الطّرْقُ الليلي على الباب، لا شكّ أنّه السؤال الوجودي المُلحّ الذي أفزعَ الإمام -في الواقع لم يكن فزَعاً بل درجة أدنى من ذلك بكثير-. عند هذا التفصيل الدّقيق توقّف جمال مسعودي عن نقلِ الرواية لهم، وأدرك أنّ لغته لا تتناسب على الإطلاق مع استراتيجيات «علم الرجال» من الجرح والتعديل والأحاديث المُعنْعنة وجمعٍ عن جمع يستحيل تواطؤهم على كذب، فهو الآن يجالس أصدقاءه العاديين بكسلهم وثرثراتهم القهوجية في تلك الكافتريا الكئيبة بعنصُريها الأكثر إزكاماً للأنوف والأعين معاً: أولاً الرائحة المُدوّخة لزيت القلي الأسود المعشّش في الزوايا، ثانياً كائنات السُمْنة المَرَضيّة المُفرطة الذين يتّخذون الكافتيريا قاعدةً استعماريةً لبثّ دعايتهم المناهضة للنباتيين وقنوات الصحة المُتلفزة؛ وعليه يجبُ ألّا يتورّط أكثر أمامهم بالتكلّم عن علمٍ اكتشفه حديثاً لا يَعُون ما هو، ولا يقدّرونه تمام قدره.
كانَ كلّ شيء قد انتهى لتوّه، أربعُ علاقات غراميّة رصينة راوحت ما بين التدرّجات البلاغية لأدب الرسائل في عصر المسنجر والواتساب، اللذين يستنزفان هرمون المكافأة في الدّماغ بطريقة زُحارية، وأربع علاقات مُزيّفة راوحت ما بين التدرّجات الافتراضية لأفلام الرّهز المدعومة بتقنية 3D. اشتراكُ نتفلكس انتهى، وإصدارات الإكس بوكس سُرّحت بإحسان، جوعُ رمضان انتهى، كما تخمةُ المونديال، فاشيّتان جمعيّتان في صيف واحد، «هذا كثيرٌ عليكَ يا مسعودي»، أنّبَ نفسه بحسرة على أطلال زمنه الذهبي المنقضي قبل أيّام، ولم يبقَ منه سوى تلفزيون وأريكة.
متمدّداً على هذه الأخيرة، رحَّلَ جمال مسعودي قرار تخرّجه من الجامعة إلى العام المُقبل، وتساءل: كيفَ للزمن أن يتوتّر ويُبَثَّ فيه السّحر بعد كلّ هذه النهايات المُخيّبة؟
عندما استيقظ، ندبَ حظّه لأنّه ما زال عالقاً على الأريكة ذاتها، وفي الزمن ذاته الذي خلّفه وراءه قبل ساعتين. حاول النهوض، لكنّه عدَلَ عن رأيه لمّا اكتشف أنّه تلقّى إشعاراً على هاتفه الذكي يُعلمُه بموافقة الآدمن الأكبر كما كان يسمّيه، يوافق على تسليفه نقاطاً تخوّله الانتقال إلى عرض مساحة أوسع من الكيلومترات على تيندر، تطبيق المواعدة الأشهر. إذن هناك علاقة رصينة تلوحُ في الأفق، لكنّ شحن هاتفه خذله وانطفأ في عزّ الحماس. أمّا الصلاحية المنتهية لباقات القنوات المدفوعة فقد تركت التلفاز أمامه يُصدِرُ عنيناً مكبوتاً وشاشة زرقاء تبهر أنظاره الخفّاشية. زحف مسعودي نحوه بعناء، مستجدياً إيّاه ولو بصورة: «أرجوك توقف عن العنين». فتّشَ القوائم كلها فوجدها مرفقة برموز القَفل، وفي لحظة من لحظات الكشف والكرامة اهتدى إلى شيء قديم، بدت العودة إليه أشبه بعودة إلى لاوعيٍ دفين. لم يجد غيرها، القناة المفتوحة والمتاحة الوحيدة في عوالم الصمت الذي يلفّ المكان، رفعَ الصوت قليلاً حتى يحاصر أذنيه، قرص جلده للتثبّت من الواقع ونقض الحلم، لم يكن يفهم تلك اللغة التي ينطق بها الرجل أمامه، لكنّه أحسّ بطوق نجاةٍ يُمَدُّ له ويساعده على الخلاص والانسلال من جزيرة الموتى تلك، وشيئاً فشيئاً وجد حلاوة المكافأة تستوطن مراكزها المعلومة في دماغه، ولم يكدْ يتحسّس سعادته حتى سقطَ اسمُه من شفتي الدّاعية ووقع في مسمعه مباشرة: «مسعودي».
