ابتدأت الرحلة صباحاً بصراع مع الآلة: رفضَت بتعنّت أن تعطيني بطاقة السفر. ترتبك وتتردد، وتطلب مني أن أعيد المحاولة مرات: في النهاية، تنصحني بالذهاب إلى الموظف المسؤول. أشكرُها وأربتُ على كتفها، ثم أتجه إلى موظفة قلبُها أقسى من قلب الآلة. بعد مماحكات ومناظرات شخصية وميتافيزيقية وحقوقية، بِلغات متعددة، واتصالات إلى مطارات مختلفة، ومراكز شرطة عديدة، واستشارات لكل من هبّ ودبّ من مسؤولي أمن وطيارين ومضيفين وقادة ألوية، تعطيني بطاقة السفر: الآلة لا تستطيع القيام بالمسح الآلي لجواز السفر السوري، والموظفة ليست متأكدة من أن البلد العربي الذي أقصده يستقبل السوريين.

أحمل بطاقة السفر، كنزي الثمين كخاتم سليمان الذي يفتح الآفاق ويروّض الحيوانات ويكشف المستور. أتأكد من تفاصيلها، أقلّبها، أقبّلها، وأضعها في جيبي بحذر.

أدخل الطائرة، مردداً بخشوع: «سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين»، مفكّراً بتطيُّري الشديد المستجدّ وكراهيتي المحدثة للمطارات والطائرات والطيران والطيور. الطيرة، لغةً، من زجر الطير: أي أنك تعبث بعشّ الطير المسكين، وتنظر أين يطير: إن يمَّن، أي اتجه صوب اليمن السعيد، تفاءلوا؛ وإن أشأم، أي اتجه صوب الشام، تشاءموا. أه والله. الشؤم من شامنا الحبيبة، شامة على وجه الأرض، على وجه الآلهة، أو الزمن، أو الغيم، إن تكلمنا كالشعراء بمجازات فارغة. والتطيُّرُ حرّمهُ الإسلام. في القرآن الكريم: «وطائركم معكم». المعنى جليّ: التشاؤم والتفاؤل ليسا من العالم الخارجي، بل من العالم الداخلي. أما في الحديث الشريف: «إنما الشؤم في ثلاث: المرأة والفرس والدار» (الصحيحان). والتناقض كبير، على أن أهل السنة يحلّون التناقض على طريقة هيغل وماركس: ديالكتيك فارغ وجمع تناقضات؛ وسطية انتقائية هادئة، تقبل بالنقيضين. ساعدت هذه الوسطية السنّة على التأقلم مع مصائب ونوائب لا تني تضربهم باستمرار. الشؤم في فرسي الحديدية الطائرة إذن؛ وفي روحي الحائرة، أيضاً. رقم البطاقة: ثلاثة عشر، ومقعد على الممشى لا النافذة. هاتان علامتا شؤم بالطبع. على أية حال، زجرتُ نفسي، وتوكلتُ على السميع العليم المجيب.

أقلعت الطائرة من كوبنهاغن إلى فرانكفورت، محطة الترانزيت في رحلتي إلى تونس.

نصف الساعة من أقدم مملكة في أوروبا إلى أراضي الجرمان أمضيتها أراقب البيض: عفويتهم وتلقائيتهم تثير حقدي القديم الدفين على أبناء الشمال. يبتسمون ويثرثرون كأن ركوب الملعونة الحديدية أمرٌ طبيعي. يقبّل جاري صديقته في فمها. أرتبكُ بشدة. على يميني، فتاة ساحرة الجمال بثياب لا تستر الكثير. أحاول ألّا أنظر، ولكنني أختلس نظرات عميقة عندما أعتقد أنها لا تراني. بعد عقد من الزمن في أوروبا، ما زلت أحدّقُ في أجساد النساء بغباء وهمجية. الرجال الأوروبيون يلقون نظرة سريعة فقط. أخبرتني صديقة ألمانية أن هذا ما يزعجها أكثر من أي شيء آخر في العرب، سواء في زياراتها إلى الشرق الأوسط أو في أوروبا نفسها. لماذا نحدّق؟ يخرجني من تأملاتي العنصرية الجندرية المريضة طفلٌ يركض بين المقاعد. أفتح «الكيندل» لأعود إلى القراءة.

