«نهاية نموذج الوطنية الديمقراطية؟»، هذا هو العنوان المثير للمقال الذي كتبه ياسين الحاج صالح، ونشره موقع الجمهورية في 12 تشرين الأول. وفي 17 تشرين الأول كتب أيمن أبو هاشم مقالاً ناقش فيه مقال الحاج صالح تحت عنوان «في مشكلة المطابقة بين الوطنية السورية ونهاية نموذجها السياسي»، ثم ردَّ عليه الأخير بمقالٍ آخر نُشر في 25 تشرين الأول تحت عنوان «حق الخسارة: رد على أيمن أبو هاشم».

وصفتُ مقالَ الحاج صالح الأول بالمثير، وهو كذلك فعلاً. وعلى الرغم من نيتي السرمدية في أن أقوم بمناقشة نصيّة مطولة لفكر الحاج صالح ونصوصه، لما لهذا الفكر من راهنية وعمق وأهمية كبرى من وجهة نظري، إلا أنني كنت دائماً أؤجل هذه المناقشة إلى حين توفر «الظرف المناسب» الذي يسمح لي بقراءة كل أعماله ونصوصه. وبانتظار توفّر هذا الوقت المناسب، سأكتفي في النص الحالي بالتعبير المكثف والمقتضب عن بعض انطباعاتي وأفكاري حيال النصوص الثلاث المذكورة، ومناقشة بعض ما جاء فيها من أفكار.

ثمة ما يُغري في وضع منظورَيّ الحاج صالح وأبو هاشم في تقابل قطبيّ، يشغل فيه منظور الحاج صالح قطب النظر والقدر، ويشغل فيه منظور أبو هاشم قطب العمل والإرادة. سأستسلم لهذا الإغراء مؤقَّتاً، لما فيه خصوبة فكرية ممكنة، من وجهة نظري.

يتحدث الحاج صالح، في مقاليه المذكورين، مراراً بلغة قدرية، أي بلغةٍ تصف «القدر الساحق [الذي] يقتل كثيراً، أفكاراً ومفاهيم ونماذج للتفكير بالسياسة …». ويتمثّل هذا «القدر الساحق» في «النظام المحلي والدولي». وكما هو الحال «دائماً» عند الحديث عن القدرية الجبريةمن الواضح أن القدرية التي أتحدث عنها تختلف جذريّاً عن قدرية فرقة «القدرية» الإسلامية التي تنفي وجود القدر، في مقابل فرقة الجبرية التي تقول بأن الإنسان مسير لا مخيَّر.، يُحيل الحديث عن «القدر الساحق» إلى المأساوية، مأساوية هذا القدر ومأساوية الحسّ الذي يواجهه. وفي تشديده على ضرورة مواجهة هذا القدر الساحق وعدم التهرب من هذه المواجهة، يشير الحاج صالح إلى الأهمية الخاصة لامتلاك «الحسّ المأساوي» الذي يعني، فيما يعنيه، في السياق السياسي السوري المعاصر، الإقرار بـ «المأساوية الجوهرية» لهذا «القدر الساحق» متمثِّلاً في «المسار التاريخي والاجتماعي والسياسي والفكري، الذي يشكل اهتلاكُ الأفكارِ أحد وجوهه».

وانطلاقاً من هذا الحس المأساوي ومن إدراك اهتلاك الأفكار الذي ينتجه فعل «القدر الساحق»، تَنتُجُ ضرورة الإقرار بالتغيّرات الهائلة التي حصلت وتحصل في الواقع، وبضرورة دفن النموذج المرشد القديم «نموذج الوطنية الديمقراطية» لأنه ما عاد قادراً على إسعافنا في فهم أوضاعنا السياسية. يتضمن خطاب القدرية المأساوية غالباً إحالةً على نهايات مروِّعة، ومن هنا يتخذ هذا الخطاب صيغة خطاب نهاية (اﻟ)عالم apocalypse. وعلى هذا الأساس ينبغي فهم الإعلان عن «نهاية نموذج الوطنية الديمقراطية». أما عالم ما بعد هذه النهاية/ القيامة فيتضمن عشر سنوات، على الأقل، لا تُطاق، وبعدها سنوات صعبة طويلة، كما يقول الحاج صالح في توقعاته.

