بعد عاصفة من الانتقادات، أقرّ «مجلس الشعب السوري» في جلسة له قبل يومين تعديلات على المرسوم التشريعي رقم 16 لعام 2018، المتضمن مهام واختصاصات وزارة الأوقاف. وقد جاءت التعديلات التي شملت «بعض التعريفات والمواد في المرسوم»، بعد «مناقشة مستفيضة من قبل النواب» وفق الخبر المنشور على الموقع الرسمي للمجلس.
تشمل التعديلات بعض البنود التفصيلية، وتنتهي بمجملها إلى تقليص شيء من الصلاحيات الواسعة التي منحها المرسوم بنسخته الأولى لوزير الأوقاف، وإلغاء بعض الأوضاع الاستثنائية لموظفي الوزارة، وضبط بعض المصطلحات التي أثارت غضب بعض «النواب». وأياً تكن التعديلات، فإن هذه تبقى من الحالات النادرة التي قام فيها «مجلس الشعب السوري» بممارسة صلاحياته في تعديل مرسوم تشريعي بعد صدوره ممهوراً بتوقيع رئيس الجمهورية. وهكذا بات يمكن للمدافعين عن «علمانية الدولة السورية» أن يبتهجوا، فقد نجح الضغط الذي مارسوه عبر الإعلام وصفحات مواقع التواصل الاجتماعي في دفع مجلس الشعب إلى القيام بـ «عمله»، ونجحوا في وقف مشروع «أسلمة الدولة».
وكان الهدف من زيارتي غير الاعتيادية لموقع مجلس الشعب السوري محاولة معرفة حقيقة الأمر، ذلك أن الضجيج حول المرسوم أغراني بإجراء دراسة مقارنة بينه وبين القانون الذي كان ساري المفعول قبله، علّني أتمكن من معرفة دوافع إصداره، ومعرفة الجديد الذي أضافه إلى عمل وزارة الأوقاف، بعيداً عن الضجيج الذي أُثير حوله.
كان القانون السابق قد صدر بالمرسوم التشريعي رقم 204 لعام 1961، وكان عملُ وزارة الأوقاف بموجبه موجهاً بشكل أساسي إلى مسألة إدارة دُور العبادة والأوقاف الدينية، ومنذ ذلك الوقت لم يصدر قانون شامل يعيد تنظيم عمل الوزارة، لكن صدرت العديد من التعديلات والمراسيم المرتبطة بعمل الوزارة خلال عقود حكم البعث الطويلة، أدّت إلى توسيع صلاحياتها تدريجياً، حتى شملت إحداث صندوق للزكاة والصدقات تشرف عليه عام 2013. ولعلّ من بين فوائد المرسوم الجديد الذي صدر الشهر الماضي، أنه يُعفي الدارسين الذين قد يبتليهم الله بالبحث في قوانين وزارة الأوقاف السورية من عناء ملاحقة المراسيم وربطها ببعضها بعضاً.
وعلى أي حال، فإن الفارق الرئيسي بين التنظيم القديم والتنظيم الجديد لعمل وزارة الأوقاف، يمكن اختصاره في أول مهمتين من مهماتها بحسب المرسوم الجديد: «أ- الإشراف على الأنشطة الدينية في الجمهورية العربية السورية كافة ومتابعتها. ب- وضع ضوابط العمل الديني، والرقابة على حسن تنفيذها، وتوجيه الفكر الديني إلى معالجة القضايا المعاصرة».
يضع المرسوم الجديد الحياة الدينية في سوريا برمتها في يد الوزارة. ويقلّص من صلاحيات المفتي العام ودُور الإفتاء في مسألة الإشراف على العمل الديني، لصالح زيادة صلاحيات وزير الأوقاف ومديريات الوزارة ولجانها في هذا المجال. ويخفّف من تبعثر القوانين والمراسيم والتشريعات المتعلقة بالأوقاف والإفتاء، ويحصرها في نصّ واحد يسهل الرجوع إليه.
بعيداً عن التفاصيل القانونية المعقدة، هذه هي الفوارق الأساسية التي أضافها المرسوم الجديد إلى مسألة تنظيم الشؤون الدينية في سوريا، إذ بات كل عمل ديني غير خاضع لإشراف الوزارة أياً كان نوعه مخالفاً للقانون، وبات أداء فريضة الزكاة الإسلامية من قبل الراغبين بأدائها أكثر خضوعاً لرقابة الوزير المباشرة، وباتت خطب الجمعة في سائر المساجد خاضعة لمحددات عامة تفرضها الوزارة بناء على مواد المرسوم نفسه.
