معلّم القتلى والمنفيّين
كل نهار أحد، من سنة 1963 إلى 1967، لم يكن ألبرتو مانغويلاعتُمِدَ اسم «مانغويل» في الترجمات العربية، وإن كان الصواب في اللفظ هو «مانغيل». يتناول الغداء في بيت والديه، بل في منزل الروائية مارتا لينش. كانت والدةَ زميلٍ من زملائه في المدرسة اسمه إنريكه، وكانت تقيم في ضاحية سكنية من ضواحي بوينس آيرس، في فيلا فارهة سقفها من قرميد أحمر ومحاطة بحديقة ورود. كان إنريكه قد استشفّ رغبة ألبرتو في أن يصير كاتباً، فاقترح أن يُطلِع والدتَهُ على بعضٍ من قصص صديقه. وبعد أسبوع، سلّم إنريكه رسالةً إلى ألبرتو الذي ظلّ يتذكّر ورقها الأزرق وميَلان السطور وضخامةَ التوقيع، ولم ينسَ على الخصوص الثناء السخيَّ الذي فاضت به تلك الأوراق القليلة والتحذيرَ الذي يذيّلُ الخاتمة: «بُنيّ، أهنّئك. ولن يتسنّى لك أن تعرف مدى إشفاقي عليك». كانت الرسالة مرفقة بدعوة إلى تناول الغداء في نهار الأحد المقبل. كان ألبرتو في الخامسة عشر من العمر، ولم يكن قد قرأ الرواية الأولى لمارتا حول تورطها السياسي والغراميّ مع واحدٍ من الرؤساء المدنيين القلائل الذين وصلوا إلى السلطة بعد الإطاحة ببيرون. كان وجه الروائية التي فازت روايتها هذه بجائزة أدبية مهمة في الأرجنتين يظهر من وقتٍ لآخر في مجلة أو جريدة، بعينيها الواسعتين الناعستين. وقبل الغداء، يوم الأحد، كانت مارتا تجلس معه على أريكة كبيرة مزركشة بالزهور وتحدّثه عن الكتب، وصوتها مبحوح قليلاً كأصوات مرضى الربو. وبعد تناول الغداء، كان ألبرتو وريكي وتوليو وإنريكه وإستيلا يجلسون حول طاولة في علّية البيت ويناقشون السياسة وهم يستمعون إلى أغنيات الرولينغ ستونز. كانت السياسة لدى هؤلاء المراهقين جزءاً من الحياة اليومية. ففي سنة 1955، اعتُقل والد ألبرتو على يد الحكومة العسكرية التي أطاحت بحكم بيرون، ولأن الانقلابات كانت على قدم وساق، فقد اعتاد الفتيان أن يروا الدبابات تمشّط الشوارع وهم على الطريق إلى المدرسة. كان كل رئيس جديد يغيّر قوانين المدارس وفقاً لمصالح حزبه الحاكم، فألغيت مادة «التربية المدنية» من المناهج، لأنها في عرف العسكر نوع من التسلية والخيال الديمقراطي.
عام 1961، سنة دخول ألبرتو وصديقه إنريكه إلى المدرسة الوطنية في بوينس آيرس، قرّر مسؤول في وزارة التربية والتعليم أن يختبر نموذجاً تجريبياً. فبدلاً عن إعطاء الدروس من قبل معلّمين عاديين في المرحلة الثانوية، نُقلت المناهج الدراسية إلى أيدي أساتذة جامعيين، وكان كثيرون منهم كتّاباً وشعراء إضافة إلى نقاد ومؤرّخين. كان لهؤلاء الأساتذة الحقّ في تدريس موادّ على درجة عالية من التخصص، ليتلقّى الطلبة المعلومات الأساسية قبل تهيئتهم للتفكير في دقائق الأمور. لم يكن ثمة مفرّ من السياسة، ولم يكن يخطر لأحد إن الدراسة تتوقّف عند حدود الكتب المدرسية.