في مقابل هذا القطب القدَرَيّ، نجد في نص أبو هاشم قطب الإرادة. وقد لاحظ الحاج صالح هذه المسألة عندما أشار إلى أن نقد أبو هاشم أو اعتراضه تحفزُهُ دوافع كفاحية وسياسية. وفي نص أبو هاشم تبرز لغة المصير أكثر من لغة القدر السائدة أو المهيمنة في نص الحاج صالح. وعلى العكس من الرؤية القدرية، يتضمن الحديث عن المصير بالضرورة إحالةً على إرادة فاعلة وخيارات حرة. ويقول أبو هاشم بوجود «مسألتين مُلحّتين» يجب التمحيص فيهما، في السياق السياسي الحالي. ما يهمنا هنا تحديداً هو أن المسألة الأولى تتصل بـ «مدى قدرة السوريين على تغيير مجريات القدر الساحق».

من الواضح انتماء هذا النقاش إلى لغة المصير والإرادة، وليس إلى لغة «القدر الساحق». فالاعتقاد بوجود إمكانية، نظرية على الأقل، ﻟ «تغيير مجريات القدر الساحق» يجعلنا نخرج من الرؤية القدرية إلى رؤية ترى أن القدر غير محسوم أو لم يتم حسمه بعد، وأن مصيرنا مرهونٌ بإرادتنا، بدرجةٍ أو بأخرى، وبطريقةٍ أو بأخرى. وما تبتغيه الإرادة، عند أبو هاشم، وتبتغي تأكيده أو تحقيقه، هو «إنقاذ الهوية السورية من التصدع والتشظي الناجمين عن الصراع الدموي. […] ثمة إرادة سورية لا يمكن تجاهلها، تحاول إعادة صوغ هوية وطنية جديدة، تجسد فكرة الانتماء للوطن السوري».

ثمة تبسيط، مخلٌّ ولا شك، في اختزال رؤية الحاج صالح إلى قدرية خالصة ورؤية أبو هاشم إلى إرادوية كاملة. لكن الغرض من هذا التبسيط الأولي المؤقت هو الإشارة إلى الجانب الذي يركز كل كاتبٍ اهتمامه أكثر عليه في نصه. فأبو هاشم يقرّ بالإمكانية الكبيرة ﻟ «انهيار الوطن السوري، وليس الدولة التي خطفها نظام الاستبداد فحسب»، لكنه يرى أن نموذج الوطنية السورية قد خسر جولةً أو معركةً، لكنه لم يخسر الحرب بعد. المقابل، يُشدِّد الحاج صالح على «أننا خسرنا جولة الثورة خسارة حاسمة» وعلى أنه «قد حدث شيء رهيب، لما نُحِط به بعد، ولقد خسرنا كل شيء»، وعلى أنه ثمة «تماهٍ في هذا الشأن […] بين مصير الوطنية السورية وبين فشل الثورة».

ووفقاً لمنطق الخسارة، فَقَدْ فَقَدَ النموذج الوطني الديمقراطي قيمته، لكونه العتاد الفكري والسياسي والتنظيمي الذي خرج من الصراع خاسراً. وعلى الرغم من مشاركة الحاج صالح لأبو هاشم «التطلع إلى مناخات جديدة للتفكير والنقاش العام حول أسس ومرتكزات إعادة صوغ الإجماع الوطني، وانطلاق ديناميات التفكير السياسي، بالبحث عن حوامل وطنية ديمقراطية تتجاوز صيغتها النخبوية» فإنه يميل «اليوم إلى إعطاء خسارتنا حقها من الاحترام، وإعطاء أنفسنا فرصة للحداد إن استطعنا، وتفادي المسارعة إلى «مراجعات» فجة، كما إلى استئناف المعركة كأن شيئاً لم يحدث».

