يمكن القول اليوم أن أهداف الولايات المتحدة أصبحت أكثر وضوحاً في المنطقة، خاصة بعد تعيين جيمس جيفري مبعوثاً جديداً إلى سوريا. يمتلك جيفري، الذي خدم سابقاً كسفير لبلاده في بغداد وأنقرة، أفكاراً واضحة سبق ونشرها مع عدد من المختصين في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، حيث عمِل حتى تعيينه أخيراً في الملف السوري، كما يحمل جيفري موقفاً متشدداً من طهران ونفوذها في المنطقة، ومن المتوقع أن يعمل على الدفع بمقترحاته التي صاغها سابقاً لتدخل حيّز التنفيذ على أرض الواقع.
تضع هذه الرؤية الجديدة في واشنطن ثلاث محددات رئيسية للوجود الأمريكي في سوريا: القضاء على تنظيم داعش؛ وتقليص النفوذ الإيراني؛ والعمل مع موسكو لدفع المسار السياسي وفق قرار مجلس الأمن 2254. وعلى الرغم من أن وضوح الرؤيا بالتأكيد أفضل من السياسات الارتجالية التي اتّبعها ترامب في سوريا منذ وصوله إلى البيت الأبيض، إلا أنّ هذه الاستراتيجيات قد تحمل عيوباً ستقود بالنهاية إلى تقويض أهداف واشنطن في سوريا، مفضيةً إلى نتائج مماثلة للآثار التي خلّفتها سياسات أوباما في المنطقة منذ عام 2011 بعد انطلاق ثورات الربيع العربي.
تتضمن ورقة السياسات التي أعدها جيمس جيفري وزملاؤه في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى عدداً من الإجراءات التي يجب اتخاذها مباشرةً، من بينها فرض حظر جوي وأرضي في محيط المنطقة التي باتت تعرف بـ «شرق الفرات»، والتي تقع تحت سيطرة قوات سوريا الديموقراطية (قسد)، حليفة واشنطن الأساسية في سوريا؛ وإيجاد أسواق بديلة لتسويق النفط المنتج في هذه المنطقة؛ ومنع القوات الإيرانية من إقامة قواعد عسكرية أو استخباراتية دائمة في سوريا؛ بالإضافة إلى منع قوات نظام الأسد والميليشيات الإيرانية من فتح طريق إمداد لها عبر شرق سوريا؛ والتضييق المالي والاقتصادي على نظام الأسد وحلفائه من رجال الأعمال.
يمكن إحالة هذه الإجراءات، من بين عدد من المقترحات الأخرى التي تقدمها الورقة، إلى استراتيجية سبق واستخدمت في العراق بعد حرب الخليج الثانية وتحرير الكويت، لتبدو هذه المقترحات وكأنها خيار مناسب في ظل عدم رغبة واشنطن القيام بعمل عسكري للإطاحة ببشار الأسد. وتعوّل هذه الرؤيا على أن الضغوط الاقتصادية على النظام الإيراني وحليفه في دمشق ستعطل قدرتهم على تمويل ميليشياتهم التي تسيطر على البلاد، مما يجعلهم أكثر ضعفاً، وبأن موسكو سترى عندها أنه من الأفضل لمصلحتها الدخول في عملية سياسة مع واشنطن تنتهي بانتقال سياسي يتوافق بطريقة ما مع الإطار الدولي المتمثل بالقرار 2254.
لكن، وبالرجوع إلى ذات المقارنة، فإن العقوبات والحظر الجوي الذي طبق على العراق لأكثر من عشر سنوات لم تدفع نظام صدام حسين إلى إجراء أية مراجعات، ولولا الغزو الأمريكي للعراق لما كان لعشر سنوات أخرى من العقوبات أن تثمر شيئاً على الصعيد السياسي، هذا دون أن نقول أن تلك الإجراءات قد طُبّقت على العراق بعد هزيمة جيش صدام في الكويت أمام التحالف الدولي الذي تشكّل بهدف استرجاع الكويت من القوات العراقية، بينما يظهر نظام الأسد وحلفاؤه في طهران وموسكو منتصرين بعد سيطرتهم على مساحات واسعة من سوريا.
