خرج آلاف المتظاهرين مساء يوم الإثنين السابع والعشرين من آب الماضي إلى شوارع مدينة كيمنتس في ولاية ساكسونيا شرق ألمانيا، رافعين شعارات معادية للأجانب ومنددين بسياسة الهجرة، لكن ما جعل ذلك اليوم استثنائياً في تاريخ المدينة، هو رفع المتظاهرين شعارات عنصرية وتأدية بعضهم للتحية النازية علناً في الشوارع، وهو ما يعدّ خرقاً للقانون في ألمانيا، بالإضافة إلى تنفيذ بعضهم اعتداءات على مهاجرين وأشخاص من ذوي أصول أجنبية دون أن تتمكن الشرطة من منعهم. وقد وصفت صحيفة تاتز الألمانية المشهد في كيمنتس ذلك اليوم قائلة: «لقد كانوا يمشون في المدينة كما لو أنهم سيطروا عليها، كما لو أنها لهم، وكانوا يهتفون بأعلى صوتهم: نحن الشعب».
تم تنظيم تظاهرات ذلك اليوم من قبل كل من مجموعة «من أجل كيمنتس» وتجمع بيغيدا «الوطنيون الأوربيون ضد أسلمة الغرب» وحزب البديل الألماني اليميني، وقد وصل عدد المتظاهرين بحسب شرطة المدينة إلى نحو ثمانية آلاف شخص. وبالمقابل، نظمت مجموعة «كيمنتس خالية من النازيين» مظاهرة مضادة في اليوم نفسه تحت شعار «الحب بدلاً من الكره»، وصل عدد المشاركين فيها إلى قرابة ثلاثة آلاف شخص، ورغم محاولة الشرطة التفريق بين المظاهرتين واستخدامها خراطيم المياه، إلا أن صدامات وقعت وأسفرت عن إصابة 18 متظاهراً واثنين من عناصر الشرطة. كان حضور اليمين بحسب تصريحات حكومية أكبر من توقعات جهاز الأمن.
جاءت تلك الأحداث بعد يوم ونصف من واقعة طعن أودت بحياة شاب ألماني يبلغ 35 عاماً، إذ تم طعنه عدة مرات ليلة السبت الأحد خلال شجار دامٍ بين أشخاص من جنسيات مختلفة. وقد تم إسعاف الشاب إلى المشفى، ليلقى حتفه هناك متأثراً بجراحه. وفي أعقاب الإعلان عن وفاة الشاب، دعا حزب البديل الألماني إلى مظاهرة مساء الأحد، تمّ حلها سلمياً بعد ساعة بحسب شرطة مدينة كيمنتس، وبعدها بمدة قصيرة تمت الدعوة لمظاهرة أخرى قرب النصب التذكاري لكارل ماركس خرج فيها ما يقارب ثمانمائة شخص، في مقابلهم خمسون شرطياً حاولوا عبثاً تفريق التجمع. كانت المظاهرة غاضبة وعدائية، وتمت مطاردة أشخاص من أصول أجنبية في الشوارع والاعتداء عليهم لفظياً وجسدياً بحسب صحف ألمانية، كما طالت الاعتداءات صحفيين، وصرّحت شرطة أنه كان بين الحشد خمسون شخصاً عدائياً أظهروا قابلية للعنف.
تأججت الأحداث بعد تسريب معلومة أن المشتبه فيهما في حادثة الطعن هما طالب لجوء سوري ولاجئ عراقي في العشرينيات من العمر، وأنه تم اعتقالهما للتحقيق في الأمر، وقد تسربت مذكرة الاعتقال من قبل موظف قضائي ما أدى إلى إيقافه عن عمله من قبل السلطات، إلا أن حزب البديل اليميني سرعان ما عرض عليه وظيفة في المقابل. وقد تداولت بعض وسائل الإعلام حادثة الطعن بوصفها محاولة لاغتصاب فتاة ألمانية راح ضحيتها الشاب الذي حاول إنقاذ الفتاة، وهو ما استغلّته التيارات اليمينية لحشد وتعبئة الآلاف في كيمنتس ضد الأجانب، وضد الإعلام الكاذب وفق تعبيرهم، وضد سياسة ميركل في مسألة الهجرة. ورغم أن رئيس شرطة ساكسونيا يورغن جيورجي نفى ما تداولته الصحف من أن الجريمة كانت في الأصل محاولة اغتصاب لفتاة، إلا أن اليمين المتطرف استمرّ بتداول الشائعة والتعامل معها كحقيقة.
