ينقل كارل يونغ، عالم النفس السويسري، محادثة له مع رئيس قبيلة من الهنود الحمر، يقول له الأخير فيها أنّ من وجهة نظره: «لمعظم البيض وجوه متشنجة، ونظرة مثبّتة وسلوك فظّ»، ويكمل القائد كلامه: «هم دوماً في حالة بحث عن شيء ما، ولكن ما هو بالضبط؟ هم مضطربون ومهتاجون باستمرار، لا نعرف ما يريدون، بالنسبة لنا هم مجانين».
يُذكِّرُ ذاك البحث المحموم عن اللاشيء، الخارج عن الذات/الجسد وعن اللحظة الراهنة باتجاه الماضي أو المستقبل في سياق روحانيات ونفسانيات يونغ، يُذكِّرُ بإلحاح ضمن سياق آخر تماماً بقلق نعيشه حالياً، نفرضه على أنفسنا ويفرضه علينا أحياناً مراقبون وراصدون بعيدون يُرسمِلون مُعاشنا بطريقة لا ندركها دائماً. إنه قلق الذاكرة والأرشيف.
وللذاكرة والأرشيف في الحالة السورية خصوصيات فريدة قد يفيد أن نتأمل فيها، ليس أقلها إثارة للتعجب ذاك المسّ الذي بلغ كثيرين في حمى التدوين والتوثيق وحفظ الذاكرة. ما هي يا ترى القيمة التي نريد إسباغها على عملية حفظ الذاكرة، وليس على مضمون الذاكرة عينها وحسب؟ وما معنى أن المعركة اليوم هي معركة تاريخ وتدوين ورواية للقصة؟
هناك هلعُ الفراغ والنسيان، وأفولِ قصة طبعت أبداننا وهويتنا بعيدين كنا عن سوريا أم في قلبها. أن يتطاول الزمن مسافاتٍ عن لحظة 2011، لا يشبه إلا لحظة تخلي مريض الزهايمر لأول مرة عن إنكاره لتداعي وظائف عصبوناته. هذ اللاشيء الأبيض رهيبٌ في خوائه. ماذا نفعل بعد؟ أبلغ توصيف يمكن أن يُذكر هنا هو فعل «اللعبطة» في الدارجة السورية، «نلعبطُ» كهيدرية وحيدة الخلية في كل الاتجاهات ضد مسبار الزمن ومسابير أخرى، باتجاه الذاكرة والماضي لتذكُّرِ القصة الأولى وقيمها التحررية وتدوينها، لتهبَنَا جسداً غير خاوٍ نعيش به. ولإضافة المعاني. دون أن نتفكّر: ما معنى المعنى هنا؟
موضوعياً المهدّدات بالنسيان والمراجعة والإنكار لا تُعدّ ولا تحصى، حين نرى على سبيل المثال أن آثار كثير من جرائم النظام يتم السعي الحثيث لطمسها أو بناء قطع عسكرية فوقها، أو حتى تتمّ ملاحقة حفاري قبور الشهداء في المناطق التي استولى عليها النظام. استطلاعٌ قصيرٌ للدراما السورية سنة وراء سنة كافٍ لإثارة الهلع من كيف تُبنى السرديات والسرديات المضادة، على الأقل السرديات المضادة لذاكرتنا العاطفية أو ذاكرة بعضنا العاطفية، والتي ليست بالضرورة ذاكرة وقائع صِرفة، تُبنى بذكاء وتؤدة وبتطور ديناميكي يتغير من سنة لأخرى. تمييع الحدث في دراما 2012 و2013 لحقه ترتيب ثانٍ للأحداث، يعترف بقلة نزيهة من الثائرين الطوباويين خدعتهم كثرة عميلة «زعورية» لا علاقة لها لا من بعيد ولا من قريب بالقيم الثورية. هذا الشغل على المرويات المراجعة والإنكارية، ومهما كانت تقييماتنا الفنية له سيئة، يبيّن كم يمتلك صانعها من الوقت، هذا الرأسمال الذي هو الوقت يفتقده معسكر الواقعين تحت البراميل أو اللاجئين والمهجرين، وقتُ بناء المرويات، وذلك ما يبرر الخوف الشديد من «تعفيش» القصة، «تعفيش» النظام للقصة. العنصر الوحيد الذي لا يزال مقاوِماً لمراجعةِ وإنكارِ النظام الطاغي في الدراما هو الاعتقال السياسي والتعذيب في سجون النظام، وحين يستعصي عنصرٌ كهذا على سردية النظام، يتم إلباسه لبوساً لغوياً جديداً كي يُستبدَنَ كحقيقة مطلقة مرتبطة بالطقس والمناخ السوري، كحتمية مصيرية اعتباطية لا علاقة بالاجتماع والسياسة في سوريا بها، بل بهوية السوري «الأبدية». يقولون عن المعتقل في الدراما الأحدث: «دخل القنينة» كما في مسلسل «فوضى» إنتاج 2018، القنينة المستغلقة عن أي تحليل أو تفسير أو استنكار. قنينة توحي بالقبول، بالسكينة والراحة، كما يقبل الياباني بأرضه الزلزالية وبالموت وبموسم زهر الكرز الآفل في برهة. وإرادة اغتيال الذاكرة تترجم رمزياً وعيانياً حين يسارع مخرج سينمائي مثل جود سعيد لتصوير فيلم على أنقاض مدينة حمص القديمة الخارجة لتوها حينئذ من حصار قاتل، وقريباً مسلسل في أنقاض أنفاق الغوطة الشرقية. هذا النوع من الاستملاك العنفي للمكان لا يتمايز عن إنتاج موسيقى الراب المؤيدة والتشبيحية والمتواجدة بكثرة على يوتيوب عن حمص القديمة بعد تحريرها من «الإرهابيين»، إلا بدرجة التهذيب وضبط النفس عن الانفلات بالبذاءة. وكذلك هي تمارين طلاب الفنون الجميلة الكيتشية، حين سارعوا مؤخراً لتجميل أنفاق جوبر والتخفيف من آثار العصابات المسلحة برسومهم ومنحوتاتهم.
