خلال عملي كمؤرخ مختص في مواضيع الهولوكوست وألمانيا النازية وأوروبا في حقبة الحربين العالميتين، لطالما سُئلت: إلى أي درجة يُشبه الوضع في الولايات المتحدة اليوم ذلك الذي ساد في فترة ما بين الحربين العالميتين وصعود الفاشية في أوروبا؟ يمكنني هنا أن ألحظَ عدة تشابهات مقلقة، واختلافاً واحداً هامّاً، ولكنه مقلق إلى الدرجة ذاتها.
في عشرينيات القرن الماضي، انتهجت الولايات المتحدة سياسة انعزالية في علاقاتها الخارجية، ورفضت المشاركة في المنظمات الدولية مثل عصبة الأمم. شعار «أمريكا أولاً» عَنَى أمريكا وحيدة، فيما خلا ما تعلّقَ بالاتفاقيات المالية، كخطط داوز آند يونغ التي هدفت إلى ضمان أن يقوم حلفاؤنا السابقون «الاستغلاليون» بتسديد قروض الحرب. وفي الوقت ذاته، شلّت التعرفات العالية حركة التجارة العالمية مما جعل عملية تسديد القروض تلك غاية في الصعوبة. كما شهدت البلاد زيادة في التفاوت في الدخل وتركيزاً للثروة في القمة، وعمدَ كل من الكونغرس والمحاكم إلى تجنّب وضع أنظمة تَقَي من المصائب الذاتية للتجارة الحرة الطائشة. كما تبنت الحكومة سياسة تقيّدُ الهجرة كثيراً، هدفت إلى الحفاظ على هيمنة البروتستانت البيض الأنغلوساكسون في مواجهة سيل من المهاجرين الكاثوليك واليهود (وكان هناك العديد من الإجراءات التي تحد من هجرة الآسيويين، كان قد بدأ تطبيقها مسبقاً ما بين العامين 1882 و1917). تركت هذه السياسات جميعُها البلادَ عاجزة عن الاستجابة بشكل بنّاء للكساد الكبير، أو لصعود الفاشية والتهديدات المتنامية للسلام وأزمة اللاجئين في ثلاثينيات القرن الماضي.
يبدو الرئيس ترمب اليوم عازماً على سحب الولايات المتحدة من كامل بنية ما بعد الحرب العالمية الثانية، المكوّنة من اتفاقيات ومنظمات دبلوماسية وعسكرية واقتصادية متشابكة عملت طوال الوقت منذ العام 1945 على حفظ السلم والاستقرار والازدهار. أما تفضيل الرئيس ترمب للعلاقات الثنائية التي يرى فيها منافسات بمحصلة صفرية يربحها على الدوام، ويكون له فيها اليد الطولى، فهو يتداخل مع الإيديولوجيا التي يفضّلها ستيف بانون ومعه ما يدعى باليمين البديل، والتي تدعو إلى دول قومية مستقلة مصابة برُهاب الغرباء، تعمل على إثبات ذاتها من دون أي قيود؛ أي باختصار العودة إلى النظام الدولي ما قبل العام 1914.
لقد أنتجت تلك «الفوضوية العالمية» الحرب العالمية الأولى والثورة البلشفية والكساد الكبير والديكتاتوريات الفاشية والحرب العالمية الثانية والهولوكوست، وهذه جميعها تحديداً الكوارث التي تجنّبها النظام العالمي لما بعد الحرب العالمية الثانية بشكل ملحوظ طوال سبعة عقود.
في إطلاقه التهديدات بشن حروب تجارية مع الحلفاء كما مع الأعداء، فإن ترمب يبرر وضع التعرفات المتصاعدة على حلفائنا بحجة مُخاتِلة تدّعي أن بلاداً مثل كندا تشكّل تهديداً لأمننا القومي. وهو يجمع بين احتقاره المستمر لحلفائنا الديمقراطيين وتقديره العلني للأنظمة السلطوية. إن ثقته الساذجة والنرجسية بقوة دبلوماسيته الشخصية، وإيمانه بمصافحة يجريها مع أناس من أشباه فلاديمير بوتين وكيم جونغ أون، إنما يُذكّرنا بذلك المتعوس نيفيل تشامبرلين (وهو رجل مختلف تمام الاختلاف عن ترمب). ولحسن الحظ فإن الولايات المتحدة لا تستطيع الفكاك بسهولة من ذلك النظام العالمي الذي خلقته بنفسها بعد العام 1945، ويستشعر الحزب الجمهوري وداعموه من رجال الأعمال الخطر الذي يتهدد التجارة الحرة بما يكفي، فيما لم يستكمل ترمب بعد أجندته الخاصة بالانسحاب، ولو أنه قد قام بالفعل بتقدم مذهل في وقت قصير جداً.