لحظة.
بدأت رواية السحر:
النومُ خفيف، مع ذلك فقد استلذّ به الإمامُ ما بين نهاية التراويح وأوّل التهجّد، الليل يبدو قصيراً مُثقلاً بالأعمال على عكس تخمة النوم خارج الحدود الرمضانية من نهاية العشاء إلى أوّل الفجر. لم ينتظر أكثر، ألحَّ السؤال على المسعودي ولم يجد بُدّاً من تخطّي العوالم البغدادية الحالكة نحو بيت الإمام الذي بدأ يزيح عن كاهله سياطَ خلق القرآن المُحمّاة، ويسندُ ظهره إلى أواخر العمر بثقةٍ وتمكين، بيد أنّ المسعودي أخذ بالهرولة لمّا لمحَ باب البيت يتصدّر الحيّ الأخير الذي وصله، التقطَ نَفَساً وطرق الباب بحذر واعتذار مُسبق.
سمعها الإمام، الطّرْقَات الهامشية سرعان ما تأكّدت وافترست بقايا الوسن من بين جفنيه، تأفّفَ على غير عادة المتفاني في خدمة العلم والعلماء، واتّجه إلى المصراع الصغير من الباب، ثمّ فتحه برحابة، وما أنْ تراءى شبح الطارق أمامَ ناظريه أدركَ فداحة الاستعجال، وأنّ استبطان النيّات الحسنة مَجْلبةٌ للمتاعب.
– هذا أنت! ماذا تريد يا مسعودي؟ ألم تنقض سويعات عن آخر أسئلتك، ألم نكن منذ قليل معاً، دعني أنَمْ يا رجل، «غيّرها لعادتك» التي تجعلك تبدو بهيئة الحاقن لا طالب العلم.
– لا هذه المرّة مختلفة تمام الاختلاف، يا مولانا، إنه السؤال الذي التمعَ كإيماضة برق.
– ألا وهو؟
– الحجاب.
هو السوط الأخير، هي المحنة التي لن تنقضي، هم أهل الأهواء والبدع والزنادقة مجتمعين. ضاقت الدنيا في وجه الإمام، ولا كأنّه بذل شطر عمره في النضال، ولا بالنّصال التي تكسّرت على النّصال. ولولا برهانٌ على أنّه ليس السؤال الأخير من المسعودي فحسب، بل هو الإشارة إلى أنّ قبضَ الروح قد صار قاب قوسين، ما كان ليتمالك نفسه ويبذل له كرَم الإجابة.
«ادخل يا مسعودي، سأجيبك على هذه الالتقاطة النابهة ولا كأني قد قاسيتُ ما قاسيته من ذي قبل، ولا كأنّ هذا الإمام الذي قُدّامكَ قد أطلق زفرات حرّى في مواجهة منتسبي جماعة العدل والتوحيد، وأسئلتهم الأعمق من هذه البديهيات، سأجيبك وكأنني أجيبك أنت بالذات لأوّل مرّة».
دخل المسعودي متأخّراً عن إمامه الجليل بخطوات، تركه الإمام ساعةً في غرفة عُلِّقَ على زجاج بابها «يسألونك». طال انتظار المسعودي حدّ الملل، واقتربَ موعدُ التهجّد فخاف أن يكون المسؤولُ قد نسيَ السائل. قام ليتفقده، وما أن صار بمحاذاة الباب حتى وجدَ الإمام مقبلاً مسرعاً، ولا كأنه ذلك الشيخ المتأفّفُ قبل لحظات. دخل مُسرعاً وترك الباب مفتوحاً، ثم أنزل ما بيده من ملاحف وبطاطين وملاءات وقِطع قماش كان قد حصّلها كتذكارات من مريديه الذين جاؤوا من وراء النهر لأخذ العلم. ظلَّ يجيء ويذهب ما بين الغرفة والممرّ، ويأتي بكل ما تقع عليه يده حتى تكوّمت تلّةٌ صغيرة وسط الغرفة، ومع كلّ مشوار يقضيه الإمام يتقطّعُ ضمير المسعودي أكثر ويلوم نفسه على ارتكاب فاجعة التساؤل بحقّ شيخه.