أصل ألمانيا، وأدخل المطار وَجِلاً. تطلب مني الموظفة الوقوف على يمين الصندوق الزجاجي الذي تقيم فيه: لا لا، لا تبتعد كثيراً؛ لا يا بني آدم، لا تقترب من الصندوق كثيراً؛ لا لا، لا تسدّ طريق المسافرين المحترمين: أها، هكذا بالضبط: لا تتحرك سنتميتراً واحداً: هكذا نراك ونراقبك، ولكنك لا ترى ما نفعله هنا، ولا تزعج المسافرين، ولا تدخل قاعات الانتظار، ولا تغادر المطار، ولا تعود إلى كوبنهاغن، ولا تشغل حيّزاً أكبر من حجمك ومكانتك: تسمّر هناك، لا صوت ولا نفس، لا تفتح الموبايل، ولا تقرأ في «الكيندل»، واترك الكتاب من يدك: أجل، بالضبط، قف بلا حراك إلى أن يفتحها الله عليك.

أدندن، في قلبي، «يا الله أوف، من الله الخوف؛ وكلّو من أبو الغيبة».

في الواقع، لا أعرف ما الذي يقوله صباح فخري بالضبط؟ أبو الغيمة؟ الغيبة؟ ولكن ما الذي يعنيه هذا؟

عشرات المسافرين يعبرون أمامي، يبتسمون للموظفة، التي تبادلهم الابتسام المهذب الصادق بدورها، ثم يلقون نظرة سريعة، مليئة بالرعب والتساؤل والقرف، على شخصي الكريم المتسمّر على أرض معادية بابتسامة مرتجفة بلهاء كاذبة؛ ولأنني أسدّ عليهم الطريق تقريباً، يهزّون رأسهم بتأفف، ويصطدمون بكتفي بغضب، لأعتذر بتذلُّل، من كل مسافر ومسافرة وموظف وعامل نظافة يصادف مروره أمامي.

بعد نصف ساعة، يستدعيني موظف، ليحقق معي مرة أخرى، طارحاً الأسئلة ذاتها للمرة الثالثة، وينقلها هذه المرة للشرطة على الهاتف إلى مسؤولين في مكان ما، مترجماً ما أقول، منزعجاً بشدة، مردداً بلغته الألمانية ما لا أفهم منه حرفاً.

في النهاية، يخبرني باحتقار، «نعتذر عن هذا التأخير. ولكن يجب أن ندقق في أوراقك، لأسباب معروفة وواضحة».

أهزُّ برأسي، موافقاً، دون أن نتكلم عن ماهية هذه الأسباب.

أدخل المطار كمتسلّل، والحَكَم كاميرا تسجل كل شيء.

عندي إحدى عشرة ساعة قبل موعد الطائرة التالية، وأنا أتابع قراءة كتابين: واحد فلسفي عن الأفغاني ورينان، والآخر أدبي: مجموعة قصصية للكاتب الهندي/الباكستاني سعدات حسن مانتو. الكتب حاجة أساسية لأمثالي: كالبرتقال وصابون غار ودعوات الأم بالتوفيق. أفتح الكتاب لأختفي في عالم مواز غير مادي، كعالم الملائكة الروحاني. أتجه إلى أقرب مقهى، وأقرأ قصص أستاذ ماهر في القصّ والحياة.