للتخفيف من تبسيطية الاختزالين المذكورين آنفاً، من الضروري التشديد على أنه على الرغم من طغيان النزعة القدرية في مقالَيّ الحاج صالح المذكورين، إلا أنه ثمة إشارات متعددة، في هذين النصين ذاتهما، على وجود نزعة إرادية بل وإرادوية هائلة في فكره. فالإرادة من منظور الحاج صالح قادرة على فعل المستحيل، لكن عليها، أولاً وقبل كل شيء، أن تعي فعل القدر الساحق وألا تنكره أو تنكر تجلياته وتأثيراته وآثاره. وفي الفقرة الأخيرة من مقالَيّ الحاج صالح الأخيرين، نرى القرائن القوية على وجود هذه النزعة الإرادية أو الإرادوية. ففي نهاية مقاله الأول يقول: «[نحن] مضطرون اليوم لأن ننظر بشجاعة وصبر في الشروط التي لا تكفّ عن جعل النظر مستحيلاً: شروط المذبحة». وفي نهاية مقاله الثاني يقول «من مرّ بما مررنا به لا يمكن لشيء أن يوقفه». وليس غريباً وجود هذه النزعة لدى صاحب كتاب الثورة المستحيلة، وأحد أبرز المسهمين فكريّاً في هذه الثورة.

سأتابع لاحقاً مناقشة السمة القدرية لخطاب الحاج صالح، لكنني أودّ الآن البدء في مناقشة سمة أخرى تبرز في مقاله، وأعني استخدامه لمفهوم توماس كون عن «النموذج المرشد». ولمناقشة هذه السمة، من الضروري، بدايةً، الإشارة، مع الحاج صالح، إلى أن كون قد بلوَرَ هذا المفهوم في إطار دراسته لتاريخ العلوم المضبوطة (غير العلوم الإنسانية) وتنظيره لها. صحيحٌ أنه ثمة إمكانية دائمة لارتحال المفاهيم، واستخدامها في سياقات وحقول معرفية جديدة، لكن استخدامها في هذه السياقات والحقول يتم بقدر متفاوت من الملاءمة. وقد حظي مفهوم «النموذج المرشد» بانتشار واسعٍ؛ والحاج صالح نفسه وظّفَه توظيفاً ملائماً وناجحاً إلى حدٍّ كبيرٍ، في مقالٍ سابقٍ له بعنوان الباراديغم السلفي الجهادي وهيمنته. لكن يبدو لي أن تعقيدات استخدامه في المقال الجديد هي أكبر بكثير. وسأحاول، فيما يلي، الإشارة إلى بعض أهم هذه التعقيدات.

السؤال الأول الذي يمكن طرحه: هل النموذج المرشد، الذي يتحدث عنه الحاج صالح في مقاله، هو «نموذج عملي، موجه نحو العمل وتغيير الواقع، أم نموذج نظري تفسيري، موجه نحو الشرح والتوضيح»، أم أن «النظري والعملي يتلاحمان فيه على نحو لا فكاك فيه في الباراديغم»، كما هو الحال في الباراديغم السلفي الجهادي، (وفقاً للحاج صالح)؟ لمناقشة هذا السؤال، من الضروري الإشارة بدايةً إلى أن الحاج صالح نفسه قد أقام هذا التمييز بين نوعي النموذج المرشد في مقاله السابق عن الباراديغم الجهادي. أما في مقاليه الأخيرين فلا يشير إلى هذا التمييز، ويبدو أن النموذج الذي يتناوله هنا هو نموذج نظري تفسيري أكثر من كونه نموذجاً عمليّاً، أو أنه يركِّز على الجانب الأول أكثر من تركيزه على الجانب الثاني. وسأسمح لنفسي هنا باقتباسٍ مطوَّلٍ لتعريف الحاج صالح للنموذج المرشد أو الباراديغم، حيث يكتب: «هو نسق من المفاهيم والممارسات الناظمة لمجال علمي في زمن بعينه، نستند إليه لفهم ظواهر هذا المجال، قبل أن تتواتر ظواهر تتحدى طاقة النموذج التفسيرية فيدخل في أزمة، وقد يتولد نموذج مرشد جديد من محاولة استيعاب الظواهر الجديدة والبحث عن مخارج من الأزمة». يبدو جليّاً أن النموذج الذي يتحدث عنه الحاج صالح، وفقاً لتعريفه السابق، هو نموذج نظري تفسيري؛ فهو يتحدث عن نسق نستند إليه لفهم ظواهر ما، وعن «طاقة النموذج التفسيرية»، وعن قدرة النموذج على استيعاب الظواهر … إلخ.