وفي جانب آخر من حقبة ما بعد الحرب، يحمل تشابهات كثيرة جداً مع وضعنا الحالي، نتذكر أيضاً انحطاط جمهورية فايمار. منح دستور فايمار رئيسَ ألمانيا المنتخب في العام 1925، بول فون هيندنبيرغ، العديد من صلاحيات الطوارئ بهدف الدفاع عن الديمقراطية الألمانية حال تعرضها لأي خطر محدق. ولكن بدلاً من الدفاع عن الديمقراطية، أقدم هيندنبيرغ على حفر قبرها بيديه، وهو استخدم تلك الصلاحيات بداية كي يدمر القواعد الديمقراطية، ومن بعدها كي يتحالف مع النازيين من أجل إنشاء حكم سلطوي بدلاً عن الحكومة البرلمانية. بدأ هيندنبيرغ باستخدام صلاحياته الطارئة في العام 1930 عبر تعيينه لعدد من المستشارين المتتالين الذين حكموا عبر المراسيم بدلاً من الاعتماد على الأغلبية البرلمانية، التي أصبحت مستحيلة التحقق بشكل متزايد نتيجة حدوث الكساد الكبير وتفاقم الاستقطاب في السياسة الألمانية.
بسبب الانكماش المستمر للقاعدة الداعمة للمحافظين التقليديين، الذي جعل من الاستحالة بمكان تنفيذ مراجعتهم السلطوية للدستور، لجأ هيندنبيرغ واليمين القديم، نهاية الأمر، إلى عقد صفقة مع هتلر ونصبّوه مستشاراً. وفيما كانوا يعتقدون أن باستطاعتهم السيطرة على هتلر في النهاية بينما هم يتمتعون بفوائد قاعدته الشعبية، حصل المحافظون بادئ الأمر على مكافأتهم عبر تحقق أجندتهم: إعادة التسلح بوتيرة محمومة، حظر الحزب الشيوعي، تعليق حرية التعبير والصحافة والتجمع أولاً ومن ثم تعليق أعمال الحكومة البرلمانية نفسها، إجراء تطهير في جهاز الخدمة المدنية وأخيراً إلغاء النقابات المستقلة. ومن نافلة القول إن النازيين تابعوا عملهم بعدها متجاوزين تلك الأهداف التي تشاركوها مع حلفائهم المحافظين، الذين أصبحوا عاجزين عن كبح جماح النازيين بأي طريقة ملموسة.
إذا كان للولايات المتحدة من شخص سيعتبره المؤرخون يوماً على أنه لحّاد الديمقراطية الأمريكية، فلسوفَ يكون ميتش ماكونيل، الذي أجّج الاستقطاب المفرط للسياسة الأمريكية من أجل ضرب فعالية رئاسة أوباما وشلِّها كُلّما استطاع إلى ذلك سبيلاً. وكما كانت الحال مع المأزق البرلماني في فايمار، فإن مأزق الكونغرس في الولايات المتحدة أضعفَ الاحترام للقواعد الديمقراطية، مما سمح لماكونيل أن يدوس عليها أكثر. وما من تعبير عن تلك الحلقة المفرغة أوضح من تحطيم السوابق التقليدية في شأن التعيينات القضائية. حفزت الإعاقة الممنهجة للتعيينات في فترة رئاسة أوباما الأولى الديمقراطيين على نبذ المماطلة في جميع المواضيع، فيما خلا ترشيحات المحكمة العليا. بدوره أدّى رفض ماكونيل القاطع، وغير مسبوق، ترشيح ميريك غارلاندميريك غارلاند قاضٍ ورئيس محكمة الاستئناف في دائرة مقاطعة كولومبيا رشحه باراك أوباما لشغل منصب قاضٍ في المحكمة العليا بدلاً من القاضي أنتونين سكاليا المتوفي. لدفع ماكونيل نفسه للتخلي عن المماطلة في ترشيحات المحكمة العليا من أجل إتمام «سرقة» مقعد أنتونين سكاليا وتثبيت نيل غورساتشنيل غورساتش قاض وهو مرشح دونالد ترمب لذات المنصب السابق في المحكمة العليا وقد شغله في نيسان/أبريل 2017.. واليوم نشهد مرة أخرى تسييساً مفرطاً في عملية الترشيح القضائي في جلسات استماع كافاناوبريت كافاناو مرشح ترمب الآخر لشغل كرسي القاضي المتقاعد أنطوني كينيدي في المحكمة العليا والذي اتهمته الأستاذة الجامعية كريستين فورد بالاعتداء الجنسي عليها في العام 1982..