مانتو يكتب عن حياة العاهرات اليومية ومشاغلهم ومشاكلهم، وعن صغار اللصوص. كما كتب عن حرب الانفصال، عن القوادين والصعاليك في الحرب، أولئك الذين لم يفهموا الحرب: تحوّلَ فجأة من ابن شبه قارة هائلة الحجم والتنوع إلى باكستاني مسلم. انشغل بالسياسة ومال إلى اليسار، ولكنه لم يكن ماركسياً. انتقد بشدة دعاة الأدب الواقعي الموجَّه، وعَمِلَ في كتابة سيناريوهات السينما: هوسُهُ الذي اضطر للتخلي عنه مع تطورات السياسة. مات في منتصف العقد الرابع من عمره، معتلَّ الصحة كسير النفس، بعد أن أسَّسَ للقصة القصيرة مكانة خاصة: وهو ما كان يفتخر به، بغرور غير كاذب، وبجدارة مستحقة.

يخرجني من عالم الملائكة سؤالٌ بالألمانية: فتاة تريد أن تأخذ الكرسي على طاولتي. تسأل عن مانتو. أجيب باقتضاب. تقول إنها لا تقرأ القصص القصيرة، تفضّل الروايات. تسألني عن مهنتي. أقول كاتب قصة قصيرة. تضحك بدلال. صديقتُها صحفية. بالطبع، نتكلم عن الشرق الأوسط. سألنني عن طائفتي. قلتُ أنا سنّي. تسرّعتُ، ولم أعرف كيف أشرح المعنى الذي أقصده. هل هناك ما يُشرح؟ أنا الذي لا يعرف شيئاً عن أصول وفروع الإسلام؛ أنا الذي أصرّح بآرائي كاملةً في جلساتي الخاصة فقط، لا العامة، عملاً بمبدأ التقية؛ أنا الذي لا أجد سؤال الدين مثيراً، ولكن ما حوله أكثر إثارة بما لا يقاس: قلت أنا سنّي.

 شرحت لي الصحفية أن السنّة أكثر تعصباً من الطوائف والأديان الأخرى، خصوصاً في قضايا المرأة. هذا ما دَرَستْه في الجامعة. أهزّ رأسي، متوتراً: هل أدافع عن السنّة في المطار، أم أصمتُ تفادياً لنقاش لا جدوى منه؟

يسحب كرسياً ويجلس معنا رجلٌ أشعثٌ مدمّى، ويقول بصوت خافت، ولكنه واثق واضح:

«مرتي تاج راسي».

يتجاهلنه تماماً، قائلات إن علمنة المجتمع تحتاج زمناً، وأحياناً، انحيازاً لعلمانية متشددة.

يهزُّ رأسه، مظهراً عدم رضاه.

تنزعج الألمانيات، «قل لهذا الشبح أن يختفي. نحن علمانيات ولا نحب الأشباح».

أتردد، ولكنه يختفي وحده بكرامة، تاركاً بقعة دم متخثرة على الطاولة.

«شبح، وبقعة دم؟ متخلفون جهلة!».

يتركنني بغضب، ويذهبنَ في حال سبيلهنّ.

أعود إلى مانتو، الذي يقول لي بحنان:

«روح تمشى شوي يا عدي، بتكمل القصة بعدين لك ابني».

أتبع نصيحة أستاذي، وأتجوّلُ في المطار مبهوراً: المطار نموذج للحياة العصرية البراقة الناجحة الباذخة: كل شيء يلمع، كل شيء: من الكراسي إلى الطاولات والمكاتب والنوافذ والأبواب، إلى الحمامات والأرضيات، حتى الزوايا الخفية تلمع، والتواليت يلمع، والمغسلة تلمع؛ والطعام يلمع، والمشروب أيضاً، والموظفون: أحذيتهم تلمع وثيابهم وحقائبهم؛ جبهاتهم، وأنوفهم، وأفواههم، وصدورهم، وأطيازهم تلمع. كل الباعة والعاملين ومسؤولي الهجرة والمضيفات والمضيفين جميلون جداً: لا يوجد مُقعَد أو كسيح أو أعور أو بدين أو أخرس أو أطرش أو قزم؛ لا يوجد بثور أو وحمة على أجسادهم وجلودهم؛ لا يوجد حزن أو حيرة أو تعب في أعينهم الخاوية؛ لا يوجد ابتسامة واحدة شاردة بلا معنى. وكلما تضخم المطار تضخم الجمال: المطارات العظمى أبراج بابل مكتملة!