ويبدو أن الحاج صالح يتبنى هذه الرؤية النظرية التفسيرية للنموذج حينما يتحدث عن الأزمة التي عصفت بالنموذج القومي الاشتراكي، والتي أفضت، نتيجة الحروب الخاسرة مع إسرائيل، إلى الانتقال إلى نموذج الوطنية الديمقراطية، وعن الأزمة الحالية التي تعصف بنموذج الوطنية الديمقراطية، وتُمهّدُ الطريق للتخلي عن هذا النموذج والانتقال إلى نموذجٍ جديدٍ لم تتضح معالمه بعد. ففي كلتا الأزمتين يتم الانتقال إلى نموذج جديد؛ بسبب وجود وقائع وعلاقات وعمليات متكاثرة جديدة لم يعد النموذج القديم يسعفنا في فهمهما وفهم أوضاعنا السياسية والإحاطة بهما. ويبدو أثر النزعة القدرية و/أو غياب أو تغييب الإرادة في هذه الصورة واضحاً، حيث يقتصر دور الإرادة أو الذات على «وعي الضرورة» أو وعي «القدر الساحق» الذي يتجسد في مجموعة الوقائع والعلاقات والعمليات الجديدة التي ينبغي على الإرادة المفكرة أن تأخذها في الحسبان في نموذجها التفسيري المرشد.

لا يبدو أن السمة النظرية التفسيرية للنموذج المرشد عند الحاج صالح ناتجة عن رؤيته القدرية، إذ يمكن القول إن هذه السمة ترتبط بالمجال المعرفي الذي تم فيه إنتاج فكرة توماس كون عن النموذج المرشد. فتعريف الحاج صالح ﻟ «النموذج المرشد» في المجال السياسي «مطابقٌ» لتعريف كون لهذا النموذج في إطار دراسته لتاريخ العلوم المضبوطة. لكن إذا كان من المفهوم أن يقتصر النموذج المرشد في ميدان العلوم غير الإنسانية على أن يكون نظريّاً تفسيريّاً، فهل من المناسب الاقتصار على هذه السمة النظرية التفسيرية عند الحديث عن النموذج المرشد في ميدان السياسة والاجتماع والتاريخ الإنساني؟ هل يمكن للنموذج المرشد في الميدان السياسي أن يقتصر على محاولة تفسير ما هو كائن، أم أنه يمكن بل وينبغي بالضرورة أن يتضمن قيماً وتطلعات في خصوص ما يجب أن يكون؟

إن ظواهر العلوم الإنسانية، التي كانت تسمى أحياناً بالعلوم العملية و/أو العلوم الأخلاقية، ومواضيعها تتصل اتصالاً وثيقاً ومباشراً بالقيمة الأخلاقية والعمل أو الممارسة، ولا تقتصر على كونها مواضيع للفهم والتفسير. وعلى هذا الأساس، لا أعتقد أن وجود النماذج المرشدة و/أو تغيرها، في المجال السياسي، مرتبطٌ فقط بمدى قدرة هذه النماذج على تفسير الوقائع والإحاطة بها، بل هو، أو ينبغي دائماً أن يكون، وثيق الصلة بالقيَم وبالعمل، وبما يريده الإنسان. ولا تبدو هذه الصلة وثيقة في حديث الحاج صالح عن «نهاية نموذج الوطنية الديمقراطية» عموماً، ولا في تعريفه للنموذج المرشد خصوصاً.

