لطالما تجاوزت الرياضة ميادينها وحلباتها، فاقتحمت ذواتنا واستفزّت بُنانا الفكرية. لكن هذه تُعَدُّ حالة طبيعية للتفكير الإنساني، لأن الإنسان العاقل (Homo sapiens) هو أكثر الكائنات الحية قدرةً على تجميع المعلومات المبعثرة وتقنينها ضمن أنماط (patterns) معينة، تستقيم تارةً مع الواقع التجريبي البحت (علوم الطقس والمناخ، العلوم الطبية، العلوم الفيزيائية…)، وتارةً تستجيب لهواه العاطفي (التطيّر، النحس، السياسة…).

وفي حلبة فنون القتال المختلطة  (MMA)، أثار المقاتل الروسي (ذو الأصول الطاجكستانية) حبيب نورماغوميدوف مشاعر النخوة لدى المتابعين القدماء والجدد، حين انتصر على المقاتل الإيرلندي كونور مكغريغور في UFC 229 بعد حرب إعلامية ضروس، امتاز فيها حبيب بالهدوء «الممل»، وأظهر فيها كونور «تهريجاً» مبتذلاً. هذا ظاهر المعركة، ولكن ما بطن منها يخفي العديد من الترسبات التي أثارها هذا القتال. فكان حبيب يمثل الإسلام الهادئ المعتدل الذي لا يردّ على الإساءة بأختها، ثم ينفجر في حالة غضب، وكانت هسترة كونور بخطابه المستفزّ إلى حدّ العنصرية تعبيراً عن تعالي الرجل الأبيض، وترجمةً لبعض الأصوات الأوروبية اليمينية المتطرفة.

كلّ trash talk يخفي وراءه جانباً من الحقيقة

يُعدُّ كونور مكغريغور ظاهرة إعلامية في عالم فنون القتال المختلط، إذ يتابعه 27.8 مليون شخص على حسابه على إنستغرام ولديه 7.46 مليون متابع على تويتر. وتثير منشوراته الجدل والإعجاب حين يتباهى دون خجل بقدراته البدنية وتحمّله لأقصى أنواع التمارين، ناهيك عن عرضه المتواصل لثرائه الفاحش.

ولكن ما يُعرَف أكثر عن كونور في الأوساط القتالية، إطنابه في التقليل من شأن منافسيه بطريقة عنيفة، سواء كان ذلك في وسائل التواصل الاجتماعي أو في التصريحات الصحفية. وتمتاز تلك التصريحات بنظرة فاشية عنصرية، تبدأ بالهجوم على شخص المنافس ووصفه بالجبن والضعف، حتى ينغمس في جنسيته وعرقه ودينه.

وتتعدد الأمثلة، مثل تهكمه على الملاكم السابق الأمريكي أسود البشرة فلويد مايويذر في ندوة صحفية قائلاً: «ارقص لي يا ولد… ارقص لي يا بنيّ…»، متناسياً بذلك التاريخ المقيت لتلك الجملة العنصرية.

ولم يكتف بالعنصرية ضد السود فقط، بل هدَّدَ المقاتل البرازيلي جوزي ألدو قائلاً: «لقد تغيّر الوقت الآن، لو كنا في زمن سابق لهجمتُ على الأحياء القصديرية في ريو دي جانيرو على صهوة حصان، وقتلتُ كل إنسان لا يصلح للعمل، لكنني الآن سأكتفي بضربه في الحلبة».

وفي المعركة الأخيرة، تهجّمَ على حبيب نورماغوميدوف في الندوة الصحفية حين حاول إجباره على شرب كأس من الويسكي (النوع الجديد الذي يروج له كونور) متجاهلاً بذلك دين الروسي الذي لا يسمح له بالشرب. ثم انطلق نحو أحد مرافقي حبيب ونعته بـ«الإرهابي المجنون» محاولاً ربط ذلك النعت باسمه (علي عبد العزيز).