أدخل المحلات المتنوعة، مطيلاً الوقوف في كلّ منها، علّي أقتلُ الوقت الطويل هنا (كيف نقتل الوقت، الذي يقتلنا باستمرار على ما يرى المعري؟). أبتدأ مع محلّ الساعات: لم أحمل ساعة في حياتي، كأنني خارج الوقت. ساعات شبابية قليلة، وساعات كبيرة مرعبة جلدية وحديدية وذهبية، لا تقولُ الوقت بل تأسر الزمن في عقاربها الحادة اللاسعة. الأسعار بين 500 يورو و35000 يورو. ربطات عنق وإكسسوارات شبيهة في الزاوية. أقلّبها بملل وعلى مهل. يقول البائع إن لديه تشكيلة مميزة من ماركة لم أسمع بها قط. يُريني إياها، وأنا أفكر في مفهوم ربطة العنق: يبدو أن معظم ثيابنا نشأت في أوساط نبالة أوروبية معقدة، تعقيدات لا معنى لها ولا مغزى.

أغادر إلى محل الألبسة المجاور. آه، هنا أتمنى لو كان بيدي المال. أحب الكنزات الصوفية الكبيرة «السادة» الراقية بألوانها الغريبة الدافئة: أحمر دافئ كدم متخثر، أزرق رائق كبحيرة متحفزة، أخضر نابض كعريشة ممتلئة، السعر 450 يورو. أحذية بسيطة «كاجوال»: من 300 يورو إلى 2400 يورو. حزام جلدي بـ 600 يورو، آخر لطيف بـ 80 يورو.

أتابع جولتي: كافيار، هذا الشيء الذي جربته مرة واحدة ولم أفهم ماهيته؛ ديودورانت بـ 140 يورو؛ شوكولا غريبة بأشكال غريبة ومذاق أغرب؛ أنواع عجيبة من الدخان لم أسمع بها؛ زجاجة كونياك بـ 4500 يورو.

أصل «اللونج» الذي يقف على بابه شخص شديد التهذيب والأناقة: ناد للأغنياء، ممنوع دخوله إلا لمن يحمل بطاقة عضوية: أولئك الذين يطيرون باستمرار قد يرتادونه: الأكاديميون الذين يعقدون مؤتمرات متشابهة مملة في كل بقعة على الكوكب، ورجال الأعمال، والجواسيس، وممثلو الأمم المتحدة ووزارات الخارجية والدبلوماسيون، وأبطال وبطلات الرياضة، والمخابرات من كل أصقاع الأرض، والناشطون والناشطات، وموظفو المنظمات غير الحكومية، ومشاهير الفنانين والكتاب، وتجار العملة والمخدرات والأسلحة.

أجلس قرب بوابتهم على كرسي مريح، أراقب أغنياء من القارات الخمس، يدخلون ويخرجون، متذمرين ضجرين مستعجلين، وأنا بكسل أتمدّدُ على كرسيّ حديديّ بارد غير مريح، محاولاً ألا أغفو.

فجأة، يوقظني صوت عال ضاحك هادر، ويسحبني من يدي إلى النادي. يقف موظف الاستقبال احتراماً للنجم المصري وزوجته الساحرة: فؤاد المهندس وشويكار يدخلان بصخب وعنف، لتبدأ موسيقا راقصة تقلب كيان النادي الممل رأساً على عقب.

على خلفية لامعة بما يزين به «كليمت» لوحاته من ديكورات ذهبية وطبيعية متداخلة، تتألق شويكار: في أمكنة شغَلَتها أميرات ونبيلات أوروبيات، تتجلى نجمتُنا بعنفوان ربّاني، وتستبدل بشحوبهم الفاجر عفويتها وضحكاتها العالية.

تغني بلؤم مَرِح، «اليابانية كنت أنا، والباريسية برضو أنا».