وللتعمق أو للتوسع في فهم هذه المسألة، يمكن المقارنة بين نموذجي «القومي الاشتراكي» و«الوطنية الديمقراطية»، وفقاً لتوصيف الحاج صالح لهما. فالنموذج القومي الاشتراكي كان يعبر عن وقائع وقيم وممارسات موجودة في الدولة ولدى السلطة والأحزاب والمفكرين على حدٍّ سواء. وعلى هذا الأساس يمكن الحديث عن وجود تناغم جزئي ونسبي بين الواقع السياسي والمجتمعي والتفكير النظري والقيم المتبناة والممارسة المرتبطة بها. فثمة سلطات وأحزاب ومؤسسات وتيارات فكرية تتبنى هذا النموذج وتنظِّر له وتعمل على تحقيقه في الواقع العياني. في مقابل هذا التناغم الجزئي والنسبي بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، نجد أن نموذج الوطنية الديمقراطية قد تأسس على أساس التناقض أو الاختلاف والتضاد، ليس مع النموذج النظري- العملي السابق فحسب، بل ومع الواقع السياسي القائم الذي نشأ في ظله. فالنموذج الوطني الديمقراطي في سورية والعالم العربي نشأ، كما يقول الحاج صالح، في ظلّ «دولة قمعية، تصادر الحريات الأساسية والسياسية، وتتسبب في تدهور«الاندماج الوطني» في ظلها، كما تُضعِف بلدانَنا في مواجهة أي أعداء خارجيين». فثمة نموذج وطني، ليس لأن الدولة «وطنية»، وليس لأن النظام وطني و/أو ديمقراطي، بل لأن الدولة والنظام ليسا كذلك. ومن هنا فإن سمتي الوطنية والديمقراطية المؤسستين لهذا النموذج ترتبطان بالإرادة الواعية الساعية إلى تحقيقهما واقعيّاً، أكثر من ارتباطهما بالتنظير لواقع الدولة أو النظام الحاكم أو المجتمع المحكوم وفهمه وتفسيره.

يبدو ضروريّاً التشديد على هذا التناقض بين نموذج الوطنية الديمقراطية والواقع السياسي والاجتماعي الذي نشأ فيه، لأن الحاج صالح، في حديثه عن المؤشرات الدالة على انتهاء صلاحية نموذج الوطنية الديمقراطية، يشير، على سبيل المثال، إلى «ترسّخ تطييف الدولة ونزع وطنيتها»، وتراجع «العناصر الديمقراطية والتحررية في الوعي العام في بيئات الأقليات» إضافة إلى ظهور «تراجع واسع للعناصر الوطنية في وعي وسياسة البيئات العربية السنية، وصعود شكل بالغ التوحش من الطائفية في أوساطها مع تبعية قطاعات نشطة منها لقوى إقليمية متعددة و/أو للأممية الجهادية». ويخلص الحاج صالح إلى القول إن «الأثر الاستقطابي المديد لخصخصة الدولة مشفوعاً بكلٍ من نزع وطنية الأكثرية وديمقراطية الأقليات يضعنا كلياً خارج النموذج الوطني الديمقراطي للسياسة».

ألا يمكن الاختلاف مع الحاج صالح، في هذا الخصوص، والقول إن كل العوامل التي ذكرها هي أسبابٌ، أو ينبغي أن تكون أسباباً، للتمسك عمليّاً وقيميّاً بنموذج الوطنية الديمقراطية، أكثر من كونها أسباباً للتخلي عن هذا النموذج. إن لا-وطنية و/أو لا-ديمقراطية الدولة و/أو النظام و/أو المجتمع سببٌ (إضافيٌّ) لتبني نموذج الوطنية الديمقراطية، وليس عاملاً مسوِّغاً للتخلي عن هذا النموذج.

