بعد جلسة عاصفة، بحضور فيكتور أوربان، رئيس وزراء هنغاريا، وإثر تبادل اتهامات حادّة في الجلسات النقاشية السابقة للتصويت، أقرّ البرلمان الأوروبي في الثاني عشر من أيلول الجاري تقريراً رفعته البرلمانية الهولندية جوديث سارغنتيني يوصي بفرض عقوبات اتحادية على هنغاريا وفق الفصل السابع من ميثاق الاتحاد الأوروبي، وذلك بسبب «انتهاكها حقوقاً أساسية منصوصٌ عليها في وثائق الاتحاد الأوروبي». ورغم أن إقرار العقوبات فعلياً يبدو صعباً- إذ يحتاج لموافقة أربعة أخماس مجلس وزراء الاتحاد، وهي نسبة مستحيلة التحصيل وفق التركيبة الحالية لهذا المجلس- إلا أن التصويت فتح أزمة جديدة في أروقة بروكسل وستراسبورغ عموماً، وفي صفوف تكتّل المحافظين الأوروبيين، أكبر كتل البرلمان الأوروبي، والتي ينتمي لها فيديز، حزب أوربان، الحاكم في هنغاريا، خصوصاً. كما عزز التصويت الخِطابات الغاضبة لكتل الأحزاب اليمينية المتطرّفة والمناوئة للوضع الحالي للاتحاد الأوروبي، والتي باشرت تعزف أنغامها باتجاه تحالف يميني-شعبوي أوروبي، مناهض للهجرة ومُدافع عن «السيادة الوطنية» في وجه بروكسل.

تتضارب وجهات النظر في أوساط أحزاب الكتلة المحافِظة الأوروبية بين ضرورة العمل على استيعاب أوربان وحزبه، والابتعاد عن خنقهم تفادياً لانسحاب حزب فيديز (وربما أحزاب وتكتلات أخرى تتضامن معه) من الكتلة المُحافِظة وخسارة نسبة وازنة من البرلمانيين الأوروبيين لصالح تحالف بات شبه قائم مع الأحزاب القومية-الشعبوية الصاعدة في أوروبا، لا سيما بعد نتائج الانتخابات الإيطالية؛ وبين من يعتبر أن هذا الانسحاب قد يكون فرصة ملائمة لإعادة تجميع قِوى المحافظين الجدد وفق مبادئهم الأساسية، ولتسهيل فرص تحالفات مستقبلية ضرورية مع الكتل الليبرالية والاشتراكية-الديمقراطية، تحالفات يصعب أن تحصل بوجود «مادة متفجرة» كفيكتور أوربان وحزبه ضمن الكتلة المُحافِظة.

من جِهتها، لم تنتظر أحزاب اليمين القومي-الشعبوي نتائج التصويت كي تحتضن أوربان بوصفه نموذجاً يُحتذى بسياساته المعادية للأجانب، والمُتحدية اقتصادياً لسياسات الاتحاد الأوروبي، وهذا ما بدا واضحاً في لقاء جمع أوربان مع ماتيو سالفيني، وزير الداخلية الإيطالي والنجم الصاعد لليمين المتطرف الأوروبي بفضل سياسته الحديدة في موضوع الهجرة، أواخر آب الماضي في ميلانو. حيث تبادل الرجلان الغزل المنفلت، وأعلنا نفسيهما «رفاق مصير» في الرحلة المشتركة من أجل دفع الاتحاد الأوروبي للتشدد في «حماية حدوده الخارجية»، وفي التصدّي لـ «تغوّل» مؤسسات الاتحاد الأوروبي في القرار والنفوذ على حساب السيادة الوطنية للدول الأعضاء. وقد لقي هذا الإعلان استحساناً عند أحزاب قومية- شعبوية أخرى في الجغرافيا الأوروبية، مثل فرنسا والنمسا وألمانيا وبولونيا وجمهورية التشيك، والتي باتت تنسّق فيما بينها لتشكيل جبهة من أجل القومية والهوية تخوض الانتخابات الأوروبية المقبلة، في أيار 2019، وتتلقى لأجل ذلك نصائح ودعم ستيف بانون، مستشار دونالد ترامب السابق، والذي بات أحد كبار منظّري وسدنة النظرية القومية- الشعبوية في العالم.