ويمكن لنا أن نتوقع أنه من الآن فصاعداً لن تجري أي تعيينات قضائية هامة ما لم تكن كلا مؤسستيّ الرئاسة والكونغرس في يد الحزب نفسه. لقد ضمن كل من ماكونيل والكونغرس المذموم والمعطل اليوم هيئة قضائية مذمومة ومعطلة على نحو متزايد، فيما يقبع التوازن الدستوري بين سلطات الحكومة الثلاثة تحت خطر داهم.
مهما يكن هنالك من تحفظات سرية لدى ماكونيل وزعماء الجمهوريين التقليديين الآخرين تجاه شخصية ترمب وأسلوب حكمه وإدانته المحتملة في قضايا جرمية، ولكنهم يبتهجون في العلن لما حصلوا عليه من مكافآت جرّاء تحالفهم معه ومع قاعدته: اقتطاعات ضريبية هائلة للأثرياء، إلغاء التشريعات المالية والبيئية، ترشيح اثنين (حتى الآن) من القضاة المحافظين إلى عضوية هيئة المحكمة العليا، والكثير غيرها من التعيينات القضائية للمحافظين، وتخفيضات ملموسة في برنامج الرعاية الصحية الذي تدعمه الحكومة (ولو أنه لم يصل بعد إلى حد الإلغاء الكامل لبرنامج أوباماكير، وهو ما يأمله المحافظون). وكما هي الحالة مع حلفاء هتلر المحافظين، لطالما تفاخر ماكونيل وباقي المحافظين بما جنوه من عوائد بفضل استثمارهم في ترمب. أما توليفة الأحداث التي بدأت مع امتهان ترمب لنفسه أمام بوتين في هلسنكي، وعملية فصل العائلات المشينة على الحدود في تجاهل تام لقانون اللجوء الأمريكي (إذا ما تجاهلنا المبادئ الإنسانية الأساسية وادعاء الحزب الجمهوري الصلب بأنه المدافع عن «القيم العائلية»)، وأخيراً توريط مايكل كوين لترمب في قضية مخالفات جرمية لقانون تمويل الحملات الانتخابية، كل هذه الأحداث لم تجعل ولاء الحرس القديم في الحزب الجمهوري يهتزّ، ولذلك قلّما نرى أي إشارة إلى أنه حتى تقريرٌ مدوٍ يدين ترمب، يصدره المحقق الخاص روبرت مولر، سوف يفسخ ذلك التحالف.
لكن الأثر المحتمل لتقرير مولر يشير بالفعل إلى تشابه عجيب مع فترة ما بين الحربين العالميتين، فيُذكّرنا كيف أدّت الانقسامات المسمومة في السياسة المحلية إلى قلب كُليٍّ للتوجهات السياسية السابقة. يعود وصول كل من موسوليني وهتلر إلى سدة الزعامة – إلى حد بعيد – إلى المواجهة التي جرت بين تحالف اليمين من الفاشيين والمحافظين من جهة واليسار المتخبط والمنقسم من جهة أخرى. لم تتعاون الأحزاب الكاثوليكية (بوبولاري في إيطاليا وتسنتروم في ألمانيا) والليبراليون المعتدلون والحزب الديمقراطي الاجتماعي والأحزاب الشيوعية فيما بينها بشكل كاف من أجل الدفاع عن الديمقراطية. وقد وصل انعدام التعاون ذلك في ألمانيا إلى مدى أقصى من العبثية مع الشيوعيين، الذي قللوا من شأن النازيين معتبرين إياهم مجرد تحدٍّ انتقالي، فيما كانوا يركزون جهدهم على مواجهة الحزب الديمقراطي الاجتماعي الذين أطلقوا على منتسبيه لقب الفاشيين الحمر، واعتبروهم التهديد الحقيقي للنصر الشيوعي على المدى الطويل.