ينطلق عددٌ متزايدٌ من السوريين وغير السوريين من الوقائع التي تحدّثَ عنها ياسين بخصوص تراجع العناصر الوطنية في وعي السوريين وممارساتهم، ليقولوا بوجوب التحلي بالواقعية في الحديث عما يجب أن يكون في سورية المنشودة. والواقعية، من منظور هؤلاء الأشخاص، تقتضي الاعتراف بأن السوريين ما عادوا (أو ما كانوا «أصلاً») يشكلون شعباً بالمعنى السياسي للكلمة، كما أن فكرة الفرد الحر المستقل ليست راسخة أو قوية في ثقافتهم، ولهذا السبب ينبغي النظر إليهم على أنهم جماعات عضوية متباينة ومختلفة وربما متحاربة. وانطلاقاً من هذه الرؤية، ينبغي السعي لا إلى ديمقراطية وطنية ليبرالية بل إلى ديمقراطية جماعاتية، تتوافق وتتحاصص فيها الجماعات العضوية الإثنية والدينية والطائفية. إن إحلال النسب محل الانتساب، والجماعات العضوية محل الأحزاب السياسية والمواطنين الأفراد، والمحاصصة بين الجماعات العضوية محل التداول الديمقراطي للسلطة …إلخ، هو ما يشكل أو ينبغي أن يشكل، لدى من يصفون أنفسهم بالواقعيين، النموذج المرشد للعمل السياسي؛ وهذا النموذج هو البديل الأنسب عن نموذج الوطنية الديمقراطية الذي يتسم بعدم الواقعية في منظور هؤلاء الواقعيين الواقعين جدّاً غالباً. أنا أدركُ، أو أرجّحُ على الأقل، أن الحاج صالح لا يتبنى مثل هذا النموذج، لكن ما أروم إليه من الإشارة إلى نموذج «الواقعيين» هو القول إن النموذج المرشد في الميدان السياسي، يعكس، أو ينبغي أن يعكس، قيمنا وتطلعاتنا، إضافةً إلى مساعدته لنا في فهم الواقع السياسي ومتغيراته ومستجداته.

من المهم الإشارة، في هذا السياق إلى أن الحاج صالح يذكر مرةً واحدةً، في مقاله الثاني فقط، وجود محتوى قيميٍّ لنموذج الوطنية الديمقراطية. وأهمية الإشارة إلى هذه المسألة، في هذا السياق، تكمن في أن الحاج صالح يرى أن هذ المحتوى القيمي «سيجد طريقه إلى البقاء حياً في ما قد تظهر من تيارات تفكير وعمل تحررية في السنوات المقبلة، لكن لغته ومنظماته وحساسيته ستصير جزءاً من التاريخ». وهكذا يبدو واضحاً أن الواقعية التي يتسم بها خطاب الحاج صالح ليست وقوعاً في هذا الواقع ومعه، بل هي تتضمن عناصر قيمية تسعى إلى الارتقاء به قدر المستطاع.

يمكن للحديث عن الانتقال من نموذجٍ مرشدٍ إلى آخر أن يفضي إلى طرح السؤال عن إمكانية وجود أكثر من نموذجٍ واحدٍ في الوقت والسياق نفسهما. وبكلماتٍ أخرى، هل يمكن، في سياق فكريٍّ سياسيٍّ، محددٍ زمانيّاً ومكانيّاً، أن يوجد أكثر من نموذجٍ مرشدٍ، أم أنه ثمة استحالة ما في وجود أكثر من نموذج واحدٍ؟ وفقاً لتوماس كون، إن الإجابة عن هذا السؤال واضحةٌ إلى درجة البداهة؛ لأنه لا يمكن الحديث عن نموذجٍ مرشدٍ في ميدان العلوم المضبوطة العادية، إلا حين يكون هذا النموذج وحيداً في هذا الميدان. إن نموذجية النموذج وعلمية العلم العادي ترتبطان تحديداً بهيمنة نموذجٍ مرشدٍ واحدٍ في ميدان هذا العلم العادي أو ذاك. ويبدو أن الحاج صالح يتبنى الرؤية ذاتها في خصوص النموذج المرشد في حقل السياسة والعلوم الإنسانية، على الرغم من أن التشكيك في علمية هذه العلوم مرتبط غالباً بعدم (إمكانية) وجود، أو الاتفاق على وجود، نموذجٍ مرشدٍ وحيدٍ في ميدان «العلوم الإنسانية». وتبدو إمكانية عدم الاتفاق هذه أقوى في ميدان السياسة تحديداً أو خصوصاً، حيث يزداد حضور القيم والإيديولوجيات والمصالح، ليس إلى جانب المعرفة فحسب، بل في قلبها وصميمها أيضاً. وعلى هذا الأساس، أرى ضرورة التفكير في إمكانية وجود أكثر من نموذجٍ مرشدٍ في ميدان السياسة والفكر السياسي. وبتخصيصٍ أكبر أتساءل: هل يمكن أن يستمر نموذج الوطنية الديمقراطية في الوجود إلى جانب نموذج آخر أو أكثر، يوجد حاليّاً، أو يمكن أن يظهر مستقبلاً؟

