بعد أكثر من أربع سنوات على تعيينه في منصب المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى سوريا، أعلن ستيفان ديمستورا في كلمته أمام مجلس الأمن يوم أمس الأربعاء أنه سيستقيل من منصبه نهاية الشهر القادم.
وبالنظر إلى هذه السنوات التي عمل فيه ديمستورا مبعوثاً أممياً خاصاً إلى سوريا، نجد أنها شهدت كثيراً من التحولات في المواقف الدولية والإقليمية من الحل في سوريا، بالتوازي مع التغيرات الكبيرة التي حدثت على طبيعة السيطرة العسكرية في البلاد. وعلى الرغم من أن هذه المرحلة بالذات جاءت على شكل تداعيات للاتفاق الأمريكي-الروسي حول السلاح الكيميائي للنظام السوري، بعد مجزرة كبرى ارتكبت في غوطتي دمشق الشرقية والغربية في شهر آب عام 2013، إلا أن السنوات الأربعة شهدت مجازر بالسلاح الكيماوي فاق عددها تلك التي ارتكبت قبل هذا الاتفاق. وفي الحقيقة، فإن المشهد الذي جنّبَ النظام ضربة عسكرية أمريكية كانت إدارة الرئيس أوباما تتوعد بها بشكل مستمر إذا ما استُخدم السلاح الكيماوي، كان مشهداً أعطى عمراً مديداً لآلة القتل الأسدية في سوريا، التي تستمر في عملها حتى اللحظة.
من هذا المشهد ولد المسار والسياق الذي لعب فيه المبعوث الدولي الخاص ستيفان ديمستورا الدور الأكثر إشكاليةً بين المبعوثين الدوليين الآخرين إلى سوريا، فقد بدأ الرجل مهمته مباشرةً من خلال تحويل الحديث عن مسار الحل السياسي العام إلى حديث عن التفاصيل، وعرض منذ مجيئه مبادرة إنشاء أربع مجموعات عمل تضم النظام والمعارضة لمناقشة عدة قضايا تتضمن؛ المساعدات وإعادة الإعمار، السلامة والحماية، مواضيع سياسية وقضائية، مواضيع عسكرية وأمنية خاصة بمكافحة الإرهاب.
هذه الورشات التي لم تتكتمل في أي وقت، كانت نقطة انطلاق لما يمكن تسميته بالدبلوماسية من أجل الدبلوماسية، فنشاط الرجل لم يكن معنياً بالقضايا المركزية للصراع في سوريا، بل حاول بشكل مستمر خلق أطر للتفاوض تحاول التركيز على مسائل جزئية وإجرائية، الأمر الذي أعطى المسار السياسي في سوريا طابعه الذي نراه اليوم، من حيث هو نقاشٌ عن تشكيل لجنة دستورية وتفاوضٌ على عدد المقاعد فيها، أو تفاوضٌ بين منظمات المجتمع المدني المستقلة وتلك القادمة من عند النظام على بيان في بروكسل.
خلق هذا أوضاعاً تدفع السوريين وهيئات المعارضة للنظر إلى التنازلات التي قد يتم تقديمها على أنها جزئية، أو أنها في مقابل مكاسب صغيرة أيضاً، في حين أن مجمل المسار السياسي اليوم يقودنا إلى غير ذلك، فهو يبدو مساراً لابتزاز السوريين في حياتهم للموافقة على استمرار نظام الأسد، يشبه كثيراً «الدعوة إلى السلام» التي أطلقها منذ فترة الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر على صفحات نيويورك تايمز، التي تضمنت رؤيةً تتسق مع أفعال وطريقة عمل المبعوث الدولي ستيفان ديمستورا.
ولم يكن المبعوث الدولي قد أخفى سعادته من التحول الذي جرى على الإطار الدولي للحل في سوريا بعد إصدار القرار 2254، الذي قام بعمل مشابه لفكرته الأساسية وهي تقسيم الملفات التفاوضية، وإن كان قد ربطَ نجاحها باتخاذ قرار نهائي فيها بشكل جماعي. ومنذ مبادرته لتجميد القتال في مدينة حلب، بات من الواضح أن ما كان مساراً برعاية دولية، يهدف إلى الوصول إلى صيغة حكم جديدة في سوريا تنهي القمع وسنوات الدم، قد أصبح إدارة للأزمة التي لا يريد أحد في المجتمع الدولي التدخل لإيقافها.
إلا أن الدور الأخطر الذي لعبه ديمستورا هو تطوعه الدائم للاعتراف بالمبادرات التي دفعت بها موسكو على أرضية الأمر الواقع ورعايتها، والقائمة على التطبيع مع شرط وضع السوريين المناهضين للنظام بين خياري التنازل أو الإبادة، وهو الدور الذي لعبته حكومة بوتين في سوريا منذ تدخلها عسكرياً بشكل مباشر.
اتفاق مدينة حلب الذي قضى بخروج قوات المعارضة والراغبين من السكان المدنيين من الأحياء الشرقية، كان فاتحة لهذا المسار الذي كان العملية التي رعاها ديمستورا وطبّعَ معها بشكل مستمر. ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل كان حاضراً في الاجتماعات التي رعتها موسكو بالاتفاق مع أنقرة وطهران للخروج من دوامة جنيف، التي تضع فيها الدول الغربية فيتو على إعادة تأهيل النظام، ليضرب الرجلُ عرض الحائط بالمسار السياسي المرعي من الأمم المتحدة، والذي كان يفترض أن يكون هو مشرفاً عليه، مفضلاً أن يكون شخصاً «عملياً».
يبدو أن هذه الاستراتيجية هي التي دفعت الأمين العام الحالي أنطونيو غوتيرش إلى الإشراف بشكل مباشر على المسار في سوريا، إلى درجة أصبح فيها الأمين العام يتلقى تقريراً دورياً بآخر التطورات في سوريا من دون الاستعانة بمكتب المبعوث الخاص. ويمكن العودة إلى الاتفاق الذي عقده غوتيرش مع لافروف حول مؤتمر سوتشي بداية العام الحالي، باعتباره تجاوزاً للمبعوث الخاص نتيجة عدم رضى واضح عن أداء الأخير.
أعلن ديمستورا عن نيته الاستقالة دون أن يتم الوصول حتى اللحظة إلى اتفاق حول تشكيل لجنة صياغة الدستور التي تم الاتفاق عليها بين الأمين العام للأمم المتحدة ووزير خارجية روسيا سيرجي لافروف، ولا يبدو أن الشروط التعجيزية التي تفرضها موسكو ستسمح بتشكيل هذه اللجنة قريباً، إذ ترى روسيا اليوم أن الوضع الميداني والدولي قد تغير لصالحها من عدة جوانب، وبالتالي فإنها باتت غير مهتمة حتى بمسار يُعنى بالجزئيات والتفاصيل دون العمل على القضايا الرئيسية. لذا سيكون من الجيد القول إن المرحلة التي بدأت مع تولي ستيفان ديمستورا منصبه كمبعوث أممي خاص إلى سوريا قد انتهت، لكن الصيغة التي ستسيطر على المرحلة المقبلة لم تكتمل بعد، وإن كان التشدد الروسي الذي يقابله تجاهلٌ غربيٌ وأمريكي قد يعطي صورة أكثر سوداوية عن ما يمكن أن يقدمه المسار السياسي لسوريا مستقبلاً.