يرقصان على نغمات القلب الغاوي، ثم يشيران إليَّ كي نخرج. يفتح المهندس باب البهجة، لنجد أنفسنا في الأكروبوليس اليوناني، وجمهور غفير يصفّق لشويكار. تتنطوط شويكار على خشبة مسرح أثرية، وعاشُقها المرح قصير القامة يتبعها ويجرّني وراءه، وأنا مأخوذ بفرح لا يلوّثه حتى حربُنا السورية الطويلة.

يشتعل الجمهور تصفيقاً عندما تصل إلى المقطع العظيم القائل:

«قليل الأصل يسيب الأصل وياخد الصورة».

ثم، وبشكل مباغت تماماً، تشير شويكار إليّ، لينفجر الجمهور بضحك مجنون.

بعدها مباشرةً، يضرب المهندس بكفيه، لأجد نفسي في سينما الشام في دمشق، أنا والثنائي الساحر نجلس لنحضر فيلم «أن تعيش» للمخرج الصيني زانغ ييمو.

يهمس المهندس، «شاهدت الفلم أكثر من عشر مرات، وما زلت أحنّ إلى شويكار وضحكتها بعد كل مرة».

يقبّلُ يدها بولع، وهي تضحك بدلع.

تقرص خده، «يا واد اختشي».

مع نهاية الفلم، نصعد الخشبة، وندخل منزل البطل الصيني الذي يُعدُّ الشاي في المشهد الأخير من الفيلم: يصافح الممثلون وطاقم العمل الثنائي بمحبة ويعبرون عن إعجابهم بأعمالهم. تفتح شويكار باب الدهشة على يسار الخشبة، ونخرج إلى حفل هائل الحجم في ملعب كرة قدم، مع عشرات آلاف المتفرجين: شاكيرا تغني وتتمايل؛ تدخل شويكار لتسخر من رقص شاكيرا الشرقي الأخرق. فؤاد يتبع زوجته ليرقصا التانغو على عتبات زجاجية ويتسلقا سلالم كريستالية تعلو وتعلو باستمرار.

 قبل أن يختفيا في السماوات الإلهية الغامضة، ترمي شويكار إليَّ بجواز سفر ديبلوماسي ألماني.

أفتحه بلهفة: على صفحته الأولى صورة شخصية لغياث مطر، بالأبيض والأسود، تشعّ فيها ابتسامته الواثقة الصادقة السرمدية.

أستيقظ مرعوباً، عرقٌ باردٌ يبلّل جبهتي وتنفّسٌ ثقيل. أضمّ حقيبتي الصغيرة إلى حضني. لو سُرِقَت أوراقي، لأمضيتُ العمر هنا، محروماً من رؤية ابني وزوجتي. فأنا لا أثق بأحد، لا بالألمان، ولا بالدنماركيين، ولا بالاتحاد الأوروبي، ولا بتركيا، ولا بإخوتنا العرب. إن فقدتُ أوراقي، قد يحبسوني لسنين، أو قد يسلمونني للنظام كي يمسح بالأرض البقية الباقية متناهية الصغر من كرامتي.

أمشي نحو المقهى، وفيه شاشة كبيرة صامتة، يظهر عليها ترامب في مؤتمر صحفي. يتحرك السيد الرئيس بطريقة بلهاء تماماً: تعابير وجهه مقززة. حماقته الصارخة تجعله أضحوكة: ترامب يتحرش بالنساء، ترامب يرفض اللاجئين، ترامب يدمر البيئة ومستقبلنا البشري، ترامب يقضي على الأونروا؛ ولكن ترامب منتخَب ويمثّل شعبه، في أقوى وأعرق بلد ديمقراطي. أشعر بالحزن على الأشقر الأهوج: يهاجمه الناس بشراسة وحقد على الرغم من أنه لم يرتكب جرائم حرب، ولم يخرّب بلداناً في حروب خارجية صفيقة ومؤامرات وضيعة عالمية، كما فعل أسلافه الرؤساء المحترمون جداً. يختفي من الشاشة، لتظهر أخبار عن داعش.

