ليس هجوم هيئة تحرير الشام الأخير على فصيلين معارضين شمال غربي مدينة حلب هو الأعنف بين سلسلة الهجمات المتكررة، إذ لم يتجاوز قتلاه من الطرفين عدد أصابع اليد الواحدة، على عكس كثير من الهجمات والمعارك السابقة، التي قتل فيها العشرات وتبدلت فيها مناطق النفوذ والسيطرة. لكن الهجوم الأخير على الفصيلين التابعين للجبهة الوطنية للتحرير، والسيطرة الكاملة على مدينة كفر حمرة، له أهمية خاصة من حيث التوقيت والمكان، فهو يأتي في وقت شعرت فيه الهيئة أن هناك محاولات لإقصائها عن المشهد تدريجياً، وجاء في منطقة معقدة تعتبر مثلثاً بين مناطق خاضعة لسيطرة النظام وأخرى تسيطر عليها ميليشيات تابعة لإيران وحزب الله، ومناطق النفوذ التركي.
كذلك يتزامن الهجوم مع فترة تنفيذ بنود اتفاق سوتشي الذي توصل إليه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، وتم تنفيذ العديد من بنوده عدا بند محاربة الفصائل الإرهابية، الذي تعتبر الهيئة نفسها معنية به، فلجأت إلى التحرك لإثبات وجودها وإقناع الأطراف الفاعلة في الملف السوري أنها لا تزال متماسكة ولا يمكن التخلص منها، وأنه «إذا ما فكرت جهة بالتخلص منها فعليها أن تعرف أن تكلفة ذلك ستكون كبيرة»، حسب ما يرى الصحافي محمد السلوم.
وكانت هيئة تحرير الشام والجبهة الوطنية للتحرير قد توصلتا فجر الأربعاء الماضي، عن طريق «طرف ثالث»، إلى اتفاق ينصّ على وقف النار وإطلاق سراح أسرى الطرفين وتشكيل لجنة للتحقيق في قضية مقتل قياديين في «تحرير الشام» وتسليم المشتبه بهم في قتلهما. كما نصَّ الاتفاق على إبقاء قرية تقاد «حيادية» وخالية المقرات والحواجز والدوريات الأمنية وعدم التدخل في مجلسها المحلي، بينما تبقى «مغارة تقاد» خاضعة لـ «تحرير الشام».
وتضمّنَ الاتفاق أيضاً انسحاب فصائل الجبهة الوطنية للتحرير من تلة الشيخ خضر وعودة «تحرير الشام» إليها، مع بقاء مدينة كفر حمرة خالية من مقرات حركة نور الدين الزنكي وحركة أحرار الشام المنضويتين في «الجبهة الوطنية»، وإعطاء أحرار الشام الحق في إنشاء غرفة عمليات من جهة الليرمون على تخوم مدينة حلب، في منطقة «إكثار البذار».
لكن هذا الاتفاق ما زال حبراً على ورق، ولم يعلّق عليه أحد من الطرفين، ولم يطبق منه سوى بند وقف إطلاق النار، بينما ما زال التوتر والقلق سائدين في البلدات والقرى التي شهدت المواجهات منذ يوم الإثنين، بسبب تخوف المدنيين من عودتها كما جرت العادة سابقاً، بحسب الناشط محمد الحلبي المقيم في مدينة كفر حمرة.
يقول الصحافي عمر حاج أحمد إن «هجمات الهيئة على مواقع للجبهة الوطنية غرب حلب، وكذلك على نقطة لقوات النظام في وادي المزروعية قرب بلدة أبو الظهور الخاضعة لسيطرة الأخيرة، والذي أدى إلى مقتل عشرة عناصر بحسب وكالة إباء التابعة للهيئة، أمورٌ له عدة دلالات أهمها حالة العزلة التي باتت تشعر بها الهيئة بعد العديد من التصرفات التركية التي تدلّ على سعيها لإضعافها، كدعم فصائل الجيش الحر في المنطقة، ورفض وجود مقاتلين من الهيئة قرب نقاطها الاثنتي عشرة المنتشرة في إدلب وحماة وحلب واللاذقية، إضافة إلى تراجع عدد خطوط تماسها مع قوات النظام، واقتصار مناطق وجودها على المدن كإدلب وسرمدا وحارم وسلقين وصولاً إلى معبر باب الهوا. كل هذه الأسباب أدت إلى محاولة الهيئة افتعال هذه الصدامات للدلالة على استمرار وجودها كطرف قوي».
ويأتي كلام الناطق باسم الجبهة الوطنية للتحرير النقيب حذيفة مصطفى في الاتجاه نفسه الذي أشار إليه حاج أحمد أعلاه، إذ يقول إن فصائل الجبهة الوطنية للتحرير «باتت موجودة في نحو 85 % من خطوط المواجهات مع قوات النظام، انطلاقاً من ريف اللاذقية إلى قلعة المضيق جنوباً، فريف إدلب الشرقي، وريف حلب الغربي، ما عدا مدينة اللطامنة وعدد من المواقع قربها التي يسيطر عليها جيش العزة، التابع للجيش السوري الحر، الذي يملك عقيدة قتالية مختلفة عن باقي فصائل الحر، فهو لم ينخرط في أي حرب داخلية، وكان له موقف رافض للعديد من المفاوضات السياسية كجولات أستانة، ويعتبر أن روسيا دولة محتلة ولا ينبغي القبول بها كشريك في العملية السياسية».