بدأ المسعودي بالانتحاب، فأخذه شيخه بتؤدّة القطب العارف: «لا يا مسعودي لا يا حبيبي، لو لم تسألني أنت، لسألني غيرُك، أقدارٌ مُقدّرة، إنّها مُهمّة خطيرة ولا بدّ من تضحية، ثمّ إنّ كلّ ما رأيت هي وسائل إيضاح ليس إلّا، فبالله عليك لا تقلق». ارتفعَ انتحابُ المسعودي حدّ العويل: «لا أرجوك، ساعة وسوسة تلك التي حَدت بي للقدوم إليك، لا التماعةُ فكر ولا إيماضةُ برق ولا من يحزنون… بؤساً يا مسعودي، بؤساً». أخذهُ بحنانه وتعطّفه، ثم جلس بين تلّتي القماش وأكّد له أنّ سؤاله وشخصه الماثل الآن هو أداة التاريخ العمياء، وعند هذه الكلمات الأخيرة، كفكف المسعودي دموعه وحاولَ أن يستوعب تراجيديا ما قِيل، فاستوضحه بخصوص العماء والتاريخ، لكنّ الشيخ ردّ عليه بابتسامة من نوع (دعني أرى شغلي ولا تزوّدها عليّ)، فصمتَ المسعودي من توّه.
أخذ الشيخ أوّلَ قطعة من القماش وشرع بلفّها على إصبعه المتورّم بداءٍ يجهله، وهكذا حتى فرغَ من يده اليمنى. هرعَ المسعودي محاولاً إنقاذه وأجهش «روحي الفدا، روحي الفدا»، لكنّ نوراً حجزه عن الاقتراب أكثر وخلق شفافيةً بينهما تأكّد فيها المسعودي أنّ لا حولَ ولا قوّة، فقد حُمَّ القضا، وعليه أن يكونَ أهلاً للإجابة والثقة. لم تمضِ نصفُ ساعة حتى كانت الأقمشة فيها قد أكلت جذع الشيخ وأطرافه، ولم يبقَ سوى رأسه وهنا مكمن الإجابات، وصراع الصراعات وأبو البدايات والنهايات. ظلّ المسعودي مكتفياً بالمراقبة، فالأطراف كلها قد تعطّلت عن الحركة. كيف للقماش أن يبلغ الرأس؟ ولم يكد يتصوّر طريقة وحيلة، حتى تولّى النورُ من ذاته الإجابة وأخذ يكوّر ويلفّ القماش على الرأس وبقايا الحواس، ومع آخر ربطة من ثوب خراساني شُكَّت بدبّوس هندي، كانت التلّتان قد أُفرِغَتا من كلّ ما خُصّص لستر الجسد… لم يتبقّ جسدٌ أصلاً، سوى عينٍ واحدة من عيني الشيخ.
أكملَ النورُ المتسيّدُ المشهد دورَه، وأبقى على العين الوحيدة ثمّ استنطقها بلطائفه الخفيّة فتكلّمت من ذاتها: «ها يا مسعودي هل وصلتك الإجابة؟». وقف المسعودي مذهولاً صامتاً ونهر الدموع المالح على خدّيه قد جفّ، نعم، لكنّ سدّاً عَرِماً من الملح كان قد بدأ بالتجمّع ليكتسحَ المدينة، خرج من الغرفة يجرجر قدميه الواهيتين، ولمّا تراءى له الخيط الأبيض من الأسود قَـبَض قلبه بحزنٍ إذ تيقّن أنّ الإمامَ قد قُبِض قبل أن يُدرِكَ فجر الليلة الأخيرة من رمضان. نوديَ في الأمصار على موت الإمام، وأقيمت له صلاة الغائب هنا وهناك، فيما تجمّع حشدٌ من أعيان المدينة والأشراف مؤتمّين بالخليفة الذي صلّى عليه في المسجد الجامع في بغداد، بغدااااد… بغديييد… ب غ د ء…
وقبل أن ينهي الداعية قصة المسعودي والإمام وماذا حلّ في اليوم التالي، علكَ التلفاز صورتَه وصوتَه وأنذرَ جمال مسعودي المشدوه ممّا سمع بضرورة دفع فاتورة الكهرباء، وأنّها الساعة الأخيرة للبثّ المفتوح في المحطّة قبل أن تلتحق هي الأخرى بركْب المدفوع والمُشفّر من القنوات. قُطِعَ البثّ، وانطفأ التلفاز.