وبقدوم العام 1936 كانت القوى الديمقراطية في فرنسا وإسبانيا قد تعلمت درساً قاسياً جرّاء عدم توحدها في مواجهة التهديد الفاشي، وحتى ستالين نفسه عمد إلى عكس سياسته المنكوبة وأصدر توجيهاته إلى الشيوعيين كي يضموا قواهم إلى التحالفات الانتخابية للجبهة الشعبية. أشارت التوقعات إلى فوز الجبهة الشعبية في فرنسا وتشكيل حكومة جديدة برئاسة الرعب مجسداً: ليون بلوم الاشتراكي واليهودي. قاد ذلك الحدث كُثُراً من اليمين إلى إطلاق شعار «فليكن هتلر بدلاً من بلوم»، وليكن فوز الفرنسيين ممن يسيرون على خطى الديكتاتور النازي وعدو فرنسا القومي التقليدي عبر الراين، بدلاً من المحافظة على الديمقراطية الفرنسية في الداخل والاستقلال الفرنسي في الخارج بزعامة يهودي اشتراكي. أنقذ فوز الجبهة الشعبية في العام 1936 الديمقراطية الفرنسية مؤقتاً، ولكنه أدى إلى هزيمة فرنسا منقسمة ومحبطة في العام 1940، وتبعه تعاون حكومة فيشي مع ألمانيا النازية فيما كانت تتابع بحماسة ثورتها السلطوية المضادة.
وفي مواجهة تحقيقات مولر حول التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية وتواطؤ بعض أعضاء حملة ترمب الانتخابية، أتى دفاع ترمب ومناصريه الأوليّ مزدوجاً: «ما من تواطؤ» على الإطلاق، وادعاء التدخل الروسي إنما هو «خدعة». أما دفاعهم التالي فقد أتى أيضاً مزدوجاً: «التواطؤ ليس جريمة»، أما التدخل الروسي الذي أصبح الآن مثبتاً فلا أثر يذكر له. وحتى إذا ما وجد تقرير مولر أنَّ تواطؤ حملة ترمب مع الروس يشكل بالفعل «مؤامرة جرمية» بحسب تعريفها القانوني، وأنَّ التدخل الروسي الهائل يجعل من القول إن لا أثر له ادعاءاً كاذباً بشكل مطلق، فأنا أعتقد أن العديد من الجمهوريين سوف يلجؤون، ضمناً أو صراحةً، إلى دفاعهم الثالث: «فليكن بوتين بدلاً من هيلاري». ويبدو أنه ما من شيء لا تخدمه شيطنة هيلاري كلينتون كمبرر كاف، أما فكرة أن رئاسة ترمب المدينة بالتحقّق لبوتين تُعَدُّ أفضل من كابوس فوز كلينتون، فسوف تشير إلى إعادة التموضع الأخيرة للحزب الجمهوري باتجاه اللّاليبرالية في الداخل، والخضوع لطاغية في الخارج.
لا يجب أن تطمس هذه التشابهات جميعها – واقعية كانت أم متوقعة – اختلافاً هاماً بين انهيار الديمقراطية في فترة ما بين الحربين العالميتين ووضعنا الحالي. رسمَ سينكلير لويس في روايته، لا يمكن أن يحصل هنا، المنشورة في العام 1935 استيلاءاً نازيَّ النمط على السلطة في الولايات المتحدة نفذّته قوات شبه عسكرية تابعة للرئيس الشعبوي المنتخب حديثاً، وقامت فيه باعتقال عدد من أعضاء الكونغرس، وإنشاء ديكتاتورية مترعة بمفوضيّ الحكومة المحليين مُطلَقي الصلاحية، ومعسكرات الاعتقال، ومحاكم الأمور المستعجلة، والرقابة الشديدة، بالإضافة إلى اعتقال جميع المعارضين السياسيين الذين فشلوا في الهروب إلى كندا. لقد كان استحضار المثال النازيّ مفهوماً يومها، وهنالك العديد من مظاهر الانهيار الديمقراطي في فترة ما بين الحربين التي تبدو متشابهة بشكل غريب مع التوجهات السائدة اليوم كما أشرت مسبقاً. ولكن الديكتاتورية النازية والحرب والمجازر التي تبعت سقوط ديمقراطية فايمار لا تبدو مفيدة جداً في فهم الاتجاه الذي نذهب نحوه اليوم. ولسوف أجادل أن التوجهات السائدة تعكس تباعداً هاماً عن ديكتاتوريات ثلاثينيات القرن الماضي.