الصحفي محمد السلوم يضيف من جهته أن «الهيئة من أفضل من لعبوا السياسة على الساحة السورية، فهي حاولت دائماً العمل في المناطق الإشكالية كالمعابر، وأيضاً قريتي كفريا والفوعة الهامتين لإيران، وبعد فقدانها لهذه الورقة باتت تبحث عن أماكن أخرى ذات أهمية استراتيجية توجه أنظارها نحوها، وتسعى من خلال ذلك إلى إثبات نفسها في أي عملية سياسية مستقبلية، والقول للأطراف الدولية التي تدير الصراع إنها لن تقبل الخروج دون جزء من الكعكة السورية».
ويرى السلوم أن الهيئة تسعى للتوسع في ريف حلب الشمالي الغربي لعدة أسباب، «منها الوصول إلى أطراف مدينة حلب، التي يجري الحديث عن إعادة إعمارها، وبدأت تشهد استقراراً يحاول أن يسوّقه النظام، بهدف عودة رؤوس الأموال والمستثمرين. وترغب الهيئة في تشكيل تهديد لمدينة حلب، كي تكون في الحسبان الدولي، كما تسعى في الوقت نفسه لتعزيز مواقعها قرب بلدتي نبل والزهراء الشيعيتين اللتين تشكلان بعداً مذهبياً لإيران، واتخاذهما بديلاً عن كفرية والفوعة لمفاوضات مستقبلية. وربما أيضاً للظهور في مظهر القوي أمام الأتراك، الذين يتحضرون لشن معارك ضد المقاتلين الأكراد شرق نهر الفرات، من أجل الاستعانة بها وفتح طريق لها نحو منابع النفط هناك».
الناشط مصطفى أبو محمد يرى من جهته أن هدف الهيئة من الهجوم على الفصائل المقاتلة شمال غربي حلب هو «السيطرة على مناطق تشرف على الطريق التجاري، الذي تم الاتفاق على إعادة فتحه في منتجع سوتشي بين رئيسي تركيا وروسيا، ما يعطيها قوة ويمكنها من التحكم الكامل ببعض الخطوط التجارية، خاصة أنها تشرف على أهم مورد للشمال، معبر باب الهوا الذي يدر عليها شهرياً ملايين الدولارات، بالتزامن مع تربصها بمعبر مورك القريب من مدينة خان شيخون جنوب إدلب، الذي من المقرر أن يتم الإعلان عن افتتاحه قريباً».
غير أن المحلل العسكري، العقيد زياد حاج عبيد، يخالف السلوم وأبو محمد فيما يذهبان إليه، ويرى أن هدف الهجمة الأخيرة هو «تصفية حسابات بين مقاتلين في الهيئة وآخرين في حركة نور الدين زنكي، التي كانت يوماً جزءاً من جبهة فتح الشام، الاسم السابق للهيئة، لكنها انشقت عنها». ويستبعد حاج عبيد أن يكون هدف الهيئة الإشراف على الطريق التجاري، لأن الاتفاق التركي – الروسي ينص على فتح الطريق التجاري مقابل مدينة الباب، واعتماد معبر الراعي بديلاً عن باب السلامة، ما يجعله بعيداً جداً عن المناطق الخاضعة لسيطرة فصائل المعارضة غرب حلب.
ويوضح حاج عبيد أن «تركيا لن تقبل أن يقاتل جنودها إلى جانب مقاتلي هيئة تحرير الشام المصنفة على قوائم الإرهاب، وفي حال قبلت فإن ذلك يعني الطلاق بينها وبين روسيا»، وأشار إلى أن تركيا لديها آلاف المقاتلين في المنطقتين اللتين سيطرت عليهما في عمليتي درع الفرات وغصن الزيتون، وهم يتلقون دعماً عسكرياً ولوجستياً تركياً، وهم من سيخوضون معارك شرق الفرات في حال انطلقت فعلاً.
وقلّل حاج عبيد في حديثه من أي تبعات استراتيجية لتحركات الهيئة، «التي اتفق المعنيون بالشأن السوري على القضاء عليها، إما بالحلّ ودمج المقاتلين السوريين في صفوف الجيش الحر، وترحيل الأجانب، أو المواجهة في حال رفضت ذلك». لكنه يضيف أن التبعات الأقسى هي تلك التي تلحق بالمدنيين، كما جرى في مدينة كفر حمرة من رعب وسقوط عدد من الجرحى، وفي قرية تل السلطان شرق إدلب، التي نزح منها أهلها بالكامل بعد أن تعرضت لقصف مدفعي عنيف من النظام، جاء بعد هجوم لعناصر الهيئة على إحدى نقاطه غرب بلدة أبو الظهور.