تراجع عن الشاشة، والصمتُ الذي عاد ليلفّ الغرفة صارَ عرساً بدوياً ضاجّاً في رأسه، بلا تفسير أو تنبيه انكشف أمامه عالمٌ آخر بعيداً عن تلفيق السيلكون على «الدوائر المتكاملة»، وهي المادّة الجامعية التي بسببها امتهن التراجيديا في حياته ورحَّلَ تخرّجَهُ من الكلّية، ودَرجَ في سِلْك كائنات زيت القلي الأسود، وأصبحَ مُدمناً لكلّ المحفّزات الدوبامينية من ألعاب الفيديو إلى أفلام الرّهز. أذهله فضولُ المسعودي عن الحجاب، وجَلَدُ الإمام في الإجابة، والطريقة الصابرة المصابرة في تكويم ولفّ القماش على الجسد. بيد أنّه أرْجأ تفسير ما مرّ على مسمعيه عن العدل وأساس المحنة في مسألة الخلق، والخليفة الجالد قبْلاً، إلى نهاية العمل بمبدأ الخلق مع وصول الخليفة المصلّي إلى الحكم آناً.
نظرَ إلى جسده وقرّرَ اعتماده «موديلاً» مناسباً للبدء بمشروعه البديل والتجديدي على رأس هذه المئة، «أنا موديل إذن أنا موجود»، بهذه الكلمات حدّثَ نفسه.
اقترب جمال مسعودي نحو الشبّاك، فرأى أعمدةً من السيلكون المصهور تُصَبُّ على البنايات التي لم تعد تصلح لسكنى البشر، إنها طريقة جديدة باتت متّبعة بدلَ التفجير بالديناميت، وقد خلقت اختصاصات جامعية هجينة بين أفرع الهندسات، المعمارية من جهة والمعلوماتيّة من ثانية، والمعلوماتيون هم سدنة السيلكون في هذه الأرض كما هو معروف. بالمقابل من هذا المشهد، تذكّرَ تراجيدياه، وأنّه أحد الطلبة المُستعصين بلا تخرّج في أحد هذه الاختصاصات الهجينة، فأخذته البلاغة البائسة قليلاً ليتصوّر نفسه تلك البناية التي أشفقوا عليها من التفجير أو الموت الرحيم، فقرروا تركها شاهدة على كتلة الرماد المنتصبة التي هي هي ذاتها، وليحنّطوها بالسيلكون تَطَبُّباً وتجميلاً، وليزخرفوها بجداريات أنيقة من قبيل «هَزمَتكَ يا موتُ الفنون». لكنّ البناية التي يراد تحنيطها الآن أمامه، ليست أيّ بناية، ففيها تقع كافيتريا البُدناء، الذين لم يأبه لوجودهم أحد وتُرِكوا يقاسون حماوة السيلكون المغلي وهو يقعُ على جلودهم المُذابة، فبدوا في ثوانٍ وكأنهم من الأصل الألفي البيتوني للعمارة الموءودة.
كما جاء تشفيرُ المحطة سدّاً معرفياً بوجه مسعودي، (فلا هو قبضَ على العبرة التي في الخواتيم، ولا اكْـتـَنَهَ مصير بطله الإمام وما حلّ به في اليوم التالي لموته، أو مصير سميّه المسعودي الأول عند تلك اللحظة الفارقة في حياة الأمّة)، جاءت صبّة السيلكون التي سلقت بدن رفاقه طعنةً نجلاء في قلبه المُرهف، وأفقدته مستمعين مُخلصين تخيّلهم مُستقبلاً.
كان سيحدّثهم بإمعان عن قصة السائل الذي لم ينم الليل طلباً للعلم، والمسؤول الذي قضى فداءً للإجابة وهو يهدّئ بال سائله، وأنّ الأمر مجرّد وسائل إيضاح ولا يدَ له فيه، إنما هي أداة التاريخ العمياء. ذرفَ دمعاً سخيّاً أمام كلّ تلك القساوة، فقرّرَ أن يواجه ويكتب نهاية أخرى تليق بالعقل، لا يموت فيها الأبطال ليطربَ المستمعون، قرر فعلاً أن «يخرجَ من الخزانة»، ويواجه، لكن على طريقته هذه المرّة.