لم يسبق لانتخابات البرلمان الأوروبي أن نالت هذا القدر من الاهتمام المبكّر على مرّ تاريخ الاتحاد، لكن أحداث السنوات الأخيرة، وعلى رأسها موجات اللاجئين عام 2015 والبريكزيت، أدّت لأن تُعتبر هذه الانتخابات مقياساً يتيح تلمّس مستقبل الاتحاد الأوروبي، الذي يشهد بقلق تصاعد الخطاب اليميني القومي المناوئ للاتحاد الأوروبي بصيغته الحالية، ليس فقط في أوساط دول أوروبا الشرقية، الأحدث انضماماً للاتحاد، بل أيضاً في عمق الدول المؤسِّسة للاتحاد، مثل ألمانيا وفرنسا والنمسا. ورغم أنه انضوى ضمن كتلة المحافظين الأوروبيين مع الأحزاب الأوروبية المُدافعة عن الاتحاد الأوروبي، إلا أنه سبق لفيكتور أوربان أن رفع الصوت عالياً ضد الاتحاد الأوروبي، ولا سيما مع رفضه القاطع الانصياع لقرار الاتحاد الأوروبي بتوزيع اللاجئين الوافدين إلى أوروبا على الدول الأعضاء منذ 2015، إذ رفض استقبال ولو لاجئ واحد من حصّة هنغاريا في التوزيع، والتي يبلغ حجمها حوالي 1200 لاجئ.

يحكم فيكتور أوربان هنغاريا منذ عام 2010، وقد دخل في عهده الثالث على التوالي الربيع الماضي حين حقق فوزاً كاسحاً في الانتخابات التشريعية الهنغارية، وحصل على 134 مقعداً من أصل 199. وكان أوربان قد حكم هنغاريا لفترة واحدة بين 1998 و 2002. لكن أوربان التسعينات مختلف جذرياً عن أوربان الحالي، ففي ذلك الحين كان قد وصل إلى المراتب الأولى من السياسة الهنغارية محمولاً بسمعته كناشط كاريزماتي ضد حكم كادار، وذو خِطاب ليبرالي وإيجابي تجاه الانخراط في «العالم الحُر» ومؤسساته، إضافة لاهتمام قليل بالخطاب الديني والهوياتي، أقلّه مقارنةً بمحافظين آخرين في المنطقة. في حين أن أوربان ما بعد 2010 هو المهووس بالذات والهوية الهنغارية ذات الأساس المسيحي، والمهووس بالحدود، والداعي لتشكيل «ديموقراطية غير ليبرالية».

حقق أوربان إنجازات مهمة على الصعيد الاقتصادي في السنوات التسع الأخيرة، إذ ذهب بالاقتصاد من إنكماش يكاد يلامس الـ 8٪ من الناتج القومي عام 2009 إلى نمو بقدر 4.4٪ عام 2017. كما دعم برنامجاً للعمل يعتمد على الإنفاق العام -مخالفاً توصيات المفوضية الأوروبية- أدى لانخفاض البطالة من 11.9٪ عام 2009 إلى 3.8٪ عام 2017. ورغم أن برنامج التشغيل هذا يلقى انتقادات وتشكيك وتوصيفات كـ «بطالة مقنّعة»، إذ يقوم على تشغيل العاطلين في وظائف عامة صغرى مقابل رواتب لا تزيد كثيراً عن تعويض البطالة، إلا أنه استطاع تقديم نفسه كمنقذ للاقتصاد الوطني أمام الجمهور الهنغاري، واستخدم هذه النجاحات الاقتصادية كحامل لسياسات مُعادية للأجانب وتسلّطية.