وقد قال ميشائيل كريتشمر، رئيس ولاية ساكسونيا من الحزب المسيحي الديموقراطي، إن الاستغلال السياسي لحادثة الطعن من قبل المتطرفين اليمنيين «مثيرٌ للاشمئزاز»، وأن ما حصل قد هزّ الجميع. مضيفاً: «سنواجه اليمين وسيكون النصر حليفنا». من جهته أبدى زعيم الحزب المسيحي الاجتماعي هورست زيهوفر تعاطفه مع الضحايا، مؤكداً أن رد الفعل الشعبي الذي رافق الحادثة مفهوم، إلا أن ذلك «لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن يكون مبرراً للعنف والاعتداءات». أما مونيكا لازر عضوة البرلمان عن حزب الخضر فقد صرحت أن ما حدث كان «كارثة وناقوس خطر»، لكنها انتقدت حكومة ولاية ساكسونيا التي «كانت طيلة الوقت تضع العصي في عجلات المبادرات والمنظمات التي تحارب اليمين» بحسب تعبيرها، مضيفة أن ما حصل هو نتيجة طبيعية لسياسة غضّ الطرف عن مشكلة النازيين الجدد الحقيقية الموجودة في كيمنتس.
بعض الصحف الألمانية اتهمت الشرطة بأنها ترخي الحبل للتيارات اليمينة، فيما اتهمها اليمينيون عبر منابرهم بأنها لا تستقوي إلا على الشعب، في حين صرحت الشرطة أنها لم تتوقع خروج أكثر من بضع مئات من المتطرفين للتظاهر، وأن العدد فاجأها وأنها لم تكن مجهزة للتعامل معه. لكن موقع بازفيد نيوز نشر تحليلاً يفيد أن الشرطة كان يجب أن تتوقع هذا العدد من مجرد آلاف المشاركات التي حظي بها منشور صفحة «من أجل كيمنتس» على فيسبوك، الذي دعا إلى التجمع والاحتشاد في المدينة يوم الإثنين.
وبحسب موقع أبحاث تاغيس شبيغل، فإن هيئة الحماية الدستورية في كيمنتس كانت قد حذرت الشرطة والدوائر الحكومية مسبقاً من تدفق يميني قادم إلى المنطقة من كل أرجاء ألمانيا، الأمر الذي دفع موقع فرايي بريسي للتساؤل عن سبب الفوضى التي حصلت، وسبب عدم التنظيم في صفوف الشرطة ومشاهد العنف التي شهدتها المنطقة رغم جميع المؤشرات على إمكانية حصوله.
وتُعدّ مدينة كيمنتس ثالث أكبر مدن ولاية ساكسونيا، التي حصل فيها حزب البديل اليميني على 27 بالمئة من الأصوات في الانتخابات الفيدرالية عام 2017، ويقطنها ما يقارب 250 ألف نسمة. وقد تم تدمير المدينة بشكل شبه كامل في الحرب العالمية الثانية، لتخضع بعد هزيمة النازية لنفوذ الاتحاد السوفييتي، الذي أطلق عليها اسم «كارل ماركس شتات» بدل كيمنتس. ورغم أن عمر الوحدة الألمانية وسقوط الجدار بين الشرق والغرب يقارب ثلاثين عاماً، إلا أن الاختلافات الثقافية والاقتصادية بين ولايات الشرق والغرب ما زالت واضحة، سواء من حيث الحالة الاقتصادية أو التعليم والصحة، إضافة إلى ثقافة الترحيب باللاجئين.
