عشرة أيام تفصلنا عن موعد بدء تطبيق مذكرة سوتشي التي اتفق عليها الرئيسان التركي والروسي، ووقّعَ عليها وزيرا دفاع البلدين، في الوقت الذي لا تزال فيه آليات تطبيق بنود هذه المذكرة غامضة، وتبرز خلافات بين الطرفين على تفسيرها حسب ما نقلت صحيفة الشرق الأوسط عن مصادر مطلعة، وحسب مؤشرات أخرى عديدة تضع الاتفاق بمجمله على المحكّ.

وحسب التسريبات، فإن موسكو وأنقرة مختلفتان حول خريطة المنطقة العازلة التي يفترض أن تتراوح بين 15 و20 كم، إذ تريدها موسكو في عمق مناطق سيطرة المعارضة فقط، فيما كان الفهم الأول للاتفاق يشير إلى أنها ستكون على جانبي خطوط التماس. بالإضافة إلى ذلك، تريد موسكو عودة سيطرة النظام على طريقي حلب-حماة وحلب-اللاذقية الدوليين، في حين تريد أنقرة أن تكون الطرقات الدولية تحت إشراف تركي روسي. كما أن ثمة خلافات أخرى تتعلق بمصير الجماعات الجهادية، وتتعلق أيضاً بطبيعة الاتفاق نفسها، الذي قالت التسريبات إن موسكو تريده مؤقتاً على غرار اتفاقات خفض التصعيد السابقة، فيما تريده أنقرة دائماً بانتظار الحل السياسي النهائي للمسألة السورية.

وفي الوقت الذي لم تصدر فيه أي تعليقات رسمية من البلدين على مضمون هذه التسريبات، فإن الوقائع على الأرض تؤكد وجود خلافات فعلية بين الجانبين وحلفائهما حوله، كما أن هناك عدة تحديات غير معلنة لهذا الاتفاق، من بينها عدم وضوح موقف هيئة تحرير الشام، الفصيل الكبير الذي تشكل جبهة النصرة نواته الصلبة، وإعلان فصائل جهادية، مثل حراس الدين وجبهة أنصار الدين، رفضها الكامل للاتفاق. ذلك بالإضافة إلى رفض فصائل معارضة لا تحمل توجهات سلفية أو جهادية سحب سلاحها الثقيل من المنطقة العازلة، مثل جيش العزة المتواجد في ريف حماة الشمالي.

قبل هذه التسريبات، كان هناك تسريبات أخرى تتحدث عن اجتماع تركي مع فصائل إدلب، أبلغ فيه المسؤولون الأتراك ممثلي الفصائل بضرورة سحب سلاحهم الثقيل إلى مسافة أكثر من عشرين كيلومتراً إلى عمق إدلب بعيداً عن خطوط التماس، وأبلغتهم بأن الدوريات المشتركة الروسية التركية ستجوب المنطقة العازلة وسيكون لها حق تفتيش مواقع الفصائل للتأكد من خلوها من الأسلحة الثقيلة والعناصر الجهادية، وهو ما رفضته فصائل المعارضة كلياً وفق التسريبات التي تناقلتها وسائل إعلام كثيرة.

وأيضاً لم تكن هناك تعليقات رسمية حول هذه التسريبات، إلا أن وقائع لاحقة تؤكد صحة جانب منها على الأقل، من بينها بيان أصدرته الجبهة الوطنية للتحرير، وقالت فيه إنها ترفض الوجود الروسي في المنطقة العازلة ضمن مناطق سيطرة فصائل المعارضة، ذلك بعد أن كانت قد أعلنت ترحيبها سابقاً باتفاق سوتشي، واعتبرته نصراً للمعارضة والدبلوماسية التركية.

مجمل هذه التوترات والتسريبات، وما رافقها من شكوك بقدرة أنقرة على الإمساك بالوضع على الأرض، بالتزامن مع تصريحات روسية وأخرى صادرة عن مسؤولين في نظام الأسد، تقول إن إدلب ستعود عاجلاً أم آجلاً إلى سيطرة النظام، أدت إلى إعطاء انطباع بأن الاتفاق برمته على وشك الانهيار، إلا أن الرئيس الروسي عاد ليصرح أول أمس، خلال مؤتمر صحفي عقده مع مستشار النمسا في سان بطرسبرغ، بأن أنقرة «تقوم بتطبيق التزاماتها الخاصة بتسوية الوضع».