يقول مانغويل إن هناك شخصاً آخر قد أرشده إلى جدّية الأدب ومتع القراءة، بالإضافة إلى مارتا لينش. لم يكن الآباء يشجّعون أبناءهم على دراسة الأدب أو الفنون أو الموسيقا، لأنها ليست مهناً وجيهة أو مقنعة، فقليل من قراءة الأدب، مثل ملمّع الشعر، يضفي على الشخص رونقاً لطيفاً، أما مواد الدراسة الحقيقية فهي الرياضيات والفيزياء والكيمياء، ولا بأس بالجغرافيا والتاريخ إذا لزم الأمر. يقول مانغويل إن هوسه المعروف بالكتب اقترن في مراهقته بمشاعر الذنب والخجل وكأنه يعشق شيئاً ممنوعاً. كان صديقه ريكي يعرفه عن قرب ويفهم طباعه، وكان يهديه كتباً في عيد ميلاده. إلى أن أتى اليوم المشهود الذي دخل فيه إلى شعبتهم معلّم جديد في اليوم الأول من الدوام المدرسي.
أطلق مانغويل على هذا الأستاذ اسماً مستعاراً هو ريبادابيا، المأخوذ من أول رئيس حكم ما يُعرف بـمحافظات ريّو دي لابلاتا المتحدة، بعد حروب الاستقلال عن إسبانيا وقبل تشكيل الدولة الأرجنتينية الفيدرالية. دخل ريبادابيا إلى الصفّ، اكتفى بمساء الخير، ولم يقل شيئاً عن المنهاج المقرَّر أو ما هي مقترحاته، ثم فتح كتاباً وراح يقرأ نصّاً هذا مستهلّه: «أمام البوّابة يقف حاجبٌ موكول بالحراسة. يأتي رجلٌ من الريف إلى هذا الحاجب هناك، ويلتمس السماح له بمقابلة القانون. لكنّ الحاجب يقول إنه لا يستطيع السماح للرجل حالياً…». لم يكن قد سبق للطلبة قطّ أن سمعوا باسم كافكا، ولم يكونوا يعرفون شيئاً عن الحكايات الرمزية، ثم أتاهم في عصر ذلك اليوم مَن فتح أمامهم الأبواب لطوفان الأدب. لم تكن حكاية كافكا هذه تشبه المقتطفات المضجرة من الكلاسيكيات التي يتوجّب على الطلبة دراستها في حصص القراءة؛ كانت غامضة ولامستْ مواضع حميمة في قلوبهم كانوا غافلين عنها. قرأ لهم ريبادابيا نصوصَ كافكا وكورتاثار ورامبو وكيبيدو وأكوتاغاوا؛ منوِّهاً بمراجعات النقاد الجدد ومقتبساً عن فالتر بنيامين وموريس ميرلو-بونتي وموريس بلانشو؛ أخبرهم عن استماعه إلى لوركا يلقي قصائده ذات يوم في بوينس آيرس «بصوتٍ مفعَمٍ بالرمّان». ولكنه، في المقام الأول، علّمهم كيف يقرؤون، وكانوا يصغون إليه وهو يدلّهم في مجاهل النصوص، ليكتشفوا العلاقات بين الكلمات وبين الذكريات والأفكار والتجارب. يقول مانغويل: «الطريقةُ التي أفكّر بها، والطريقة التي أحسُّ بها، والشخص الذي كنتهُ ولا أزال في هذا العالم، وذلك الشخصُ الآخر الأكثر غموضاً الذي كنتهُ عند انفرادي بنفسي- هذا كله، في سوادهِ الأعظم، وليدُ عصر ذلك اليوم الذي قرأ فيه ريبادابيا في الصفّ الدراسي».
إلى أن أطاحَ بالحكومة المدنية، في 28 حزيران/يونيو 1966، انقلابٌ عسكري قاده الجنرال خوان كارلوس أونغانيا. طوَّقَتِ الدبابات والجنود مقرَّ الحكومة الذي يبعد عن مدرسة هؤلاء الطلبة بضعة شوارع فحسب، أما الرئيس آرتورو إيليا، العجوز الطاعن في السن (صوّره رسامو الكاريكاتير كسلحفاة)، فقد طُرد إلى الشوارع. أصرّ إنريكه على تنظيم مظاهرة احتجاجية. وقف بضعة عشرات من طلبة الثانوية على أدراج المدرسة وهم يهتفون وينشدون الشعارات، رافضين الدخول إلى صفوفهم. انضمَّ بضعة معلّمين إلى الاعتصام. نشبتْ شجارات، وكُسِر أنفُ أحد المتظاهرين في عراكٍ مع مجموعة فتيان مواليين للعسكر.