تفاخرت الحركات الفاشية في تلك الحقبة جهراً بأنها لاديمقراطية، فيما تبجّح الزعماء في إيطاليا وألمانيا بأن أنظمة حكمهم كانت شمولية. أما التجلي الأكثر أصالة للموجة الحالية من التوجهات السلطوية فهو يظهر في حقيقة أن إنشاء الديكتاتوريات اللاديمقراطية التي تطمح إلى الشمولية ليس ضرورياً من أجل القبض على السلطة بيد من حديد. ولربما تكون التسمية الأكثر صواباً لتلك الأنظمة السلطوية الجديدة هي ذلك المصطلح المخاتل «الديمقراطية اللّاليبرالية». فهنالك رجب طيب إردوغان في تركيا، وبوتين في روسيا، ورودريغو دوتيرت في الفيليبين، وفيكتور أوربان في هنغاريا، الذين اكتشفوا جميعهم أنه يمكن لأحزاب المعارضة البقاء ويمكن إجراء الانتخابات من أجل تأمين ورقة توت الشرعية الديمقراطية، بينما لا تشكل انتخابات كهذه، في الحقيقة، سوى تحدياً هزيلاً لسلطاتهم، كما يجري تحييد قادة المعارضة الذين يشكلون خطورة حقيقية أو التخلص منهم بطريقة أو بأخرى.
وبالمثل، فإن السيطرة التامة على الصحافة وأجهزة الإعلام الأخرى ليست ضرورية، طالما أن هنالك طوفاناً من الأخبار الموجهة والزائفة التي تلوّثُ تدفق المعلومات، إلى درجة تفقد معها الوقائع والحقيقة صلتها بتشكيل الرأي العام. أما الأجهزة القضائية التي كانت يوماً مستقلة، فيجري تفكيكها تدريجياً عبر عمليات تطهير انتقائية، وعبر تعيين الثقات من الموالين سياسياً. وتفتح رأسمالية المحاباة السياسية الطريق أمام تكامل الفساد والإثراء الشخصي وتكافلهما بين زعماء السياسة والاقتصاد. أما القومية الكارهة للغرباء (وفي حالات كثيرة قومية البيض المعادية للمهاجرين صراحةً) بالإضافة إلى منح الأولوية «للقانون والنظام» على حساب حقوق الأفراد، فتعتبر عناصر جوهرية لتلك الأنظمة في سعيها من أجل تعبئة الدعم الشعبي لقواعدها، ومن أجل وَصمِ الأعداء.
لقد أظهر ترمب إعجاباً صفيقاً بأولئك الزعماء الطغاة، وانسجاماً عظيماً مع المعتقدات الأساسية للديمقراطية اللّاليبرالية، ولكن آخرين هم من مهّدوا الطريق في نواح مهمة أيضاً. يبدأ الجمهوريون بحصولهم على تقدم منهجي في انتخاب أعضاء مجلسيّ الشيوخ والنواب، لأن دوائر الحزب الديمقراطي الانتخابية أصبحت مركزة بشكل كثيف في الولايات والمدن الكبيرة. ووفقاً لحساباتي، فإن كل سيناتور ديمقراطي حالي يمثل حوالي 3.65 مليون شخص، بينما يمثل كل سيناتور جمهوري حالي 2.51 مليون شخص تقريباً. وبطريقة أخرى نستطيع التعبير عن تلك المعادلة بالقول إن كل خمسين سيناتوراً – بنسبة تسعة وعشرين سيناتوراً جمهورياً – من الولايات الخمس والعشرين الأقل تعداداً سكانياً يمثلون نسبة تفوق الستة عشر بالمئة قليلاً من كامل التعداد السكاني في الولايات المتحدة، فيما يمثل أربعة وثلاثون سيناتوراً جمهورياً – وهو العدد الكافي من أجل منع تمرير أي تُهم أو إدانة للرئيس في الكونغرس – ولاياتٍ تُشكّل ما مجموعه واحداً وعشرين بالمئة من التعداد السكاني. ومع التلاعب بالتقسيمات الانتخابية وقمع الناخبين الذي يزيد أصلاً من التقدم الجمهوري الممنهج، تشير التقديرات إلى أن على الديمقراطيين الفوز بفارق سبعة إلى عشر نقاط في انتخابات العام 2018 (وهو هامش لا يمكن حصوله إلا عبر «موجة» إقبال انتخابي نادرة الحدوث) وذلك من أجل تحقيق نسب أغلبية ضئيلة في مجلس النواب.
