ألهمني نصّ «امتحان الشمال البارد» لعدي الزعبي أن أدوّنَ مشاهداتي وتجربة المنفى الفلسطينية السورية في اسكندنافيا، الدنمارك، كوبنهاغن، إذ جمعتنا مساحةٌ من الغربة في هذه المدينة، حيث أعيش ويعيش عدي.
الهجرة كحلم مبكر
عندما كنتُ في المرحلة الثانوية في ثانوية اليرموك للبنات بدمشق، لطالما حلمتُ بالسفر إلى أوروبا، وعبّرتُ دائماً لصديقاتي عن رغبتي هذه. قلتُ لهنَّ مراراً وتكراراً إن أملي المطلق في الحياة هو السفر إلى أوروبا، بينما صديقاتي قلنَ إنهنَّ يُردنَ أن يبقينَ هنا، في سوريا، أو يعدنَ إلى فلسطين. ومع مرور الوقت قابلتُ العديد من الغربيين، سواء كانوا أوربيين أو أمريكيين، في دمشق، حيث درست الأدب الإنكليزي في جامعتها. حينها كنتُ أسعى بلا كلل إلى أن أتقن اللغة الانكليزية، ولذلك قمت بدروس تبادل لغات مع «الأجانب» كما كنا نطلق عليها.
الصورة المهيمنة للفلسطينيين في سوريا وفي الدنمارك
كنتُ سعيدة بدراسة الإنكليزية في الجامعة، وفخورة بأن عدداُ من أساتذة الجامعة كانوا فلسطينيين سوريين مثل البجيرمي، وأحمد حسن، وآخرين. كنتُ أسمعُ مراراُ بأن الفلسطينيين شعبٌ من أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة. وفعلاً لاحظتُ أن هذه المقولة ليست فقط مقولة شفوية، ولكنها أيضاً مدونة بالكتب. المفكّر إدوارد سعيد كتب عن ذلك في مؤلفاته، وياسر عرفات دوّن ذلك في خطاباته السياسية، وحتى نقاد الدراسات ما بعد الكولونيالية كالمفكرة آنا بيرنارد ذكرت أن هيمنة القضية الفلسطينية في البلدان العربية منذ 1948، تعني أن تأثير الكتاب الفلسطينيين في الأدب العربي كبير مقارنة بعدد السكان الفلسطينيين.
ولكن أول صدمة ثقافية تلقيتها عندما انتقلتُ إلى الدنمارك كانت حول الصورة السائدة عن الفلسطينيين. عندما وصلتُ إلى الدنمارك بدأتُ دراسة اللغة الدنماركية، وكنت ضمن «برنامج الاندماج». «اندماج» هي الكلمة التي سمعتُها أول ما قدمت، ولها صدى عظيم في المجتمع الدنماركي. من ضمن ما سمعته في مدرسة الاندماج أن النساء العربيات (على الأرجح الفلسطينيات من لبنان) لا يتحدثنَ الدنماركية رغم أنهنَّ قطنَ في الدنمارك لعشرات السنين، وهذا يعني أنهم غير «مندمجين» في المجتمع الدنماركي. سمعتُ أيضاً من مقربين أنه ليس من العدل أن تندرج امرأة مثلي مع هذه الفئات من الأجانب «السمر»، لأنهم يقومون بأعمال ليست أخلاقية في المجتمع. وسمعتُ أيضاً أن الفلسطينيين لا يكملون تعليمهم، خاصة الشباب، وأنهم ينتمون إلى عصابات، ناهيك عن الإعلام الذي يركّز على جنسية الشخص أكثر من عمله المخرّب. منذ عدة أيام سألني شخص من معارفنا من أين أنا، أجبته أنني فلسطينية سورية فقال: «لا، فكرت أنك من الأرجنتين»، وأضاف أنه لم يتوقع أبدأ أني فلسطينية، على الأرجح لأنني لست محجبة.
أتساءل، من خلال هذه الأمثلة التي ذكرتها، لماذا لدى الفلسطينيين هذه السمعة؟ لماذا تختلف الرواية حولهم من سوريا إلى الدنمارك؟
أتساءل أيضاً، لماذا لم تصدقني صديقتي الدنماركية عندما أخبرتُها قصة جدتي في ظل النكبة الفلسطينية، عندما رويت لها ما حدث مع جدتي من ظلم على أيدي عصابات الهاغانا الإرهابية، شكَّكَت بروايتي وسألتني عن المصادر التي تذكر الانتهاكات التي ارتكبها الصهاينة بحق المدنيين الفلسطينيين. هنا تعرضتُ لصدمة ثقافية أخرى ألا وهي أن الرواية الصهيونية التقليدية حول النكبة هي المهيمنة في المجتمع، وذلك بسبب الإعلام واللوبي الصهيوني ربما، وعدم بذل نشاط كاف لمحاربة هذه الرواية من قبل الفلسطينيين والمتعاطفين معهم.