قد يبدو أنه ليس للسؤال عن إمكانية وجود نموذج الوطنية الديمقراطية مع نموذجٍ مرشدٍ آخر أو أكثر، معنىً، في سياق مناقشة مقال الحاج صالح الذي يتحدث عن «نهاية نموذج الوطنية الديمقراطية». لكن هل يقول الحاج صالح فعلاً إن هذا النموذج قد انتهى؟ من المهم الانتباه إلى أن الحديث عن هذه النهاية في عنوان المقال موضوعٌ في صيغة السؤال، وهذا واضح من إشارة الاستفهام الموجودة في نهاية عنوان المقال. على الرغم من ذلك، تسود في المقال الروح والكلمات الجازمة بأن هذا النموذج قد انتهى فعلاً أو سينتهي حتماً في المستقبل القريب. وربما كان هذا الجزم مرتبطاً بالنزعة القدرية، أو ناتجاً جزئيّاً عن حضورها في فكر الحاج صالح، في مقاليه الأخيرين على الأقل. فالحديث بلغة القدر، لا بلغة المصير، لا يفسح مجالاً (كبيراً) لتعدد الاحتمالات و/أو الخيارات. وعلى الرغم من أن نموذج الوطنية الديمقراطية ما زال حاضراً حتى الآن، وسيستمر في الحضور في المستقبل القريب، إلا أن الحاج صالح لا يتردد في الجزم بأن هذا النموذج قد انتهى، ولم يتبقَ له إلا جرّ أذيال خيبته وسحب آخر جثثه قبل أن يتم دفنه نهائيّاً في مستقبلٍ ليس ببعيدٍ. وفي ظل هذا الجزم، ليس للإرادة أي حقٍّ في تقرير مصير هذا النموذج أو غيره من النماذج المرشدة. فالقدر الساحق قد قال كلمته مسبقاً أو هو من سيقولها لاحقاً بالتأكيد، وما على الإرادة، في هذا السياق، إلا الإحاطة بـ «المسار التاريخي، الاجتماعي والسياسي والفكري» لهذا القدر وبـ «مأساويته الجوهرية».

يمكن النظر إلى قراءتي الحالية على أنها مقاومة معتادة ومتوقع وجودها من أحد أفراد الحرس القديم لانهيار النموذج المرشد الذي يتبناه. وقد قيل إن الجديد، في العلم وفي غيره، لا يسود إلا بعد موت أنصار القديم. فموت أنصار النماذج القديمة هو عامل أكثر تأثيراً في شيوع الجديد، مقارنة مع عامل اقتناع هؤلاء الأنصار بذلك الجديد. وأودّ أن أختم تعقيبي المختصر والمكثف على المقالات الثلاثة بالإشارة إلى أن أنني لم أتناول في هذا التعقيب إلا بعض النقاط المنهجية التي يمكن النظر إليها على أنها هامشية وثانوية، مقارنة بما تحتويه مضامين هذه المقالات من أفكار كثيرة بالغة العمق والأهمية. لكن هذا الهامشي والثانوي والمنهجي يحظى، لأسبابٍ مختلفةٍ، بأهميةٍ كبيرةٍ من منظوري وفيه.