بغضّ النظر عن وظيفة الأنفاق، نُبلها أو سوئها، فالتماثيل الرأسية لحافظ الأسد في الأنفاق تلك، هي فجور، فجور اغتيال السرديات والذواكر. كل شيء إذن ملائم للنسيان والإنكار. تعبُ الناس كافٍ وكفيلٌ باستكمالهما. تغيّرُ مواقع الناس وتغيّرُ القوى السياسية عرّابان للنسيان. يُروى أن مسؤولاً في هيئة مدنية مهمة في منطقة ثائرة سابقاً قام بمحو كل محاضر الاجتماعات لمجالس محليّة وهيئات مدنية، والتي كان يجمعها وينشرها على الانترنت عبر سنوات، دون سبب واضح، بعد أن تم تهجيره إلى الشمال. كثيرون أيضاً من يسعون لمحو آثارهم «الغوغلية» المرتبطة بالثورة، كنوع من نفض الخسارة والهزيمة أو رعباً من مواجهة سذاجة الذات ونقدها أو عدم تحمل ألا يكونوا في صف المنتصر. هذا الإمحاء جاثمٌ رعباً في مخيلتنا، خاصةً للبعيدين عن سوريتهم، من بقي وعاش في البلد قد يناسبه النسيان لأنه شرط استمراره في مكان المجزرة، ومن ابتعد وشهد الأحداث ليس عن كثب، يناسبه الاستذكار لأنه شرط استمراره وربما معنى وجوده الوحيد في مهجره. والاستذكار ربما يكون وجهاً من أوجه حفظ الكرامة قبالة الشامتين المتبصّرين، الذين كانوا وما زالوا يروون ويلوحون بما لا يراه الآخرون من هزيمة محتمة. وموضوعياً هناك أيضاً خطر تقطّع الذاكرة بسبب محليتها وترابيتها، أضحت هذه السمة في الحراك السوري معروفة للجميع. الثورة كانت ترابية ومكانية، في كل بقعة لها شأنها الخاص، وبذلك أصبح حفظ الذاكرة، ذاكرة جامعة، من المهمات الجسيمة.
إلا أن الذاكرة لعبة خطيرة، فما الشكل الذي ينبغي أن تكون عليه وظيفتها؟ قد يكون أهم ما يمكن أن تنجزه الذاكرة هو تجاوز الترسيمات الجاهزة المستوردة من أنساق رضيّة أخرى عنها وعن وظيفتها: كوظيفة طقسية لاحقة للمآسي كما في ثقافات أوروبا الحديثة، شيءٌ من قبيل إغلاق الملفات وإراحة الضمائر، الذي لا يبدو أنه يستكمل مهمة استخلاص الدروس، الذاكرة كمادة متحفيّة تُضاف إلى إرث مُتحفيّ سابق، نصحبها بلازمات من نمط: «ألّا ننسى»، «ألّا تُعاد» إلخ. هذا المعنى للذاكرة والأرشيف يبدو مرتبطاً بشبق الصور والأراشيف المتحفية بالمعنى الأوروبي، نحاول تمثّله على أنه كونيٌّ دون شغل ذاتيّ يخصّ تجربتنا. من قال إن حفظ الأرشيف والذاكرة الرضيّة دون عمل مسؤول وجدّي عليها سيضمن عدم تكرار المقتلة؟ ألم نكن نقول إن مقتلة حماة غُيّبت ولم تحفظ كدرس واجب تمثله في الاجتماع والسياسة السوريين، وإذ بنا نفاجئ في شباط 2012 أن تلك الذاكرة حاضرة وبشدة ولكنها حاضرة قهراً وحقداً وتماهياً كاملاً مع الجثث المُمثَّل بها في حيّ «الحاضر» الحموي، وأن نُتفاً من حكاية رعب حقيقية يتداولها جيل وراء جيل ليس بالضرورة من أبناء أو أحفاد حماة. كثيرٌ من أبناء جيلي يعرفون ويتداولون قصصاً عن نقيب أطباء حماة، الذي فُقئت عيناه وعُلق على نواعير حماة، ولكن لا نعرف الكثير من التفاصيل السياسية. هي غالباً أقوال جاهزة تُستعاد هنا وهناك وبلغات محلية أحياناً «تنذكر تما تنعاد» في الحالة اللبنانية، في استذكار قسري للحرب الأهلية لا يبدو أنه كثير النجاعة، فالذاكرة القهرية للحرب الأهلية حاضرة في الضمائر، إلا أن السؤال هو: هل تلك الذاكرة الحاضرة كفيلة بتجنب الكارثة؟ أم أنها قد تكون أحد عوامل استجلابها. قد يكون ثمة وظيفة أسمى علينا البحث عنها، من قبيل مثلاً أن نفصل هويتنا الجمعية وهوياتنا الفردية عن الألم والظلم والجلّاد والضحية في ماضينا القريب والبعيد، أن نفصل أجسادنا المستقبلية عن الجثث الممثل بها والمحترقة والمعذبة والمغيّبة حتى لا يُستدام الموت، أن نستودع كل ذلك في شيء ما نطلق عليه «ذاكرة» بعيداً عن أبداننا وأرواحنا. ما يبدو جلياً حتى الآن أن حفظ الذاكرة فيه نوع من الهذيان الجمعي: هذيان انتقامي: «لن ننسى وسننتقم»، هذه الجملة توجز مأساتنا وتنبئ بأننا سنكون أسرى غضبنا ومظلوميتنا إلى الأبد. أسرى الأبد نحن لا محالة. والهذيان الثاني هو هذيان ضحايا، حيث أهم عوامل استمرار المظلومية ونفسية الضحية تستند على أن العلاقة بالماضي أهمّ بما لا يُقاس من العلاقة بالحاضر. ذاكرتنا حاضرة ومتقدّة بشكل مرضي مثل ذاكرة كل المرضوضين المصابين بداء الذاكرة العضال، لا يستطيعون الانفصال عنها لأنها تصنع ذواتهم وهوياتهم. ذواتنا بحاجة للألم لأننا لم نعرِف أو نعرّف أنفسنا خارج الألم، وقد تكون هي الهوية الوطنية الوحيدة الجامعة في بلادنا ضمن مكوناتها «الفسيفسائية» المتنافرة أو «المتجانسة».
وتبدو حمّى الذاكرة والأرشيف اليوم وكأنها لتثبيت تلك الهوية وحسب: المعاناة القصوى الرضيّة. في المنحى العام والذي غالباً ما يدّعي رفض لباس الضحية، الكلّ يسعى بشكل ذهاني غير واعٍ إلى تثبيت كينونة الضحية المسلوبة وصورها الأقبح (من بين آخرها صورة حرق الأحياء في فيديو مُسرَّب عن مخيم اليرموك). المناقض للضحية هو الإلحاح، الذهاني كذلك، على صورة البطل المقاوم. وبين القطبين تضيع الذوات المرغمة على الالتصاق بالعذاب كمصفوفة مُعرِّفة للذات. في هكذا معمعة جنونية ننسى أنه في الوقت الذي يُعلَنُ عن مقتل ألف شاب من داريا تحت التعذيب، قد يكون من الواجبات المسؤولة تجاه الذواكر الوطنية السورية، استذكار القيم التي نادى بها يحيى شربجي في بدايات الثورة الشعبية السلمية، يحيى شربجي الذي قضى تحت التعذيب ووردَ اسمه بين أسماء شباب داريا الشهداء الألف.
في المعركة الجديدة التي نستورد فيها بخفة القيم والمعاني للذواكر، يبرز سوقٌ للذاكرة والأرشيف، اكتشف فيه المهزومون أن قيمتهم الجديدة عند الآخر المؤرِّخ هي بقدر ما يمتلكون من آثار وأراشيف لذاكرتنا، سوقٌ تباع فيه الذاكرة حرفياً بالتيترات والميغات والصور لمُسوِّقين ومُنتجين، صاحب الرأسمال الجديد فيه هو من تذكَّرَ أن يُسجّلَ أو أن يُصوّرَ من اللحظات الأولى، صاحب الرأسمال فيه هو من كان في «قلب الحدث» يعوِّضُ في إحداثياته الجديدة خساراته الثورية في قلب الحدث، باستحواذه على أرشيف يبيعه مادياً أو رمزياً. والخاسر فيه هو من عاش الحدث على الهامش مهما تلوّعت روحه، الخاسر فيه هو الأرشيف الغائب الذي لم يلتفت أحد إلى تدوينه، ومن يستطيع أن يؤكد لنا أن ما غاب هو أقلّ أهمية مما دوِّن؟ على عمل الذاكرة الأصيل في حالتنا أن يكرِّمَ المفقود غير المُدَوَّن وحيوات الذين عاشوا على هامش الحدث، ولكن كيف؟ كيف يمكن أن نضفي معاني وأخلاقيات على عملية حفظ الذاكرة نفسها وليس فقط على مضمونها؟