منذ أواخر العام 2011 بدأت تخرج مناطق واسعة من الأراضي السورية عن سيطرة نظام الأسد، ومع الوقت برزت الحاجة ماسة لإنشاء شكل من أشكال القضاء في هذه المناطق، وذلك بهدف الفصل في الخصومات والنزاعات. كانت المراكز الأمنية التي تتبع للفصائل المسيطرة على المناطق أول محاولة لسدّ هذا الفراغ، وكان يقوم على كل منها «شرعي» أو «شيخ» كما أُطلق عليه، يتولى أمور التحقيق والحكم، بينما تتولى الفصائل تنفيذ الأحكام الصادرة بحق المُدعى عليهم.
لاحقاً تطورت هذه المحاكم ومسمياتها، وباتت تعرف بـ «المحاكم الشرعية» تأكيداً على تطبيقها لأحكام الشريعة الإسلامية، وجرت محاولات عدة لتوحيدها وربط عملها، ومن بين تلك المحاولات كان «القضاء الموحد» الذي شكله «محامون» في حلب 2012، على سبيل المثال، و«المحكمة الرباعية» نسبة إلى أربعة فصائل قامت بتشكيلها في حلب أيضاً، ومبادرة المجلس الأعلى للقضاء الموحد في الغوطة الشرقية، وغيرها، وكانت جميع هذه المشاريع مرتبطة أو مدعومة من فصائل معينة.
في إدلب ومحيطها، ومنذ أواخر العام 2013، تشكلت محاكم الهيئة الإسلامية التي جاءت استكمالاً لمشروع بدأ سابقاً تحت مسمى «مجلس القضاء». وتتبع الهيئة الإٍسلامية لعدة فصائل أبرزها حركة أحرار الشام وحركة نور الدين الزنكي وفيلق الشام، وقد أسّست إحدى عشرة محكمة موزعة على مختلف المناطق في إدلب ومحيطها، كأول شكل من أشكال توحيد المحاكم وتبعيتها واعتمادها على قانون موحد في المنطقة، بعد أن كانت المحاكم تعتمد على رؤية كل قاضٍ ومدى فهمه لنصوص الشريعة الإسلامية.
استمرت محاكم الهيئة الإسلامية للقضاء في عملها بفعالية متفاوتة، وفي تموز 2017، اتجهت المؤسسات القضائية لتشكيل مجلس القضاء الأعلى في سوريا (وهو اجتماع تحت مسمى، وليس اندماجاً كاملاً)، وذلك باجتماع الهيئة الإسلامية للقضاء ومجلس القضاء الأعلى في حلب العاملَين في الشمال السوري، إضافة إلى مجلس القضاء الأعلى في الغوطة الشرقية بدمشق، ودار العدل في حوران العاملة في محافظة درعا جنوب البلاد. كانت تلك أوسع محاولة لتوحيد العمل القضائي على مستوى المناطق الخارجة عن سيطرة النظام.
في المناطق الواقعة تحت سيطرة «جبهة النصرة» وما عرف بعد ذلك بـجبهة فتح الشام ثم هيئة تحرير الشام، كانت تنتشر المحاكم الشرعية التي تعتمد على رؤية قاضي المحكمة «الشيخ»، وفهمه للشريعة الإسلامية في أحكامها، ولم يُسمَح خلالها للمحامين بممارسة عملهم، وكان الاستئناف على الحكم يتم داخل كل محكمة، وعند القاضي نفسه. كثيراً ما كانت تتجاور محاكم الهيئة الإسلامية والمحاكم الشرعية التابعة للنصرة في مكان واحد، لتتناقض أحكامها في كثير من الأحيان، ويتم تنفيذ حكم المحكمة المرتبطة بالفصيل الأقوى.
في أواخر العام 2017 تم الإعلان عن حكومة الإنقاذ المدعومة من هيئة تحرير الشام، وفيها وزارة للعدل بدأت تنظيم عمل المحاكم في المناطق الخاضعة لسيطرة الهيئة، التي تشمل مساحات واسعة من محافظة إدلب، ولها قوانينها الخاصة ومرجعياتها القضائية والسلطوية ضمن مناطق نفوذها.