وفي هذه الأثناء، تواصلتِ الاجتماعات في منزل إنريكه. كان شقيق إستيلا الأصغر ينضمّ إلى عصبة الفتيان أحياناً. ثم فترتْ حماسة ألبرتو. وكان أحياناً يختلق الأعذار ويغادر بعد الغداء يوم الأحد. أصدرت مارتا لينش عدة روايات أخرى. وأصبحت آنذاك واحدة من الكتّاب الأكثر مبيعاً في الأرجنتين، وكانت تتطلع إلى شيء من النجاح خارج البلاد، في الولايات المتحدة أو في فرنسا، ولكن لم يتحقّق لها ذلك قطّ.
وبعد نهاية المرحلة الثانوية، أمضى ألبرتو بضعة أشهر دارساً الأدب في جامعة بوينس آيرس، وسرعان ما أضجره الإيقاع البطيء للمحاضرات المفتقرة إلى الخيال. خامرته ظنونٌ بأن ريبادابيا والنقّاد الذين قرأهم لطلبته قد أفسدوا عليه الاستمتاع بمنهاجٍ واضحِ المعالم: فبعد أن روى ريبادابيا، بصوته الهادر، مغامراتِ يوليسيس من خلال قصة- الخالد لبورخيس (الساردُ فيها هو هوميروس الحيّ عبر العصور)، صعُبَ على الطالب الاستماع طوال ساعات إلى أستاذٍ يردّد كلاماً رتيباً عن المشكلات النصية في المخطوطات الأولى لـ الأوديسة. غادر مانغويل إلى أوروبا على متن سفينة إيطالية في الأشهر الأولى من سنة 1969، ويقول معلّقاً: «وخلال السنوات الأربع عشرة التالية سُلخ جلد الأرجنتين عنها وهي حيّة. كان هناك خياران أمام كلّ مَن عاش في الأرجنتين أثناء تلك السنوات: إما القتالُ ضد الدكتاتورية العسكرية، أو السماحُ لها بالازدهار. كان خياري خيارَ الجبناء: قرّرتُ ألا أعود. كان عُذري (وليس هناك أعذار) هو أنني لا أجيد استخدام البندقية».
*****
لم ينقطعْ مانغويل أثناء ترحّلاته الأوروبية عن سماع أخبار الأصدقاء الذين ظلّوا هناك في البلاد. عُرِفت مدرسته دوماً بنشاطاتها السياسية، وعبر تاريخ البلاد تخرّج العديد من رجال السياسة الأرجنتينيين البارزين من الصفوف نفسها التي جلس على مقاعدها. لم تكتفِ الحكومة الانقلابية باستهداف مدرسته فحسب، بل استهدفتْ أيضاً زملاءه في الصف. بدأت أخبارهم تتقاطر، شهراً بعد شهر. صديقان (أحدهما علّم نفسه العزف على الأوبوا وارتجل حفلاتٍ في غرفته؛ ولاحظ الصديق الآخر إن تلك الحفلات كانت «مملّة أكثر من أن ترقص مع أختك») أرداهما الرصاص صريعين في محطة للوقود على أطراف بوينس آيرس. صديقةٌ أخرى- ما عاد مانغويل يتذكر اسمها، وكانت تبدو له صغيرة جداً بعمرٍ يقاربُ اثني عشر عاماً عندما رآها آخر مرة، أعدِمتْ رمياً بالرصاص في سجن عسكري ولها من العمر ستة عشر عاماً. شقيق إستيلا، الذي لم يتجاوز خمسة عشر عاماً، اختفى في عصر يوم من الأيام وهو ذاهب إلى السينما. استلم والداه جثمانه داخل طرد بريدي متروك على عتبة بابهما، مشوَّهاً تشويهاً فظيعاً كاد يمنعهما من التعرّف إليه. غادر إنريكه إلى إسبانيا. هرب ريكي إلى البرازيل. مارتا لينش انتحرت. أطلقتِ النار على نفسها في المطبخ بينما كانت سيارة أجرة تنتظر أن تقلَّها إلى مقابلة في محطة إذاعية. كانت الرسالة التي تركتْها تقول ببساطة: «ما عدتُ قادرةً على احتمال كلّ هذا».