تمثّلت المهمّة الأولى بدفع فاتورة الكهرباء، لا بدَّ من الخروج من الغرفة الخّفاشية إذن، إلى حيثُ تبدو المدينة باهرة الأنوار غاضّة الطرف عن أبطال مضرّجين بالسيلكون كالإمام أو جماعة البدناء الذين ماتوا هكذا دون أن يعيرهم أحدٌ أيّ انتباه أو لفتة ضميرية. تناسى بدوره هاتفه الذكي النافدَ شحنُه، والذي كان يراكم النقاط غيابياً عبرَ الأدمن الكبير الكريم من أجل مواعدة جديدة.
لا… حماسته للخروج هي الآن من أجل دفع الفاتورة فقط، ألقى نظرة فاحصة على ثيابه وبدنه، الذي هو الموديل المعتمد لتنفيذ خطّة الخلاص، وبثوانٍ كان قد أنهى لفّ جسده بحجاب الإمام الشهيد -شهيد وسائل الإيضاح- ولم يكد يخرج من عشّه حتى عرفه الناس والجيران، كان مديرُ المشروع الذي غطـّس العمارة بالسيلكون يقضم لفافة فرانكفورتر نيّئة بلا خبز لشدّة تعبه، ولعابه يلتمعُ على سحنته الماكرة. للحظة أخذت ملامحه شكل الداعية الذي اختفى مع انقطاع البثّ ونفاد الاشتراك، كانا يعرفان بعضهما، فقد أشرفَ المدير على الطالب جمال مسعودي في أحد المشاريع الفاشلة التي أُوْكلت إليه، ورحَّلَت تخرّجه عاماً إضافياً.
تعجّبَ مسعودي من معرفة قاطني وادي السيلكون له، ومدى الاستنكار الذي واجهوه فبه بالرغم من أنّه لم يناقش أحداً من المعترضين، إذ كانت وجهته محددة وغايته مدروسة، أن يدفع الفاتورة… الفاتورة فقط. وكذا حصل، دفعها وعاد إلى المنزل، وعندما شغّلَ التلفاز وأدخل كودَ الرصيد، تنشّق نسائم الدوبامين في دمه، خرج الداعية مرّة أخرى لكن للأسف لم يكن يتحدّت هذه المرّة عن الموضوع نفسه، بل عن شيء مُملّ، وقبل أن ينهي الموضوع توجّه إلى المشاهدين وخاطبهم بأنّه يدركُ مدى إيمانهم وتشوّقهم لمعرفة ماذا سيحلّ بالإمام في الحلقة القادمة، ويدركُ أنّهم قد خصموا ثمن فكّ التشفير من قوت أولادهم، لكنّ هذا لا يكفي وفي الوقت ذاته ليس صعباً أو مستحيلاً، كما قال: «كلّ ما في الأمر هو أنه يجب عليكم أعزائي المتابعين التوجّه إلى أقرب سوبرماركت وشراء فرانكفورتر الأهلية حصراً وستحصلون على غنيمتين: الأولى كود مُرْفَق يمكّنكم من فكّ التشفير الخاص بالحلقة القادمة، والثانية كُتيّب مانجا فيه ثَـبْتٌ لنحو أربعين نهاية متوقّعة لسيرة المسعودي وحجابه السحري».
صارت عملية الالتفاع بالحجاب ذي العين الواحدة أمراً سهلاً على جمال مسعودي، ارتداه بتقنية سريعة، ولمّا وقعت عينُه على موبايله الذكي تذكّر أنّه لم يشحنه منذ مدّة طويلة أي قبل أن يهتدي لحجابه الرائع، أمعنَ في إهماله أكثر وبدا له بدائيَّ الإثارة؛ إذ لم يعد الأدمن الكبير بنظره سوى مُرابٍ خسيس، فالأهمّ الآن هو أن يمتثلَ للّعبة الجديدة التي أطلق عليها اسماً إيمانياً فذّاً: «الداعية والفرانكفورتر»، فهي في النهاية الطريق الوحيد الذي يصله بسلسلة المانجا خاصّة الإمام والمريد الأكثر تشويقاً وعمقاً وأصالة.
خرج من المنزل سائراً بحجابه المُدبّس، وعندما حاذى إحدى البنايات المُعدّة للتحنيط السليكوني ألقى موبايله الذّكيّ فيها من غير رضّة في الذاكرة أو أسف في القلب… وانطلَق.