حقَّقَ الديمقراطيون في الانتخابات الرئاسية الخمس التي جرت في القرن الواحد والعشرين فوزاً بأصوات الناخبين أربع مرات، ولكن في حالتين من تلك (أي في العامين 2000 و2016) كانت النتيجة وصول المرشح الجمهوري إلى سدة الرئاسة بما أن المجمّع الانتخابي يعكس، كما مجلس الشيوخ، الوزن الانتخابي ذاته التي تناله الولايات الصغيرة التي غالباً ما تكون جمهورية. وبالعودة إلى تقويض المحكمة العليا للأحكام الأساسية في قانون حقوق الاقتراع (قضية شيلبي كاونتي ضد هولدر)، فإن رفضها تولي النظر بالقضايا الفاضحة الحالية لعمليات التلاعب بالتقسيمات الانتخابية (قضية جيل ضد وايتفورد في ويسكونسين؛ قضية بينيسك ضد لامون في ماريلاند) بالإضافة إلى قبولها مؤخراً بالقانون الذي سنّته ولاية أوهايو في شأن تطهير القوائم الانتخابية (قضية هوستد ضد راندولف إنستيتيوت) إنما يولّد الخشية من أن المحكمة العليا سوف تشرّعُ الأبواب في المستقبل لفيض من العمليات الشائنة في التلاعب بالتقسيمات الانتخابية وقمع الناخبين.
عَمِلَ التدفّقُ غير المسبوق للأموال السوداء في حملات الانتخابات المتنافس عليها بشكل متقارب على تشويه العملية الانتخابية أكثر فأكثر، وجاء قرار المحكمة العليا الذي اعتبر الشركات على أنها أشخاص والأموال على أنها شكل من حرية التعبير (قضية سيتزنس يونايتد ضد إف إي سي) كي يعزز بشكل كبير قدرة الشركات والأفراد الأثرياء على التأثير بالسياسة الأمريكية. إننا نقترب حثيثاً من تلك النقطة حيث قد يظل الديمقراطيون قادرين على الفوز في انتخابات الولاية في الولايات الزرقاءالولايات الزرقاء في أمريكا هي الولايات ذات الأكثرية الديموقراطية الناخبة في الانتخابات الرئاسية. الأساسية، ولكن هذا الفوز سيكون غير ذي صلة بانتخابات الرئاسة أو الكونغرس. أما عيوب ترمب الشخصية وتكتيكاته في استمالة قاعدة ضيقة، فيما هو يضخ الطاقة في عروق الديمقراطيين ويستبعد المستقلين، فيمكن أن تقود بالضبط إلى موجة الإقبال الانتخابي تلك، المطلوبة من أجل تأمين رقابة الكونغرس على الإدارة ومتابعة أعمالها، بالإضافة إلى الحصول على مناصب حكام ولايات ومشرعين بما فيه الكفاية، من أجل البدء بعكس الاتجاهات الحالية لعمليات التلاعب الانتخابية وقمع الناخبين. وهكذا، سوف تكون انتخابات العامين 2018 و2020 ذات أهمية حيوية من أجل اختبار إلى أي مدى وصل تدهور النظام الانتخابي.
يشكل انحطاط العمالة المنظمة مجالاً آخراً استفاد فيه ترمب من الاتجاهات طويلة الأجل التي سادت حتى ما قبل وصوله إلى الرئاسة. كان على هتلر إبطال النقابات المستقلّة في ألمانيا بضربة واحدة من أجل ترسيخ ديكتاتوريته، ولكن ترمب لا يواجه اليوم مشكلة كهذه. في العقود الثلاثة الأولى التي تلت الحرب العالمية الثانية، استطاع كل من العمال والمدراء تقاسُمَ الثروة المتزايدة بفعل النمو في الإنتاجية بطريقة فعالة، ولكن ذلك العقد الاجتماعي انهار منذ سبعينيات القرن الماضي، وتدنت نسب عضوية النقابات وتأثيرها، وركد نمو الأجور فيما تنامى عدم المساواة في الثروة بشكل حاد. عمل انتصار الحاكم سكوت واكر على نقابات القطاع العام في ويسكونسين، وقرار المحكمة العليا الأخير الذي أبطل الرسوم الإجبارية لنقابات القطاع العام (قضية جانوس ضد أي إف إس سي إم إي)، بكل بساطة على تسريع عملية جارية بدأت منذ وقت طويل. كما يشكل الميدان غير المتكافئ الذي تسببت به الزيادة في تأثير الشركات، وتدهور قوة النقابات، بالإضافة إلى وجود جحافل من الناشطين في مجموعات الضغط الممولة جيداً، علامة أخرى تشير إلى اتجاه لاليبرالي.
بدورها تُشكّل إجراءات تحييد الصحافة الحرة والانحسار المطرد لحقوق الإنسان الأساسية سمات أخرى للديمقراطية اللّاليبرالية، جنباً إلى جنب مع اضمحلال القضاء المستقلّ كرقيب على السلطة التنفيذية. وفي هذه المواضيع التي غالباً ما توصَفُ على أنها الحواجز التي تقي الديمقراطية في وجه التعديات السلطوية، فإن إدارة ترمب إما حققت انتصاراً أو أنها تبدو على وشك تحقيق انتصار بمكاسب ملموسة لللاليبرالية. حال تعيينه مستشاراً، قام هتلر مباشرة بإنشاء وزارة تنوير الشعب والدعاية بقيادة جوزف غوبلز، الذي بقي واحداً من أقرب مستشاري هتلر السياسيين.