كان المكتب الأعلى للمهاجرين واللاجئين قد أعلن في آخر إحصائياته أنه في النصف الأول من عام 2018 لم تزد طلبات اللجوء عن أربعة آلاف وخمسمئة طلب في ولاية ساكسونيا، في حين وصل عدد الطلبات في ولاية النورد راين مثلاً حتى 22 ألف طلب، ولكن على الرغم من ذلك فإن خطابات العنصرية والعداء الأجانب ما زالت تخرج من ساكسونيا بكثافة. وفي حين انخفضت نسبة البطالة في كيمنتس من 13 بالمئة عام 2013 إلى 8 بالمئة في 2018، وتراجعت نسبة الجرائم، وتناقص عدد طلبات اللجوء، إلا أن الكراهية للأجانب والخوف منهم يتصاعد، ومعه تأييد التطرف اليميني.
لا تزال فعاليات وتظاهرات القوى اليمينية، والتظاهرات والفعاليات المضادة لها، مستمرة في كيمنتس، وقد سببت الأحداث العنيفة فيها صدمة عميقة بالنسبة لكثير من الألمان، كما أنها أثارت مخاوف المهاجرين على مستقبلهم، وأثارت قلق الشعب الألماني على دولة القانون والقيم الألمانية، مُعيدة موضوع مواجهة التطرف والشعبوية إلى واجهة النقاش السياسي الألماني.
وعلى خلفية ما حدث، دعا وزير الخارجية الألماني هايكو ماس إلى التجمع وإعلاء صوت الأغلبية الألمانية التي تدعم الحقوق والحريات، كما ارتفعت دعوات للمطالبة بإخضاع حزب البديل لمراقبة هيئة حماية الدستور، ودعا رئيس وزراء ولاية ساكسونيا إلى مزيد من الصرامة في عمل قوات الشرطة في المستقبل، إضافة إلى ولادة حركة جديدة تحت اسم «انهضوا» لدعم الديموقراطية وتحقيق أجندة اليسار. كذلك تم تنظيم مهرجان موسيقي في كيمنتس تحت شعار «نحن أكثر»، لبى الدعوة إليه ما يقارب 65 ألفاً من كل أنحاء ألمانيا، احتشدوا مساء يوم الإثنين الثالث من أيلول في إحدى الساحات في قلب مدينة كيمنتس لتسجيل موقف ضد التطرف، وإثبات أن المتطرفين ليسوا الشعب كما يدعون، وأن المؤيدين للديموقراطية ما زالوا يشكلون الأكثرية. أحيا المهرجان عدد من الفرق الموسيقية المشهورة في ألمانيا، مع بثّ حيّ على يوتيوب.
الشاب السوري سعد ياغي (20 عاماً، من مدينة لايبتزغ) قصدَ المهرجان بدعوة من أصدقائه الألمان الناشطين في منظمات إنسانية تُعنى باللاجئين وقضايا الاندماج، وقال للجمهورية إن ما حصل في كيمنتس «زرع الخوف في قلوب سكان المدينة المهاجرين، لكن المهرجان كان له تأثير مُطمئِن، فكيف تخاف وأنت محاط بـ 65 ألفاً ممن يؤيدون وجودك؟»، لكنه يضيف أنه لا ينبغي التقليل من الخطر الذي يشكله صعود اليمين على اللاجئين وعلى ألمانيا عموماً.
في السياق نفسه، قال فليكس برومر من فرقة كرافت كلوب في مؤتمر صحفي حول المهرجان: «نحنا لسنا ساذجين لنعتقد أن حفلاً موسيقياً من شأنه أن ينقذ العالم، لكن من المهم هنا ألّا ندع الناس يشعرون أنهم وحدهم».