قررتُ بعد هذه الصدمة أن أتحرّى عن الموضوع لمعرفة ما هو السبب في عدم تصديق صديقتي لي، فقررتُ أن أكتب رسالة ماجستير حول فلسطين، لكي أكتشفَ الكتب الأكاديمية التي تعالج موضوع فلسطين واسرائيل. اكتشفتُ أنه خلال الثمانينات ظهرت مجموعة مؤرخين أطلقوا على أنفسهم اسم المؤرخين الجدد، وذلك لأنهم تحدوا الرواية الصهيونية التقليدية حول النكبة، والتي تقول إن اليهود طلبوا من الفلسطينيين برجاء أن يبقوا ويعيشوا معهم بسلام. لقد أكّدَ المؤرخون الجدد الرواية الفلسطينية التي تتحدث عن الترانسفير كما يسميها المؤرخ الفلسطيني نور مصالحة، والتي يكتب عنها المؤرخ الإسرائيلي إلان بابيه واصفاً إياها بالتطهير العرقي. وهكذا حتى وصلتُ إلى ما كتبه إدوارد سعيد في أحد مؤلفاته، من أن المتابع لطريقة تناول الإعلام في الغرب للقضية الفلسطينية، سيأخذ فكرة غير كاملة عما يحدث في فلسطين وعن التاريخ الفلسطيني في المنطقة.
من بين الوسائل التي اتبعتها لأحسن لغتي الدنماركية، كانت متابعة الأخبار عبر التلفزيون الدنماركي، مع العلم أن كبرى القنوات الدنماركية قناة حكومية، وكانت صدمتي الثقافية كبيرة. تغطية الموضوع الفلسطيني الاسرائيلي تنصبّ حول إرسال صورة للمشاهد تفيد بأن الفلسطيني هو الباغي، فعندما يقوم شخص فلسطيني بعمل ذي طابع عنفي تنقله القناة الدنماركية كخبر عاجل، وكل التشرد والظلم الحرمان الذي عانى وما زال يعاني منه الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية والشتات لا يُبالى به. ومن أمثلة ذلك أنه عندما بدأت أحداث الطعن بالسكاكين من قبل أفراد فلسطينيين لمستوطنين أو جنود اسرائيليين منذ العام الماضي، نقلها الإعلام الدنماركي نقلها كخبر عاجل في سياق يكتفي فقط بنقل حادثة طعن، دون التطرق إلى مسألة الاستعمار والاحتلال المستمر لفلسطين التاريخية.
يقول إدوارد سعيد في كتابه الشهير القضية الفلسطينية (1979) إن أحد أسباب كتابته لذاك الكتاب هو رغبته في تحدي الافتراض الذي يقود إلى أن تدعو المشكلة الفلسطينية في الغرب إلى التفكير بالإرهاب. لقد حلل إدوار سعيد تغطية الإعلام الغربي للتعاطي مع الشرق، بما فيه موضوع فلسطين، وجادل في أن الإعلام في الولايات المتحدة، ولكن ليس حصراً فيها، يقوم بتصوير الشرق وكأنه إرهابي.
الثورة السورية واليساريون في الدنمارك
بعد انطلاق الثورة السورية، ثم ضرب مخيم اليرموك عام 2012، الأمر الذي سبب التشرد الثاني لوالدي وعائلته والعديد من العائلات الفلسطينية والسورية، قمتُ مع ناشطين آخرين بالدعوة للتظاهر أمام السفارة الفلسطينية في كوبنهاغن بسبب عجزها عن حماية الشعب الذي تمثله، وسمعتُ أن كثيرين يشككون في نيتنا وهدفنا من هذه المظاهرة. منهم من يقول إن الأسد يقوم بحماية بلده من المؤامرة المحاكة ضد سوريا، وكان الشخص الذي سمعته يقول هذا فلسطينياً دنماركياً، حينها تساءلت: كيف يريد هذه الرجل فلسطين حرة وسورية ليست حرة؟
عندما أكتبُ تعليقات حول جرائم الأسد في وسائل التواصل الاجتماعي، أجدُ أن أصدقائي اليساريين الداعمين للقضية الفلسطينية يجادلون في أن فلسطين محتلة ومستعمرة من قبل الغرب، ولكن سورية دولة قانونية لديها سيادتها واعترافها الدولي. أُخبرُ صديقي الباحث السوري جوزيف ضاهر عن هذه المسوغات التي أتلقاها من أصدقائي اليساريين، فيقول: أحبذ ألّا يكون لدينا دولة إن كانت هذه الدولة التي سننعم بها. أقابلُ الكاتب السوري نوري الجراح في كوبنهاغن، فيتحدث عن خيبة أمله بالفلسطينيين الذي لا يقفون ويساندون الثورة السورية، ويحدثني بدون كلل عن دوره خلال الثمانينيات في مساندة الفلسطينيين في لبنان، وكيف كان مخيم اليرموك بوابة وحاضنة للمثقفين السوريين الفارين من النظام الأسدي.
