدينية، كذراع استثماري للنظام، لضمان دخول الدولارات إلى خزينته عوض السوق السوداء، وحقَّقت دولة الأسد عائدات من السياحة الدينية تجاوزت 150 مليون ليرة سورية، وأكثر من 800 ألف ليلة فندقية لمحبّي الفانتازيا الدينية وصنّاعها، وفق تقديرات أعلنها وزير السياحة بشر يازجي.
يبدو أن هذا النوع من السياحة، مع هذا النوع من السياح والحُجّاج أيضاً، لا يجد سوى في ميادين المعارك وجهات جاذبة له، مثيرة لذائقته المتوحشة، في بعث ماضٍ أسطوري من بين الخرائب والأنقاض، لتحقيق لذّة مضاعفة للزوار، الذين سيرون في دمائنا أثراً لـ «بطولات» الماضي «المقدسة»، وبالعين المجردة دون الحاجة إلى تقنيات ثلاثية الأبعاد.