التصريحات الأخيرة لبوتين قد تهدئ من التوتر حول المستقبل القريب لاتفاق سوتشي في إدلب، إلا أن التناقضات بين أنقرة وموسكو لن تُحلَّ من تلقاء نفسها، فأنقرة التي تراهن على تساهل روسي في تنفيذ الاتفاق في منطقة معقدة مثل إدلب، قد لا تجد المرونة التي يتطلبها استمرار الاتفاق على قيد الحياة، فيما قد يدفع مزيد من التوتر بين تركيا والولايات المتحدة، خاصة في ملف منبج، واشنطن إلى سحب دعمها وضغطها السياسي الواسع حول الوضع في إدلب، مما سيترك أنقرة وحيدة في مواجهة الرغبات الروسية في سيطرة قوات النظام على جميع المناطق في سوريا.

بالمقابل فإن موسكو لم تتأخر في محاولة فرض فهمها الخاص على الاتفاق، والضغط على أنقرة حتى قبل تنفيذه، عبر تصريحات من قبيل تلك التي تتحدث عن أن ترتيبات سوتشي مؤقتة، مما يضع الاتفاق في وضع حرج حتى قبل الموعد الرسمي لبدء تنفيذه في الخامس عشر من شهر تشرين الأول الحالي.

الضغوطات الروسية في مثل هذه الأوضاع الحساسة قد تدفع أنقرة لتقديم مزيد من التنازلات، التي ستجعل من الاتفاق تنفيذاً عملياً، ومن دون معارك، لأهداف موسكو ونظام الأسد، إذ أن تنفيذ الاتفاق وفق الفهم الروسي الذي تضمنته التسريبات، سيعني دخول النظام عبر حليفه الروسي إلى حزام واسع ممتد عبر ريف إدلب الشرقي والجنوبي وريف حماة الشمالي حتى ريف اللاذقية، وهو ما يهدد بانفجار معارك مع فصائل قد لا تقبل بمثل هذا الوضع، ما سيعيد الأوضاع في إدلب إلى المربع الذي كانت عليه قبل قمة الرئيسين الروسي والتركي في سوتشي.

على الرغم من أن العبارة التي تقول بضرورة «تجنّب الحرب والكارثة الإنسانية في إدلب بأي ثمن» صائبةٌ أخلاقياً، إلا أن النتائج المترتبة على مثل هذا السيناريو قد تكون على العكس تماماً، فهي لن تجنّب المدنيين أوضاعاً إنسانياً كارثية، لأنها ستجعل مجمل المنطقة العازلة المفترضة، التي تضم كثافة سكانية عالية، تحت رحمة النظام وروسيا عند تحولات في توازن القوى بعد تجريد الفصائل من كل قوة لها. كما أن أي منطقة تخرج من نطاق القدرة على الوصول الآمن بالنسبة للمنظمات الإنسانية، ستعاني من مشاكل أكبر على المستوى الخدمي والإنساني، ومثل هذه الأوضاع قد تسمح للنظام مستقبلاً بتنفيذ انتهاكات خطيرة كالتي يقوم بها في كل المناطق التي يسيطر عليها بموجب تسويات.

في جميع الأحوال، لا يبدو أن اتفاق سوتشي سينهار قبل موعد تطبيقه، ولا أن هناك معارك واسعة قريبة تحوم حول إدلب، إذ لا تزال تركيا وفصائل المعارضة تملك أوراقاً مهمة، أبرزها التعداد الكبير لمقاتلي الفصائل، ووجود قوى مدنية وعسكرية رافضة بمجملها لعودة النظام أو عقد تسويات معه، إلا أن الضغط الروسي على تركيا قد يدفع إلى تطوير أوضاع ملتبسة تساعد النظام على العودة إلى إدلب عبر ترتيبات المنطقة العازلة، الأمر الذي سيجعل من وضع تلك المنطقة حساساً للغاية، وقابلاً للانفجار في أي لحظة.