أشرب قهوتي، محاولاً ألا أفكر بالوحدة. المطارات تستدعي الوحدة، بالضرورة. ومحاولات عدم التفكير بالوحدة تنتهي دوماً بانتصارها الساحق: يكاد المرء يبكي بعد كل معركة يخسرها أمامها. أفكر بأنني يجب أن أقبل هزيمتي، وأن أحب الوحدة كما أحب العزلة. ينقذني شجار عائلي على الطاولة المجاورة. أب يوبخ ابنه المراهق بحدّة. يتكلمان بلغة غريبة، من أوروبا الشرقية ربما.

يرد الابن بعنف، ثم يلتفت إليّ:

«عدي، امشي معي على المحل يلي فينا ندخن فيه».

أرافقه، بتلقائية تفاجئني.

يصرخ الرجل خلفنا، بما أعتقدُ أنه شتائم تتناول أهلنا.

ندخل المدخنة المقرفة؛ يعطيني سيجارة، ويصمت.

«ما عرفتني؟ أنا فخري».

المرة الأخيرة التي التقيتُ فخري كانت في سنتي الجامعية الأخيرة. كُنّا أصدقاء مقربين جداً في المدرسة الثانوية، ثم افترقت دروبنا تدريجياً.

توفيَّ والده قبل أشهر، كما أخبرني صديق مشترك. بحثت عنه على الفيس ووجدته، ثم طلبت رقمه وكلّمته مطولاً.

فخري لاجئٌ في ألمانيا. مات أخوه الأكبر في معارك دير الزور، كان عقيداً في جيش النظام. أخته في السعودية مع زوجها. توفي أبوه وحيداً في دمشق. سرطان. يبكي على الهاتف، يبكي بحرقة. لم يتح له الوقت كي يودّع أباه. يقول إنه ترك سوريا هرباً من الخدمة العسكرية. بعد مقتل أخيه فكر بالعودة، ولكنه لا يريد أن يأخذ أولاده الاثنين من المدارس الألمانية إلى جهنم السورية.

كل هذا لا يعنيني. كنت أريد أن أسأله هل تكلم مع أبيه عما حدث؟ هل تصالحا؟ أم تركا الحياة تأخذ مجراها، هكذا، كما نفعل جميعاً؟

في المطار، تشجّعت، وسألتُ شخصه العائد من الماضي:

«بتتزكر وقت هربت من البيت؟».

نظر إليَّ بعينين مرهقتين، وبابتسامة آسرة.

«لأ، ما بتزكر شي».

أنهى سيجارته وغادر.

يومها طرق بابي مساءً. كان يردد «ابن الكلبة، ابن الكلبة كسرلي ضهري». قال إنه ترك البيت، وأرسلني في مهمة صعبة لأشتري “سيمو”، وهو دواء للسعال كنا نشربه فنتخدّر لساعات. الصيدلية التي كانت تبيعنا حُبس صاحبها بسببنا. أجريت اتصالات عديدة لأجلب قارورتين. نصف قارورة لكل فرد من الشلة.

في مكان معزول في حديقة هادئة، أرانا ظهره: آثار حزام جلدي عميقة، أزرق قرمزي كخوخ شهيّ. ضربه أبوه بسبب استدعائه إلى المدرسة للمرة العاشرة على خلفية شغب قمنا به. خاف الأب على سمعته، على مستقبله المهني. لا يعرف كيف يتصرف، ثم قال له إنه لا يريد أن يراه.

ترك البيت، مطروداً من جنته.

لا أذكر كيف عاد إلى بيته بعد ذلك.

أجلس محاطاً بدخان يعمي القلب، متأملاً الماضي، والمراهق الذي يتكلم مع أبيه بندّية كاملة تقريباً.