استغلّ أوربان الانتصارات الانتخابية المتلاحقة كي يُدخِلَ تعديلات دستورية ثبّتت مواداً تمسّ الهوية الهنغارية بوصفها ذات ذخر وأساس مسيحي وقومي، كما أدخل تعديلات مسّت بفصل السلطات واستقلالية القضاء حسب انتقادات المعارضة الهنغارية والمؤسسات الأوروبية، وإثر انتصاره الأخير أدخل تعديلاً دستورياً يمنع توطين أجانب في هنغاريا ما لم يكونوا أوروبيين. ويبدي أوربان هوساً خاصاً بالملياردير الهنغاري- الأميركي جورج سوروس، أحد أهم ممولي المنظمات غير الحكومية في العالم أجمع، وفي هنغاريا خصوصاً. ورغم أن سوروس كان هدفاً متكرراً لليسار خلال العقود الماضية بوصفه رمزاً نيوليبرالياً إلا أنه أصبح مؤخراً العدو الأول لتيارات اليمين القومي الغربية. يعتبر أوربان أن جورج سوروس «عدوّه الأول»، ولا يتوانى عن الإقذاع في شتمه في كل المناسبات، كما تشنّ وسائل الإعلام الموالية لأوربان، والمملوكة لرجال أعمال مقرّبين منه، حملات متتالية ضد الشخصيات والمنظمات الليبرالية عموماً، والعاملة في مؤسسات ممولة من جورج سوروس خصوصاً، بما في ذلك نشر متكرر لـ «قوائم سوداء». كما سنّت حكومة أوربان قوانيناً تجريمية بحق المنظمات الممولة من سوروس عبر مؤسسات «المجتمع المفتوح»، واستهدف بشكل خاص جامعة وسط أوروبا المرموقة في بودابست، المؤسسة والممولة من قبل سوروس، والتي تُعتبر أحد أهم الصروح الأكاديمية الليبرالية في وسط وشرق أوروبا.

للمفارقة، كان أوربان نفسه أحد المستفيدين من سوروس، إذ درس الفكر الليبرالي الكلاسيكي في أوكسفورد أواخر الثمانينات بفضل منحة من إحدى المؤسسات الممولة من قِبل الملياردير الهنغاري-الأميركي.

تُعادي سياسات أوربان منظمات المجتمع المدني والمؤسسات غير الحكومية بشكل حاد، بسبب طبيعتها «الليبرالية» وبسبب عملها من أجل حقوق المهاجرين واللاجئين، إذ سُنّت قوانين تفرض ضرائب تعجيزية على هذا النمط من المؤسسات والمنظمات، كما تم تجريم أي عمل في مجال المهاجرين واللاجئين، حتى لو كان مجرد منح معلومات عن القوانين الهنغارية نفسها. لقد نجح أوربان في خلق أغلبية هنغارية معادية بشدّة للمهاجرين واللاجئين، وصعد بهذا الخطاب إلى مستوى التأثير الدولي، رغم أن نسبة الأجانب في هنغاريا بالكاد تصل إلى 1.5٪ من السكان، وأكثر من 60٪ بالمئة من هؤلاء الأجانب أوروبيون (حسب معهد الإحصاء الهنغاري).

على المستوى الدولي، يلتقي أوربان مع حليفه المستجد ماتيو سالفيني، وزعماء آخرين قوميين- شعبويين أوروبيين، في الإعجاب الشديد بفلاديمير بوتين وسياساته، ويلتقي مع الحكومة البولونية في السياسات التسلطية وترويج «الديموقراطية غير الليبرالية» رغم افتراقه مع البولونيين حول العلاقات مع روسيا.

تشير الوقائع الحالية إلى توجّه القوى اليمينية الشعبوية الأوروبية نحو تحالف سيكمل تقدّماته المحلّية نحو تشكيل نسبة وازنة داخل المؤسسات الأوروبية نفسها، ما يضع الاتحاد الأوروبي، وخاصة دوله الرئيسية مثل ألمانيا وفرنسا، أمام تحديات تتجاوز بكثير المسائل السياسوية والمؤسساتية داخل الدول، وفي الاتحاد الأوروبي، نحو ضرورة التفكير بمستقبل فكرة الاتحاد الأوروبي نفسها، والقيم والمبادئ التي قام عليها هذا الاتحاد، والمهددة أكثر من أي وقتٍ مضى.