وفي كل مناسبة، كان كونور ينفي عنصريته بعد موجات الاستهجان، فيتعلّلُ بجهله بأصل الوصف أو سياقه، ويفسّرُ تصرفاته بأنها نابعة من ثقافة القتال وصناعة العروض. وكاعتذار منه، كان تارة يصرّح بأنه من المستحيل أن يكون عنصرياً، مستعملاً حجة أكثر عنصرية حين قال: «أنا نصف أسود، من صرة بطني حتى أسفل قدميّ»، وتارة أخرى حين قال إنه متابع شغوف لموسيقى الراب.

من الصعب تجاهل أن ما يصدر من مكغريغور من تصريحات يعكس بصورة مباشرة نظرته الأوروبية البيضاء للمجموعات البشرية الأخرى. فكأننا بكونور يريد بسط سيطرته على فنون القتال المختلطة بالنفخ في أصوله الأوروبية البيضاء، واحتقار المجموعات البشرية الأخرى متهجماً على عرقها ودينها ومستواها الاجتماعي. لا يخلو التاريخ من أمثلة على نوع هذا الخطاب العنصري، وهو ليس معزولاً في الوقت الحاضر عن هذا الخطاب لدى طبقات سياسية عديدة وحركات شعبية متنوعة.

وكانت  العبارات التي يستعملها كي ينكر عنصريته تندرج ضمن مجموعة الحجج من قبيل «أنا لست عنصريا ولكن»، التي نجدها دائماً حاضرة لدى الزعماء السياسيين المنتمين لليمين المتطرف الأوروبي وأنصارهم من الحركات العنصرية، التي تختبئ وراء «اللاصواب السياسي» (Politically incorrect)، فيؤجج هذا الخطاب كمية من الحقد والإحساس بالازدراء لدى منافسيه، وخاصة مشجعي هؤلاء المنافسين.

الحبيب البطل

لم يكن حبيب نورماغوميدوف معروفاً لدى الشباب العربي قبل الإعلان عن معركته ضد كونور مكغريغور. يعود هذا خاصة إلى كونه لم يدخل في الهسترة الإعلامية التي ينخرط فيها جُلّ مقاتلي الفنون المختلطة كجزء من صناعة العرض. ولكنه أثار انتباه جمهوره المسلم بمظهر المواظب على دينه، وفي الوقت نفسه ذلك الذي يقاتل من أجل فكرة ما.

وأجَّجَ الخطاب العنيف الذي يوجهه كونور في الندوات الصحفية من جهة، وهدوء حبيب من جهة أخرى، مشاعر التماهي مع شخصية حبيب لدى شباب يحلم بأمجاد الماضي ويبحث عن كل ما يمكن أن يعيد له نخوة «العزة الإسلامية».

فلنتخيل معاً مقاتلاً روسياً ذا أصول طاجكستانية يعفي عن لحيته ويحلق شاربه ويوجه سبابته إلى السماء إثر كل انتصار قائلاً: «الحمد لله» (بنطق صحيح وواضح لحرف الحاء). يواجه هذا المقاتل مقاتلاً أشقر الشعر، جسده مغطى بالوشم ويحتسي الويسكي في ندوة صحفية علنية وينعت مرافق حبيب بالإرهابي المجنون.

وكان يوم اللقاء، الذي بسط فيه حبيب سيطرته على القتال، حتى أنهاه بطريقة مُذلّة للمقاتل الإيرلندي الذي استسلم في الجولة الرابعة. كل التهاني الحارة للمقاتل الذي أحسن استعمال نقاط قوته، واستغلَّ نقاط ضعف منافسه كي يفوز. كل التهاني للمقاتل الروسي الذي لم يتأثر باستفزاز كونور المتواصل منذ أول ندوة صحفية، مروراً بحادثة الحافلة في شهر إبريل، وحتى يوم القتال. لا، فللنتظر لحظة… بعد نهاية القتال، انطلق حبيب من الحلبة «المثمنة» وقفز خارجها نحو مدرب كونور وانهال عليه ضرباً. وبعد ثوان، قفز أخ حبيب إلى داخل الحلبة ولكمَ كونور من خلف ظهره. انفجر المقاتل الهادئ الذي غازل محبيه برصانته، والذي لطالما صرّحَ بأنه يريد أن يُرسي مثالاً جيداً للأجيال القادمة من متابعيه. وانطلقت تعليقات المشجعين تبّرر تصرف حبيب، وترجمت ذلك الحقد القديم المتجدد بين الشرق والجنوب «المسلم» من جهة، والغرب والشمال «العنصري» من جهة أخرى.