ولكن إذا كنا نعرف أن المحددات والمواضيع العامة التي ينبغي أن تشملها خطب الجمعة مثلاً، يتم تحديدها أسبوعياً من قبل أفرع الأمن، وهي المعلومة التي يعرفها أصغر طفل يرتاد أي مسجد في سوريا. وإذا كنا نعرف أن أفرع الأمن هي الحاكم الفعلي في البلاد، وأنه لا يوجد وزارة أو مؤسسة واحدة في البلاد تستطيع تجاوز تعليمات ضباط الأمن، فما هي الدواعي التي دفعت النظام إلى التفكير في إصدار مرسوم كهذا؟
يحتاج الأمر إلى عرّافين كي يتمكنوا من الوصول إلى جواب دقيق، ذلك أن أحداً لا يعرف ما الذي يدور في دوائر النظام التي تمارس الحكم الفعلي بعيداً عن المناصب والصلاحيات الرسمية، لكن الأرجح أن النظام يسعى إلى استكمال هيمنته على الحياة الدينية في سوريا، ويسعى إلى ربطها كلها بمرجعية واحدة عليا تسهل محاسبتها وممارسة الضبط من خلالها، ويسعى إلى تجاوز اختلاط الصلاحيات وتداخلها بخصوص الإشراف على المساجد ورجال الدين الإسلامي تحديداً، وإلى تعميم فهم وتفسير مركزي واحد للنصوص الدينية، منبعه مركز صنع القرار في النظام، ويمرّ عبر جهة واحدة معتمدة هي وزارة الأوقاف، حتى أن هناك فصلاً كاملاً مخصصاً لتحديد معايير ومرتكزات الخطاب الديني في المرسوم.
هذه إذن «دولنة للدين» إذا صح التعبير، وليست «تدييناً للدولة» كما قال كثيرون ممن أثاروا الضجيج حول المرسوم الجديد. ولا نعرف على وجه التحديد ما الذي أغضب «صقور العلمانية» من أنصار النظام في أمر كهذا، فهؤلاء خصومتهم مع الثورة والمعارضة مبنية أصلاً على ما يقولونه حول الخوف من «أسلمة الدولة»، وها هي الدولة بدل أن تتأسلم، تعمل على دولنة الإسلام وإخضاعه لها.
كان ممكناً أن نصدقهم في أنهم يعارضون المرسوم لأنهم لا يريدون تديين الدولة ولا دولنة الدين، بل يريدون فصل الدين عن الدولة لأنهم علمانيون، لكن وقائع تأييد المذابح والدفاع عن عسكرة الدولة وتطييفها وجعلها ملكاً خاصاً لأسرة واحدة ومحاسيبها، وتأييد تدخل دولة دينية مخيفة كإيران عسكرياً لصالح نظامهم، كلها تشير إلى أنه لا مجال لأخذهم على محمل الجد، لا بخصوص العلمانية ولا بخصوص غيرها.
الأرجح أن هؤلاء أساؤوا قراءة نص المرسوم، ورغبوا في إثارة عاصفة هيستيرية مسرحية تقدمهم كمناضلين، في مسألة يعرفون جيداً أن نظام الحكم لن يقمعهم بخصوصها، لنجد أنفسنا أمام مهزلة جديدة تدور على منصة الأسد المنصوبة عالياً فوق الجماجم والدمار. ولا شك أنهم سيعودون إلى الهدوء الآن، إذ أن «مجلس الشعب المنتخب» استجاب لهم وأدخل تعديلات هنا وهناك كي تكتمل فصول المسرحية الهزلية، التي من سخافاتها أن أحد التعديلات التي تم إقرارها، تتضمن استبدال العبارة التي تقول إن وزير الأوقاف هو «المرجع الأعلى للوزارة» بعبارة تقول إنه «الرئيس الإداري الأعلى للوزارة». ويمكن لنا أن نتخيل بناء على هذا التعديل نوعية المهاترات والحذلقات اللغوية التي شهدتها جلسة مجلس الشعب إياها.
أثناء جولتي على الموقع الرسمي لمجلس الشعب السوري، وجدتُ أن فيه قسماً مخصصاً لرسوم الكاريكاتير، يتضمن رسومات قاسية تنتقد الفساد والفقر في البلاد، كما لو أن الفساد والفقر أوبئة لا يد للرئيس الشاب الذي يعج الموقع بصوره فيها، وكانت مشاهدتي لهذه الرسوم ختاماً مناسباً لجولتي الكاريكاتيرية في عالم قوانين ومراسيم سوريا الأسد، التي يموت فيها كل شيء، باستثناء عبادة الدولة وتأبيد قائدها.