عدنان العيدو، وهو قاض سابق في محكمة كفرنبل، يتحدث للجمهورية عن عمل المحاكم في إدلب ومرجعيتها القضائية: «يوجد في إدلب نوعان من المحاكم اليوم. النوع الأول هو محاكم الهيئة الإسلامية للقضاء المدعومة من فصائل باتت الآن منضوية في الجبهة الوطنية للتحرير، وتشكلت وفق إدارة منتظمة، تضم رئاسة الهيئة الإسلامية والنيابة العامة ومكتب التفتيش القضائي ودواوين المحاكم الفرعية ومكتب المتابعة والقوة التنفيذية والديوان العام ودواوين المحاكم الفرعية، وتتبع لها محاكم صلح ومحاكم تمييز ومحاكم جنايات. وفي تموز 2017 تم الإعلان عن تشكيل مجلس القضاء الأعلى في سوريا، الذي اعتمد على القانون العربي الموحد (الموافق إلى حد كبير للتشريع الإسلامي) وتعديلاته كمرجعية قانونية، إضافة إلى المدونات الفقهية المعتمدة كمرجع، والتي تحتوي تعاميم تنظم عمل المحاكم وأصول التقاضي، مثل مجلة الأحكام العدلية (مجموعة من التشريعات المقننة، وهي أشبه بكتاب فقهي أوله في أحكام المعاملات وآخره في أحكام القضاء، مؤلفة من 1851 مادة مجموعة في 16 كتاباً صدرت في نهايات فترة الخلافة العثمانية 1876 للميلاد)، ومدونة الأحوال الشخصية».
ضمّت هذه المحاكم عدداً كبيراً من القضاة والمحامين المنشقين عن النظام وأصحاب الشهادات العلمية الموازية كالشريعة الإسلامية، يتم اختيارهم من قبل الهيئة الإسلامية للقضاء وفق معايير محددة، حيث يشترط في القاضي أن يكون من حملة شهادة الشريعة فيما يكون المستشار من حملة شهادة الحقوق، وذلك بحسب العيدو. وتُعَدُّ الشرطة الحرة الذراعَ التنفيذيَ المخوّلَ تنفيذَ الأحكام وإجراء التبليغات الخاصة بهذه المحاكم، كما أنه يُسمح للمحامين بالتوكّل والترافع ومتابعة القضايا أمامها.
أما عن النوع الآخر من المحاكم، فيقول العيدو: «الجهة الثانية التي تتبع لها محاكم إدلب هي وزارة العدل التابعة لحكومة الإنقاذ، وهي مدعومة من قبل هيئة تحرير الشام مالياً وعسكرياً». وتتبع لها ثمانية محاكم بداية متوزعة على المناطق، تنظر في القضايا البدائية (معاملات –أحوال شخصية –جزائية)، ومحكمة الجنايات المركزية (تنظر في القضايا الجنائية كالقتل والحدود)، ومحكمة الاستئناف المركزية (تنظر في القضايا المطعون فيها للاستئناف)، ومحكمتان عسكريتان (تختصّان بالفصل والنظر بالقضايا التي يكون فيها المُدعى عليه مقاتلاً)، إضافة إلى المحكمة الإدارية (تتولى النظر في الدعاوى الإدارية المرفوعة من قبل هيئة أو مؤسسة).
وتعتمد هذه المحاكم في قوانينها على تحكيم الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي والموسوعات الفقهية ومجلة الأحكام العدلية، كما تعتمد على السوابق القضائية للنظر في القضايا المستجدة، وعلى التعاميم الصادرة عن المجلس الأعلى للقضاء (هو غير مجلس القضاء الأعلى في سوريا، السابق ذكره، ويشرف على العملية القضائية وإصدار التعاميم اللازمة في المحاكم التابعة لوزارة العدل في حكومة الإنقاذ).
يقول العيدو إن تعيين القضاة في المحاكم التابعة لحكومة الإنقاذ يتمّ «بناءً على الخبرة والخضوع لدورات شرعية دون الأخذ بعين الاعتبار وجود المؤهل العلمي، ودون أن تخضع هذه المحاكم لقانون محدد أو مرجعية، بل تكون الأحكام وفقاً للشرع الإسلامي، واجتهاد القاضي في بعض القضايا». أما الذراع التنفيذي المخوّل تنفيذ الأحكام وإجراء التبليغات الخاصة بهذه المحاكم فهو وزارة الداخلية في حكومة الإنقاذ، ومنذ تشكيل وزارة العدل تمّ السماح للمحامين بالتوكل والدفاع ومتابعة قضايا موكليهم، بعد أن كانت المحاكم الشرعية سابقاً تمنع هذا الأمر.