كيف تموت الصداقات؟ المراهق الغريب اليوم كان أقرب إليَّ من اللاجئ الذي كلّمته ولم نجد ما نتكلم فيه، إلا الذكريات. لم يبقَ لي أصدقاء، كلهم أخذتهم هموم الحرب مني، أو أخذتني منهم. والاكتئاب، بالطبع. لم أكتسب أصدقاء جدد في سنوات الحرب هذه. لا تتيح الحرب هذه الفرصة، على الرغم من أنها تفسح المجال للتعرف على الشر والخير، والإيثار والغرور والتضحية والحماقة واقتناص الفرض بنذالة والتسلق والكرم غير المحدود والزهد الصادق. ولكنها لا تُعنى بالصداقة.

لا تنمو في المنافي صداقات جديدة، والثورات المهزومة تنحر الصداقات القديمة كما تنحر الأمل.

أمشي إلى ركن الطعام، محتاراً في اختيار وجبة المساء. أصبحت أعرف جغرافية المكان وأبعاده وتعرجاته جيداً: أعرف زواياه وتوزع دورات المياه والمطاعم والمداخل والمخارج، مآخذ الكهرباء والأنترنت، الكراسي المريحة وغير المريحة، الأماكن الفارغة والأماكن المزدحمة. يبتسم الباعة لي بتحبب، وأبتسم لهم. تقلصت غربتي، وبرعمت الألفة. كما يحصل عندما تنتقل إلى مدينة جديدة أو بلد جديد. تدريجياً، تعتاد المجهول، ليصبح معروفاً. أعرف هذا الشعور جيداً: خبرته في أيامي الأولى في اسطنبول، في نوريتش، في كوبنهاغن، في مالمو. ولكن ما أن أعتاد المكان، حتى تحملني المقادير إلى مكان آخر. أفكّر في تعبير شعري يصف حال الترحال الدائم هذا: «كل مدينة مطار».

أختار مكاناً يبدو لي محلياً ألمانياً: أبتعد بحذر عن «البراندز» والمطاعم الشهيرة، لأنني يساري غاضب أحارب الرأسمالية وتجمُّع رأس المال في أيدي الشركات الكبرى. أندم بعد دقائق. ألعن ماركس وإنجلز وكروبوتكين وغوركي وصادق جلال العظم ورياض الترك والجبهتين الشعبية والديمقراطية وناظم حكمت. «يعني معليش، الأكل زبالة بألمانيا وبريطانيا والدنمارك والسويد». حتى سندويتش أو سلطة لا ينجحون فيها. كان عليَّ أن آكل ماكدونالدز وأريح رأسي.

يأتي الناس ويذهبون: تزدحم إحدى البوابات، لتعود وتفرغ تماماً. يغادر آخر الموظفين.  تبقى وحدك تتأمل الفراغ: هنا كان طفل يبكي، وأمه تهدهده بحنان؛ مسنٌّ يمشي على مهل، مستفسراً عن شبكة الإنترنت من مراهق بشعر أزرق عجيب؛ شباب يضحكون بصخب؛ عشرات الموبايلات تسلي أصحابها وتطمئنهم؛ مجلات سخيفة يقلبها الناس بملل، تملؤها صور أجساد نساء ورجال مثيرين جداً؛ وانتظار لا يطول يجمع الناس في ردهات الملل. كلهم سافروا: طاروا في السماء. عبروا التفتيش المحكم. أخذوا مللهم وتناقضاتهم ونقائصهم واحلامهم، وغادروني.

راقبتُ آخر الصاعدين، رجل وسيم ببدلة جميلة وربطة عنق ملونة يقرأ جريدة باسترخاء. يخبرني شيطاني بأن مصيري معلّق بما سيفعله بالجريدة: إن أخذها معه، لن أتعرض لتفتيش مضاعف عند صعودي الطائرة. إن لم يأخذها، سيذلونني مرة أخرى، وقد أخسر الرحلة.

يتردد، يحملها بيده. يضرب ركبته بها. يتعلق قلبي بحركة يده الضجرة. يقف والجريدة في يده. أتنفس الصعداء بسعادة. يمشي خفيفاً، ثم، وكأنه يقصد تعذيبي، يقذف بها على الكرسي.