وفي حين لا يستطيع النظام وحلفاؤه التقدم بقواتهم العسكرية إلى شرق الفرات، فإن النظام يحاول عبر عدة ملفات العودة إلى المنطقة من الباب الخلفي، فبعد تسلّمه السدود التي تديرها كوادر تتبع له، يجري حديثٌ عن عودة عدة مؤسسات تتبع لحكومته إلى مناطق شرق الفرات لتقديم خدمات لا تستطيع قسد تقديمها، مثل الأوراق القانونية ودوائر النفوس، ولازال الباب مفتوحاً أمام مزيد من الانخراط الأسدي في تلك المناطق وتطبيع العلاقات، ما يجعله طرفاً هاماً في المنطقة عبر إدارته لملفات خدمية هامة دون حاجته للقوات العسكرية.
أما بالنسبة للعقوبات المطبقة على طهران، وعلى الرغم من ظهور نتائجها سريعاً على وضع العملة والاقتصاد الإيراني، إلا أن إيران بلد سبق وأن تعرّض لعقوبات طويلة الأمد، ما زاد من مرونة اقتصاده وخبرته تجاه مثل هذه العقوبات، ما سيجعل تأثيرها السياسي على المدى البعيد غير محسوم، خاصة أن تهديدات طهران بإشعال حرب في الخليج العربي إن توقفت الصادرات الإيرانية من النفط سيدفع دول خليجية إلى مساعدتها في التهرب من العقوبات تخوفاً من اشتعال المنطقة، ولا يبدو أن الأوضاع الاقتصادية السيئة ستدفع الشارع الإيراني إلى التحرك بعد تجارب دامية منذ الثورة الخضراء بين عامي 2009-2010، بالإضافة إلى المأساة التي تعرض لها الحراك السلمي في سوريا، الأمر الذي يجعل من انتظار مثل هذه التحركات لتغيير الوضع الاقتصادي شبه المنهار أمراً غير محتمل.
وفي حين تتجه الإجراءات الأمريكية لتثبيت الوضع شرق نهر الفرات في مناطق تواجد قواتها، فإن احتمال سيطرة نظام الأسد على محافظة إدلب، آخر معاقل المعارضة السورية المسلحة، سيكون عاملاً رئيسياً في إنهاء أي أمل بدفع بشار الأسد وحلفائه إلى طاولة المفاوضات، فعندها لن يكون هناك حاجة للتفاوض على الانتقال السياسي أو تقديم أي تنازلات، وسيكون بإمكانهم تجاهل الوجود الأمريكي في شرق سوريا، والذي سيصبح معزولاً أكثر فأكثر وخاصة أن حليف واشنطن الرئيسي في الجوار، تركيا، ليس مستعداً لتقديم تسهيلات لبقاء القوات الأمريكية هناك.
في مثل هذه الأوضاع سيكون الوجود الأمريكي شرق سوريا من دون معنى سياسياً، كما أنه سيجد نفسه غارقاً في التجاذبات التي سيعمل النظام على خلقها في المنطقة من خلال وجوده الحكومي، وسيكون بإمكان النظام وحلفائه القيام في مثل تلك الظروف بالضغط عسكرياً أو أمنياً على الوجود الأمريكي شرق سوريا، إذ لا يمكن تجاهل حادثة تاريخية كانت السبب بخروج الولايات المتحدة نهائياً من لبنان وهي تفجير مبنى المارينز عام 1983، خاصة وأن الميليشيا التي نفذت تلك العملية، حزب الله، ما تزال موجودة، وتمتلك مقرات في شرق سوريا غير بعيدة عن مواقع القوات الأمريكية.
لا يمكن اليوم العودة إلى سياسات ما قبل أوباما، فتجاهل سنوات حكم الرئيس الأمريكي السابق والتنازلات التي قدمها للحلف الإيراني في المنطقة، ستجعل من تطبيق أي استراتيجيات جديدة عملاً محفوف بالمخاطر، إذ لن تكون السياسات، التي كانت ربما صحيحة قبل ست أو سبع سنوات، صحيحةً اليوم. في الحقيقة، قد تقود هذه السياسات التي يراها البعض أكثر تشدداً إزاء إيران في المنطقة إلى نتائج مماثلة لما جلبته سنوات أوباما على المنطقة، وربما أكثر من ذلك.