وهكذا وصلتُ إلى قناعة أنك يجب أن تجرب شخصياً هذا النظام لتفهم طبيعته، ولكن ماذا عن معارفي وداعمي قضيتي من اليسارين الغربيين؟!
الهويات المتعددة للفلسطيني/ة
أيضاً يحصل في الدنمارك أني أتبادل الحديث مع شاب فلسطيني ولد في لبنان. يخبرني عن امتنانه للدنمارك لأنها منحته كل الحقوق الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وأنه حصل على الجنسية الدنماركية، بينما لبنان لم يعطه وأهله شيئاً، فقد تم وضعهم ضمن مخيمات وحرمانهم من كل الحقوق. أخبرهُ أنني لستُ ممتنة للدنمارك بخصوص فرض التقييدات المستمرة على الأجانب، لأن الشيء الوحيد الذي أحلم به هو أن أحصل على الجنسية الدنماركية فيتسنى لي أن أتنقل بين البلاد العربية دون دعوة وفيزا. وأقول له إني كنت سعيدة في سوريا، كنتُ أتمتع بكل الحقوق.
درستُ في الجامعة بدون أجور، وعملتُ في عدة مجالات. لقد استخدمتُ تعبير أنني كنت «مندمجة» في المجتمع السوري، وذلك بسبب القوانين التي سنّتها سوريا في الخمسينات، والتي ضمنت للفلسطينيين كافة الحقوق وساوتهم بالسوريين، وذلك بعد تشريدهم من فلسطين خلال 1984 وبعد ذلك، وأيضاً من قبل. وأحاولُ أن أشدد أن هذه القوانين كانت في مكانها هذا قبل النظام الأسدي. والفلسطينيون هم أقلية في سوريا، حيث يبلغ عددهم أكتر بقليل من نصف مليون.
ولكن أنا أعرّفُ نفسي كفلسطينية سورية، أشعر بانتمائي لسورية كما أنتمي لفلسطين. أعيش الفكرة الفلسطينية، التجربة الفلسطينية، كما وصفها إدوارد سعيد. ولكن في الوقت نفسه أشعر بانتمائي للدنمارك وأشعر بهويتي الدنماركية، وحتى الإيطالية لأنني عشت ثلاث سنوات في إيطاليا، بين إيطاليين، قبل قدومي إلى الدنمارك. أبرّرُ انتمائي المتعدد لعدة مجتمعات، أو شعوري أن لديَّ عدة هويات بانخراطي في هذه المجتمعات. أشتاقُ لسوريا، أشتاقُ للشام، أشتاقُ لدمشق القديمة وشوارعها العريقة، لجبل قاسيون، ولجادات سلّمية، كما أشتاق لمخيم اليرموك وزحمته و«سوق الخضرة»، أشتاقُ أيضاً لحسن الضيافة عند السوريين والفلسطينيين وللعلاقات الاجتماعية. أشتاقُ لتورينو في إيطاليا ولطف أصدقائي وصديقاتي الإيطاليين، فأزور المدينة وأزورهم بدون فيزا. أشتاقُ لكوبنهاغن عندما أسافر منها، أشتاقُ لشوارعها وأرصفتها وللدراجة الهوائية وحدائقها، وأشتاقُ إلى روح العمل وأخلاق العمل في كوبنهاغن، وفي الوقت نفسه أقدّرُ الفرص التعليمية وفرص العمل التي حصلت عليها في كل من إيطاليا والدنمارك، والتي لم تتوفر لي في سوريا.
الخبراء وصناع الرأي في الدنمارك
اكتشفتُ أنكَ في الدنمارك تستطيع أن تصبح خبير/ة في شؤون بلد ما، دون أن تتكلم لغة البلد أو تعيش فيه، أو ربما يكفي أن تكون قد سافرت إليه عدة مرات بين آونة وأخرى، لكنك من الممكن أن تصبح خبير/ة أو صانع/ة رأي في موضوع ما فقط لأنك درست العلوم السياسية وما شابهها في إحدى جامعات الدنمارك.
مثلاً اقرأ تعليقاً في فيسبوك، بعدما سنّت الدنمارك قانون منع ارتداء «البُركع»، غطاء الوجه للسيدات، من قبل «خبير، صانع رأي»، يقول فيه إن النساء اللابسات للبُركع هن سلفيات لأن البرُكع رمز للسلفية. أكتبُ له أن تجربتي تُظهر شيئاً مختلفاً. أتذكّرُ صديقتي الدرزية الجميلة من أيام الجامعة، التي اختارت أن ترتدي ما يشبه البٌركع، العباءة التي تغطي الوجه، لأنها أحبّت شاباً مسلماً سنياً. صديقتي كانت متسامحة جداً، وأهلها لن يقبلوا عباءتها تلك، لكنها أصرّت على ارتداء ما تقتنع به. أفكر: كيف يجرؤ هذا الخبير أن يقول إن صديقتي تلك سلفية.