«الوطن ليس سجناً تغادره عندما تسوء الخدمة فيه»، لكنك اليوم لست بحاجة إلى أن تجلس رأساً على عقب، حتى ترى هذه النسخة الأكثر كاريكاتيرية من تلك المقولة الشائعة، لأن إعلام النظام السوري تكفّلَ بإحضارها مقلوبةً إلى أمام أنفك. فمنذ بداية العام الجاري سلط برنامج «أحوال الناس» على قناة سما الفضائية الضوء على زيارة وزيري الداخلية والعدل في حكومة النظام إلى سجن دمشق المركزي (سجن عدرا)، لتفقّد أحوال المساجين.
توالت بعدها البرامج والتقارير الإخبارية التي سعت بجهد محموم لتصوير السجون السورية كمؤسسات إصلاحية وتأهيلية، وليس مؤسسات عقابية، مصرّين على تسمية السجناء بالـ«نزلاء»، لتبدو إقامتهم الإجبارية وكأنها زيارة علاجية حقاً. وفي شهر أيلول الماضي، نظّمت وزارة الداخلية، فعاليات ثقافية وفنية تحت عنوان «رسائل سورية»، كان هدفها بحسب التقارير الإخبارية «مساعدة السجين للتعبير عن طاقاته باتجاهات إيجابية، ليصبح مواطناً فاعلاً في المجتمع».
وما قد يزيد مِحجرَيّ عينيك اتساعاً الآن، هو تصوير «النزلاء» لإدارة السجن كراعية للمواهب والفنون، فـ «نزيلة» باتت تشعر بالسجن وكأنه مسرح أو دار أوبرا، وآخرٌ اكتشف في نفسه موهبة كتابة السيناريو والقصص والشعر، وثالثٌ ممنون لهذه النشاطات التي تساعدهم في تضييع الوقت وقتله. وفي حين ربط المسؤولون العسكريون الفعالية بانتصارات الجيش، سعى بعض «النزلاء» الآخرين لتصوير أنفسهم كرديفين للقوات المسلحة.
مسؤولٌ من وزارة الثقافة أكَّدَ بدوره أن مشاركتهم في هذه الفعالية أتت ليكون لكل «سجين عالمه الفضائي الخارجي» على حدّ تعبيره بالغ الغرابة في أحد التقارير التلفزيونية، وذلك من خلال نقل كل الفعاليات من الوزارة إلى سجن عدرا. بينما يلفت رياض صالح، رئيس اتحاد الكتاب العرب في سوريا، انتباهنا في فيديو آخر إلى أن الفضاء الذي يقيد الحرية في السجن، كما نظن نحن الموجودون خارجه، هو في الواقع فضاءٌ للإبداع والفن والجمال.
وعلى اعتبار أن السخرية تحمل نفسها بنفسها في كلّ ما تقدم، فلا بدّ لنا من أخذ هذه الأخبار على محمل الجد قليلاً، مع ما تنطوي عليه من تخريب لحدود المكان، ومعنى الزمن، ومعايير الجمال والحقيقة، وما شابه.
السجن وسيلة لتأديب المجتمع، هذا أبسط تعريف لأوكار الذل والموت في دولة كالدولة السورية وشبيهاتها، وتصويره كأداة إصلاحية في خطاب السلطة، ووضعه في ترتيب معين مع أدوات أخرى مثل الفن والأدب، لا يعني سوى أن الأداتين الأخيرتين قد دخلتا رسمياً تحت مسمى الأدوات العقابية، أو في أحسن الأحوال أدوات الإخضاع والضبط، على غرار استخداماتهما في ظل الحكم النازي في ألمانيا، وبعد الثورة البلشفية في روسيا.
دخول النظام في تحديد معايير الجمال يكاد يكون عملية إخصاء جماعية، عوض استهداف الأعمال الجمالية كلاً على حدى، ففي مرحلة متقدمة من إعادة النظام لإنتاج سلطته بعد وعيه بصفعة الثورة، ستبرز صورة مرعبة لأجيال قد تنشأ على هذه المعايير، لتنحصر الذروة الفكرية للتاريخ الإنساني، والتي عملت البشرية على تطويرها لآلاف السنين، في البدلات العسكرية الزيتية المموهة، والصور «الجميلة» للأسدين الأب وابنه، في هذه البقعة من الأرض المسماة سوريا (الأعمال «الفنية» في سجن عدرا حوت بالفعل على رسومات للأسدين).