اتجهتُ إلى طائرتي متشائماً مرتجفاً، متفلسفاً عن التشاؤم وأسراره: في كتاب علم الغيب للفيلسوف الروماني شيشرون، يعرض وجهتيّ نظر متناقضتين: الأولى تدعم الإيمان بالنبوءات والغيب، والثانية ترفضها. وجهة النظر الأولى مدعومة بكثيرٍ من الأدلة العقلانية.  صفوة العقلانيين يؤمنون بالترهات: سقراط وأفلاطون والرواقيون وغيرهم، ومعظم الفلاسفة والمفكرين المسلمين والمسيحيين. انتشر التنجيم والتطيّر أيام البابليين، مترافقاً مع الخطوات الأولى للعلم. وساد بقوة غير مسبوقة مع ما سمي عصر النهضة بحسب الغربيين البيض. الثورة العلمية رفضت التنجيم بتعال: سقط الإنسان وأساطيره الدينية عن موقعه المتميز في الخليقة: الأرض كوكب صغير، كما يقول سامي كلارك في أغنية غرانديزر الشهيرة، في ماكينة كونية لا تأبه بنا. ترافقَ السقوطُ مع آمال صادقة في خلق عالم أفضل: لم يلجأ عقلانيو التنوير، والنهضويون العرب، إلى التنجيم والتطيّر، بل حاربوهما بشدة: كلهم كانوا فاعلين في تغيير العالم، مليئين بآمال كبيرة عظيمة؛ لم يحتاجوا إلى الخرافات المعقلنة. ولكن تكذيب التنجيم ليس مرتبطاً بالثورة العلمية: أبيقور، والمعري، وصاحبنا شيشرون رفضوا التنجيم والتطيّر. أمشي نحو بوابة الطائرة، لترتجف يدي دون أن أستطيع التحكم بها. أفلسف التنجيم والتطيّر، بدون فائدة: فالمسافر الغريب رمى بالجريدة، رماها بخفة وتلقائية: هكذا كأن مصيري لا يعنيه في شيء، كأننا لسنا إخوة في البشرية، كأن إذلالي والقبض عليَّ وتعذيبي أمر عادي لا يخصه.

أُخرج من جيبي جواز السفر وبطاقة الطائرة، لأجدهما تحولا إلى ورقة بنية قديمة مهترئة. أفتحها لأقرأ ما فيها:

«اقرأ التميمة الأولى سبع مرات، والثانية سبع عشرة مرة، والثالثة سبعاً وسبعين مرة، وستجد ما تبحث عنه بإذن الله تعالى.

التميمة الأولى: 

السفينة كبيرة؛ سايقها الشيفور
هاد الغبينة وفيها أنا مضرور

التميمة الثانية:

واحنا النهار ده سوا وبكرا حنكون فين؟ 

التميمة الثالثة:

خافي من رب السما

وحدي لا تخليني

….

الوصفة مجربة 

شويكار»

أتجه إلى الطائرة بتردد. على الباب، رجل أمن ينظر إليَّ بحقد.

أردد التميمة الأولى سبع مرات.

يختفي رجل الأمن.

أردد التميمة الثانية سبع عشرة مرة.

تختفي البوابة، والمسافرون، والموظفون، والطائرة.

تخفتُ الأضواء تدريجياً، كل الأضواء: أضواء الطائرات، والمطارات، وأعمدة الإنارة في فرانكفورت، ونور الريح، وشعلة الشعر، والقمر أيضاً.

يحيطني التيه والوحدة والفقر والحزن والحنين والقلق.

أغرق في ظلمة كاملة مطلقة.

أردد التميمة الاخيرة، سبعاً وسبعين مرة، لألمح في النهاية بصيص نور ضعيف غامض، يحمله طائري الذي يحجل على الأرض، محاولاً النهوض مدة طويلةً، مدمّى معفّراً، صابراً مثابراً مجاهداً، في عتمة لا تتبين فيها وجهته القادمة، ولا استراحته المقبلة…