أما في عهد رئاسة ترمب فقد جرت خصخصة وظائف تلك الوزارة على شكل فوكس نيوز وشون هانيتي. تلعب فوكس نيوز بإخلاص دور البوق الذي يصدح «بالوقائع البديلة» لنسخة ترمب من الأحداث، وبدوره عادة ما يجد ترمب الإلهام من أجل تغريداته وتصريحاته المفعمة بالفانتازيا من خلال متابعته اليومية لمعلقي فوكس نيوزـ واتصالاته الليلية المتأخرة مع هانيتي. والنتيجة بالنسبة لقاعدته تكون في خلق «فقاعة ترمب» كي يعيشوا فيها، ولا يكون بإمكان أي من مشاهدي PBS أو CNN أو MSNBC أو قراء نيويورك تايمز أو واشنطن بوست تمييزها. أما أجهزة الإعلام الحرة شديدة النقد لترمب، فعدا عن أنها لا تستطيع تزويد متابعيها بوسائل تحقق فعالة حيال قدرة ترمب على أن يكون كاذباً متسلسلاً من دون أي عقاب سياسي، ولكنها أيضاً، وعلى العكس، تخلق عدواً آخرَ يزيد من تعبئة مشاعر الإساءة والتظلم لدى قاعدته. لا توجد أي حاجة لقمع الصحافة الحرة عندما يمكن اعتبارها لا تُقدّم ولا تؤخّر، بل إنها مستغلة من أجل مكاسب سياسية حتى.
لقد قام التشريع الأول الذي سنّه هتلر بموجب قانون التمكين للعام 1933 (الذي علّق سلطات الرايخشتاغ التشريعية) بتفويض الحكومة طرد الموظفين المدنيين على شبهة عدم الموثوقية السياسية والانتماء إلى غير العرق الآري. شكّل كلٌّ من عدم المساواة أمام القانون والتمييز القانوني خصائصَ جوهرية لنظام الحكم النازي منذ البداية. وبالمثل فقد تدخّلَ النظام في خيارات الناس الخاصة فيما يخص جنسانيتهم وتكاثرهم؛ فتكثف اضطهاد الذكور المثليين بشكل مطرد مما نتج عنه موت حوالي 10.000 مثلي إضافة إلى اعتقال الآلاف غيرهم أو حتى خصيهم. جرى أيضاً تعقيم ما بين 300.000 إلى 400.000 ألماني تم اعتبارهم حاملين لعيوب وراثية، وقتل حوالي 150.000 ألماني من المصابين بإعاقات جسدية ممن أيضاً تم اعتبارهم «غير جديرين بالحياة». أما الألمان القادرون على إنجاب أطفال قيمين عرقياً، فقد حُرِموا إمكانية الحصول على أي من وسائل منع الحمل أو الإجهاض وكوفئوا لإنشائهم عائلات كبيرة، فيما تعرضت العاملات الأجنبيات الحبالى إلى عمليات إجهاض إكراهية من أجل منع ولادة أي أطفال غير مرغوب بهم وضياع أيام عمل في إجازات الأمومة.
لا يوجد أي من هذه الإجراءات المروعة على الأجندة اللّاليبرالية، ولكن تقييد العديد من الحقوق والحمايات التي يتمتع الأمريكيون بها اليوم مُحتمل الوقوع. من المفترض أن تنجو المساواة في الزواج في ضوء التغيرات الهائلة في الرأي العام الأمريكي حيال هذا الموضوع. ولكن حق الشركات والأفراد في التمييز ضد المثليين غالباً ستتم حمايته بشكل واسع على أنه «معتقد ديني يتمسك به الناس بصدق». ومن المُرجَّح أن يختفي الهدف المفضل لجون روبرتس، رئيس المحكمة العليا، أي التمييز الإيجابي، تحت شعاره القائل إنه «من أجل إنهاء التمييز العنصري فإن على الإنسان إنهاء جميع أشكال التمييز العنصري». كما سيختفي حق المرأة في الإجهاض غالباً في الولايات الحمراءالولايات الحمراء في أمريكا هي الولايات ذات الأكثرية الجمهورية الناخبة في الانتخابات الرئاسية. إما عن طريق الانقلاب الصريح على «قضية رو ضد وايد» أو على الأغلب عبر أحكام قضائية أضيق تفشل في إيجاد أي «عبء غير مبرر» في القيود الدراكونية التي تجعل الإجهاض غير متاح عملياً. وسوف تبلى الحماية المتساوية لحقوق التصويت على الأرجح في الولايات الحمراء مع مرور الوقت، عبر قوانين قمع الناخبين الموضوعة بدهاء، وعبر عمليات التلاعب الانتخابية، ما أن توضح المحكمة العليا موقفها بعدم التدخل من أجل كبح هذه الإجراءات.