في أحد الفيديوهات خلال التحضير لفعالية «رسائل سورية»، أوضح مدير سجن عدرا أن الموهبة قد تكون سبباً في إخلاء سبيل السجين. يبدو الكلام رومانسياً للغاية، فالموهبة وحدها، ومع كل أسف، قد تنهي استراحة «النزلاء» في «منتجع عدرا»، وليس لأسباب تتعلق بالبراءة أو ما شابه، فقد تكون مسجوناً لخمس سنوات دون وجه حق أو محاكمة، فإذا لم تكن حساساً سيكون من الصعب على السلطة أن تشعر بك، بل إنك في هذه الحالة قد تتحول إلى مادة «كوميدية»، تبني عليها فرقة السجن المسرحية عرضها الجديد، علّها تنال الحرية.
المسرحية سابقة الذكر قُدّمت فعلاً، ولم يكن الهدف منها نقدياً ولا حتى «تنفيسياً»، بقدر ما كان مادة صرفة للإضحاك. لماذا لا نضحك فعلاً على ضياع أعمار «النزلاء»، المحولين منهم على وجه التحديد من الأفرع الأمنية بسبب نشاطاتهم السياسية؟!
إن تحويل الفن إلى مفتاح للولوج إلى الفضاء «الحر» (كما اقترح مدير السجن)، الخاضع بدوره لسطوة السلطة الديكتاتورية، يرغم العاملين فيه على استبدال «الحقيقة» في معناها الإنساني، والتي تُعتبر موضوعاً أساسياً للفن والجمال بحسب العديد من الفلاسفة، بـ«حقيقة» أخرى سياسية. وهذه النسخة من الحقيقة مشوهةٌ ونقيضةٌ تماماً لأي معنى جمالي قد ينطوي عليه الفن، و«إبداعها» تجسيدٌ حقيقيٌ لما قد يدفعنا إليه الذعر من تشويه، وتطبيع مع هذا التشويه.
يحاول إعلام النظام تقديم الفنان السجين في هذه الحالة كما لو أنه قردٌ يشعر بالخطر، فيبرز أسنانه/سلاحه ليوضح لخصمه أنه لا ينوي الاشتباك، فيما يعتقد المتفرجون أنه يبتسم. «فلاش»، أحسنتم، هذه مثلاً صورة فنية جميلة في سوريا الأسد: الرعب.
لكن، وعلى اعتبار أن السجناء «نزلاء»، ونشاطاتهم الفنية تهدف للتأكيد على التواصل مع المجتمع، حتى أن «الفضاء الخارجي» نفسه حضر إلى زنزاناتهم، فما الذي تعنيه الحرية لهم إذن؟! ألا يكون «الأحرار» في الخارج متساوين مع السجناء بشكل أو بآخر، على اعتبار أن حدود الفضاءات هذه لا تحرم أحدهم شيئاً؟!
الحرية لكلا الفئتين تعني التماهي مع الخطاب المُسيس للقيم السامية التي يفرضها النظام، الجمال والحقيقة والأخلاق. وبهذه الطريقة يستطيع المحكومون اختيار طريقة سجنهم، عوض انهاك السلطة باختيارها عوضاً عنهم.
كذلك لا تندرج جرائم مثل «قتل الوقت» ضمن قائمة الجنايات بالنسبة للنظام، بل إن السجناء المُعاد تأهيلهم يتعلمون كيف يقتلون الوقت، هكذا إذن، نبدع لنقتل الوقت، ليمضي سريعاً فلا نشعر بالعقوبة والعذاب، وهذا ما يفعله بالضبط «الأحرار» خارج السجن في سوريا الأسد. أليس هدف هذه النشاطات إعادة دمج السجناء مع مجتمعاتهم وقيمها؟!
هكذا يتحول الإحساس بالزمن، وتباين الفضاءات لدى الإنسان، إلى موضوع للعقوبة.
في مقابلة سابقة مع أحد السجناء خلال قراءته في مكتبة السجن، اشتكى أن الكتب الموجودة تعود إلى ما قبل عام 1985، ولكن قبل أيام قليلة افتتحت وزارة الثقافة بالتعاون مع وزارة الداخلية مركزين ثقافيين ومعهدين للثقافة الشعبية في قسميّ الرجال والنساء من السجن، مزودة هذه المراكز بـ2000 كتاب كلّها من الإصدارات الحديثة للهيئة العامة السورية للكتاب، وبأفلام حديثة كلّها من إنتاج المؤسسة العامة للسينما. وهكذا إذا لم نقتل الوقت عبر «الإبداع» أو نثبته في نقطة معينة عبر الكتب القديمة، فإننا نستطيع أن نقدمه للـ «نزلاء» مشوهاً، على الأقل حتى يعتادوا عليه حين يصبحون خارج قضبان السجن.