ذات مرّة، حطّ رحال مانغويل في البرازيل في محطة عابرة أثناء أسفاره. كان أحد إخوته في بوينس آيرس قد صادف أمَّ ريكي فأعطته عنوانه في ريو دي جانيرو، ثم أرسل أخوه العنوانَ إليه. اتصل مانغويل بريكي. كان متزوّجاً الآن، وله أولاد، ويدرّس الاقتصاد في الجامعة. حاول مانغويل جاهداً أن يفهم ما الذي تغيّر في صديقه الذي لم تبدُ عليه علامات التقدّم في السنّ. كان فقط مختلفاً. كان بطيئاً في كلِّ ما يقومُ به- كلامه، إيماءاته، حركاته. لقد اعتراه ترهُّلٌ معيّن؛ وبدا أن أشياء قليلة جداً تستثير اهتمامه.
لقد صارت البرازيل الآن موطنه، فزوجتُهُ وأولادُهُ برازيليون، ولكنها لا تزال بلداً أجنبياً، وقال لصديقه إن عدداً من اللاجئين في المنفى، كما سمّاه، قد أنشأوا «مجموعات الذاكرة»، شارحاً إن «مجموعات الذاكرة» مكلَّفة بتوثيق الجرائم السياسية لكيلا يطوي النسيان أي شيء. كانت في حوزتهم قوائم بأسماء الجلادين والجواسيس والمخبرين. إن اللجنة التي تتابع ملف المفقودين والمختفين قسرياً desaparecidos في الأرجنتين -أنشأها الرئيس ألفونسين سنة 1983 للتحقيق في مصير الآلاف الذين اختفوا خلال حكم الدكتاتورية العسكرية- قد وثّقت لاحقاً شهاداتِ الضحايا الناجين. احتفظت «مجموعات الذاكرة» بأرشيف الجُناة، أملاً بتقديمهم إلى العدالة ذات يوم. اعتقد مانغويل إن قسطاً من قنوط صديقه ريكي كان آتياً من معرفته بحصيلة المحاكمات التي وعد بها ألفونسين: بضع عقوبات، بضعة توبيخات رسمية، ومن ثم العفو العام الذي أعلنه سنة 1991 الرئيسُ الجديد كارلوس منعم.
قال ريكي إن العسكر قد اعتمدوا على المخبرين. فقد كان هناك داخل المدرسة أشخاصٌ يزوّدون الجلادين بتفاصيل أنشطة الطلبة مع الأسماء والعناوين والأوصاف الشخصية. كان هناك موالون للعسكر طبعاً، ولكن ثمة فارق شاسع بينهم وبين المتواطئين الحقيقيين مع الجلادين. ضحك ريكي وقال إن أفكاره غير واضحة. لم يكن العسكر يعتمدون على عصاباتٍ من الصبيان الطائشين الذين يردّدون شعارات من قبيل: «الوطن، العائلة، الكنيسة»، لأنهم كانوا بحاجة إلى أناسٍ مثقّفين وأذكياء، مثل ريبادابيا. قال ريكي إن لدى مجموعته دليلاً ملموساً على وشاية البروفيسور ريبادابيا للحكومة العسكرية طوال سنوات عديدة بمعلوماتٍ تفصيلية عن طلبته. لم تقتصر الوشاية على الأسماء، بل شملت ملاحظاتٍ دقيقة عما يحبّون ويكرهون، وعن خلفياتهم العائلية ونشاطاتهم المدرسية، إذ كانت معرفته بجميعهم جيدة جداً.