يعوز أجندة ترمب الداخلية حول الديمقراطية اللّاليبرالية اعتمادُها بشكل ملموس الديكتاتورية الشمولية كما مثّلها كل من موسوليني وهتلر، ولكن لا يجب أن يشكل هذا سوى فرصة تنفّس ضئيلة لأولئك الذين يأملون ويؤمنون بأن منحنى التاريخ سيصل في النهاية إلى انعتاق ومساواة وحرية أعظم. وبالمثل، فلا يجب أن نرتاح لأن سياسة ترمب الخارجية لا تحاكي الأهداف الهتلرية لحروب الغزو والإبادة البشرية، لأن آفاق السلام والاستقرار مهددة جدياً. يمكن للحروب التجارية المتصاعدة أن تدفع الاقتصاد العالمي بسهولة نحو الانهيار، وقد وضعت إدارة ترمب عتبات من أجل التسويات السلمية مع إيران وكوريا الشمالية تبدو بعيدة المنال جداً.
هنالك إمكانية أن يلجأ ترمب إلى تلك المواقف الخطابية لاستخدامها كورقة مساومة يتراجع بعدها إلى مواقف أكثر اعتدالاً في الحالتين. ولكن توجد أيضاً إمكانية أن يتفاقم الزخم العدائي، بحيث تضمحل جميع فرص المساومة والتنازل، فيُغرِقُ ترمب البلاد بدوامة صراعات اقتصادية وعسكرية جدية، فيما هو يقبع أسيرَ خطابه الخاص. تاريخياً لطالما أفلتت مواجهات وتصعيدات كهذه من بين أيدي زعماء أكثر مهارة من ترمب بأشواط.
بغض النظر عن كيف ومتى تنتهي رئاسة ترمب، فإن السياسة الأمريكية ستظل مسكونة بشبح اللّاليبرالية. وستبقى السلطة القضائية مُسيّسة حيث سيعتبر كُثُرٌ أن لقرارات المحكمة العليا شرعية إشكالية، وهنالك من سوف يطعن بشدة في التعيينات القضائية المستقبلية. ولسوف يكون من الصعب الشفاء من كل ذلك الانقسام العرقي والنزاع الثقافي والاستقطاب السياسي الذي شجّعه ترمب وغذّاه. ستستمرّ أيضاً عمليات التلاعب بالتقسيمات الانتخابية وقمع الناخبين والإنفاق المتفلّت في الحملات الانتخابية، مما سيُنتِجُ انتخابات منحرفة صوب توجهات غير تمثيلية ولاديمقراطية. كما سيكون من الصعب جداً وقف التفاوت المتنامي في الدخل، ناهيك عن عكسه.
وأخيراً وفي غضون بضعة عقود بعد انتهاء فترة رئاسة ترمب، فإن تأثيرات الكارثة البيئية، التي بدأت تلوح في الأفق نتيجة التغيّر المناخي الذي يتسبب به الإنسان، والذي لا ينكره ترمب فقط بل أيضاً يساهم كثيراً في تسريعه، ستكون حتمية. إن تصحّر المناطق القارية الداخلية، وارتفاع منسوب البحر في المناطق الساحلية ذات الكثافة السكانية العالية، والتواتر المتصاعد لحدوث ظواهر الطقس المتطرف وتزايد شدّتها، بالإضافة إلى شحّ المياه والغذاء المرافق لهذه الظواهر، سوف تطلق جميعها حركات نزوح سكاني وصراعات على الموارد الشحيحة بشكل يُقزّم المصير الحالي الذي تعانيه إفريقيا الوسطى وسوريا اليوم. لا جدار سيكون عالياً بما فيه الكفاية كي يقي الولايات المتحدة من هذه الأحداث. ليس ترمب بهتلر وليست الترمبية بالنازية، ولكن، وبغض النظر عما ستؤول إليه رئاسة ترمب، فإن نهاية هذه القصة لن تكون سعيدة على الأرجح.