المحامي أنس العبود من معرة النعمان يتحدث عن صعوبات العمل في المحاكم الموجودة بقوله: «أبرز العقبات التي تعترض المحاكم في المناطق المحررة هي عدم استقلاليتها وتدخل الفصائل العسكرية في عملها، وغياب التنسيق بينها، وعدم اعتراف فصيل بحكم محكمة تتبع لفصيل آخر، إضافة إلى غياب الجهاز القضائي الموحد والمرجعية القضائية، وازدواجية الأحكام بحسب القاضي واجتهاده وفهمه لنصوص القرآن والسنة، الأمر الذي يؤدي أحياناً إلى ضياع الحقوق والتعارض في القرارات، فضلاً عن غياب الدعم اللازم لرفد المحاكم بقضاة مختصين، ناهيك عن سوء الوضع الأمني كون المحاكم هدفاً مباشراً لطائرات النظام السوري وحلفائه، كما حصل بريف إدلب الجنوبي حين استهدفت المحكمة الشرعية في معرة النعمان بتاريخ 9 كانون الثاني 2016، ما أدى إلى سقوط أكثر من خمسين قتيلاً وعشرات الجرحى، معظمهم من الموقوفين وعناصر المحكمة».
أبو محمود من منطقة جبل الزاوية بدوره يرى أن القوانين في المحاكم الحالية لا تُطبّق إلا على الضعفاء الذين لا يملكون ظهراً وسنداً في المحاكم أو في فصيل مقاتل بارز. يشتكي أبو محمود من قضية ولده الذي تعرض للضرب على يد أحد عناصر هيئة تحرير الشام بعد وقوع حادث مروري، ويقول إنه قام بالادعاء على الجناة وتقديم شكوى ضدهم: «اصطدمت سيارة ولدي بسيارة أخرى، فطلب من صاحب السيارة الأخرى تصليح الأضرار وتعويضه مادياً لأن الأخير هو الذي كان مخطئاً، لكنه رفض ذلك واعتدى على ولدي بالضرب، فلجأنا إلى إحدى المحاكم الشرعية للحصول على حقنا». يؤكد أبو محمود أن الجاني كان فوق القانون والمحاسبة لأنه يتبع لهيئة تحرير الشام: «لذا لم نتمكن من تحصيل حقنا، بل تم استدعاؤه للقضاء وإخلاء سبيله بعد فترة وجيزة دون عقاب».
لكن بالمقابل ثمة من يرون عبر تجربتهم أن هذه المحاكم فعّالة، ومنهم وليد الشيخ من بلدة تلمنس بريف إدلب، الذي يرى أن القضاء في مناطق سيطرة المعارضة هو «قضاء نزيه يحكم وفق كتاب الله وسنة رسوله، ويختلف عن قضاء النظام الظالم»، ويشرح: «بعد وفاة والدي وتوقف عمل المحاكم في إدلب بسبب الحرب، رفضَ عمي الاعتراف بحقي في الحصول على حصة والدي من الإرث، لذلك لجأتُ إلى إحدى المحاكم الشرعية التي حصلتُ من خلالها على كامل حقي الشرعي».
المحامي جابر الحامد من ريف إدلب يعترف بدور المحاكم الشرعية في سدّ فجوة غياب القضاء، لكنه يعتبر أنها محاكم للضرورة، وأنها موجودة فقط نظراً للحاجة الماسة بعد انهيار مرفق القضاء. وعن ذلك يقول للجمهورية: «من أهم ركائز أي سلطة قضائية استقلالها عن كافة السلطات الأخرى من تنفيذية وتشريعية، لكن المحاكم الشرعية الموجودة غير مستقلة، بل تتبع للفصائل العسكرية المسيطرة على الأرض، ناهيك عن غياب القضاة المؤهلين، حيث لا يحتاج من يرغب أن يصبح قاضياً لأكثر من دورة شرعية تدريبية مدتها 45 يوماً، بينما يحتاج الأمر في الواقع إلى سنوات من التحصيل العلمي والأكاديمي لدراسة أحكام المعاملات والجنايات وتحليلها. لذلك تحتاج تلك المحاكم إلى توحيد المرجعيات، وإلى منهجية واضحة، وإلى اتباع خطط للعمل والتطوير من خلال اختيار الأكفّاء وتضافر الجهود وتعاون الجميع، والأهم هو التخلي عن المحسوبيات والسعي نحو الاستقلالية».
لا شكّ أن بعض السكان قد استفادوا من وجود هيئات قضائية بديلة، لكن الملامح العامة لعمل المحاكم في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، ومن بينها إدلب ومحيطها، هي التبعية للفصائل، والتنازع على الشرعية والسيطرة، والتخبط وعدم اعتماد قوانين واضحة ومُعلنة وموحدة، وإقصاء أصحاب الخبرة والاختصاص القانوني، لصالح المشايخ والشرعيين.