الصورة الأكبر

لا أدعي من خلال هذه المقاربة، التي تتجاوز رياضة فنون القتال المختلط وصناعة العروض، تفسيرَ ظاهرة الصراع المحتدم بين «الإسلام الأوروبي» المنتشر في أوساط المهاجرين المقيمين في أوروبا و«السكان الأصليين» للقارة العجوز، لكنني أريد الرجوع إلى منطلقات هذا الصراع.

عند البحث في تاريخ اللاعبين نجد أنهما ينحدران من الطبقات المتوسطة في مجتمعيهما، وأنهما تسلّقا سلّم النجومية في عالم فنون القتال بصعوبة وإصرار عميقيْن. وكأننا بالمقاتل فيهما يحاول إثبات وجوده في كل قتال.

«انظروا إليّ، أنا ذلك الطفل الذي تمرّن مع دب في صغره (حبيب). أنا ذلك الشاب الذي اشتغل سمكرياً كي يكسب قوت يومه (كونور). أنا الآن سيد نفسي وصانعها. أنتم لستم إلا منافسين لمكانتي ولمنطقتي المريحة التي خلقتها بنفسي».

وعند دخول هؤلاء المقاتلين تحت أضواء الشهرة المبنية على العروض والأموال، يصطدمون بواقع محيّر مثير للارتباك النفسي. فلو اطلعنا على الإعلانات التي تقوم بها شركة UFC للمباريات بين المقاتلين، نجدها تبني خطاباتها على تهييج مبادئ مثل الكرامة والشرف والشجاعة وغيرها من الأفكار التي تثير المقاتلين والمشاهدين على حد السواء.

ولعل إثارة الجدل تعد من أبرز الاستراتيجيات التي تعتمدها الشركة لزيادة عدد المشاهدات وجني أكبر قدر من المال، فيقعُ المقاتلون في فخّ «العروض»، ويعبّرون عن دفين مشاعرهم التي أتوا محملين بها من حدود تاريخهم وجغرافيتهم. فتنتعش تجارة الرياضة وتدر أموالها بتغذية المشاعر الإنسانية الحقودة الخائفة على مناطقها المريحة (Comfort zones)، فنجد أن هؤلاء المقاتلين الذين تسلقوا السلم الاجتماعي ما زالوا يعبرون عن ترسبات أوساطهم المجتمعية الفقيرة، بل يترجمون تلك الأصوات التي تتعالى من حيث أتوا.

أنا لا أحاول هنا تبرئة أيّ من المقاتلَين، ولكنني أحاول جاهداً تفسير هذا الكم الهائل من خطاب العنصرية لدى كونور، وردود الأفعال العنيفة من قبل حبيب ولو في لحظة قوة وانتصار. في الوقت نفسه، لا أضع نفسي موضع القاضي باحثاً عن «البادئ الأظلم» بين هؤلاء «الممثلين» الذين يُتوَّجَون إثر كل قتال بحزام… وملايين الدولارات. هؤلاء المقاتلون مجرمون أمام القانون ويستحقون العقوبات المسلطة عليهم عند اعتدائهم على كرامة غيرهم، ولكنهم ضحايا أمام نظام كامل مبني على تجارة الصورة.

تنطبق الصورة نفسها على سياق «حرب الحضارات» التي يشهدها العالم اليوم. هذه الحرب التي تنبني على العنف المتبادل بين المهاجرين إلى أوروبا وساكنيها، والتي تغذيها ترسباتٌ عميقةٌ لتاريخ اقتصادي واجتماعي مختلِّ التوازن، وحاضرٌ سياسيٌّ متعجرف.