بعدما أخبر ريكي صديقه بهذه الواقعة لم يتوقف الأخير عن التفكير بها. وكانت هناك عدة احتمالات تدور في رأس مانغويل، وهو حائر لا يعلم أيها الأصحّ:
– حسمُ الموضوع بالقول إن الشخص الذي كانت له الأهميةُ القصوى في حياتي -مَن أتاح لي أن أكون ما أنا عليه الآن، ومَن كان مثال المعلّم المستنير والملهِم- كان في الواقع وحشاً، وكلُّ ما حثّني هذا المعلّم على محبته، كلُّ ما علّمني إياه، كان فاسداً.
– السعيُ إلى تبرير أفعاله التي لا يمكن تبريرها، فأتجاهل حقيقة أن أفعاله تلك قد أدّتْ إلى تعذيب أصدقائي وموتهم.
– القبول بأن ريبادابيا كان المعلم الصالح ومخبر الجلادين معاً، وترك هذين التوصيفين يتجاوران كالماء والنار.
وقبل الوداع سأل مانغويل ريكي إذا كان يعلم بما جرى لأستاذهما ريبادابيا لاحقاً. فأومأ ريكي برأسه، وقال إن ريبادابيا قد ترك التدريس ليعمل في دار نشر صغيرة في بوينس آيرس، وإنه يُعِدُّ عروض كتب لواحدة من كبريات الصحف الأرجنتينية، ولا يزال قائماً على رأس عمله.
واجب الذاكرة
استلهم ألبرتو مانغويل أستاذه ريبادابيا ليرسم شخصية الضابط أنطوان بيرينس في روايته «أخبار من بلاد أجنبية»، وأحداثها تنتقل من فرنسا إلى الجزائر فالأرجنتين وكيبيك في كندا. أثناء عمله على كتابة هذه الرواية، اختار مانغويل لشخصية الضابط وجه رجلٍ كان قد رآه في الجريدة وبدت عليه ملامح اللطافة والفطنة، قبل أن يكتشف إن صاحب هذا الوجه هو كلاوس باربي، ضابط الغستابو الذي أرسل عدداً كبيراً من أطفال اليهود إلى معسكرات الموت النازية. ذاك الوجه المضلّل لاءَمَ الشخصية الروائية، مثله مثل الاسم بيرينس الذي استعاره مانغويل من جنتلمان غريب التقاه على متن سفينة متجهة من بوينس آيرس إلى أوروبا، وكان هذا الجنتلمان كاتباً من عادته السفر ذهاباً وإياباً عبر المحيط الأطلسي، ولا يقيم أبداً في الميناء المقصود؛ وذات ليلة، حين كان مانغويل في الباخرة يعاني من نزلة برد حادّة وحمى مرتفعة، روى له بيرينس قصة لافكاديو الذي يرتكب فعلاً عبثياً حين يدفع آميدي الحالم عن متن قطار منطلق في رواية أندريه جيد «أقبية الفاتيكان».
وليختتم الرواية التي تعثرت كتابتها مراراً، كان مانغويل بحاجة إلى وصف أفعال رجل يمتهن التعذيب، لا إلى وصف التعذيب نفسه. فتخيل ضابطاً يطبّق وسائل التعذيب الوحشية على جماد بدلاً من الإنسان، وهذا الضابط ليس إلا المثقف الكبير ابن النورماندي أنطوان بيرينس الذي أوفدته الحكومة الفرنسية كمستشار إلى بوينس آيرس، بعدما اختبره في حرب الجزائر وما جرّبه هناك في السرّ من فنون التعذيب على أجساد الجزائريين. كان في ثلاجة مانغويل ساق كرفس قديم، فتخيلها كيف ستبدو تحت التعذيب. وبطريقة غامضة، تراءى له المشهد صائباً ودقيقاً. ولكن تعذّر عليه العثورُ على كلماتٍ يبرّرُ بها الجلاد نفسَه. «عليك أن تضع نفسك في مكانه وتفكر مثله»، نصحَته صديقته الروائية سوزان سوان. لم يكن يعتقد أنه قادرٌ على ذلك، ثم هاله إدراكه أن بمقدوره التفكير بما يدور في رأس الجلاد.
استرجع مانغويل، غير مرة وفي مناسبات شتى، كيف أن مواطنين فرنسيين شرفاء، أثناء الاحتلال النازي لفرنسا، قد استهزأوا من قوافل الأطفال اليهود المساقين كالقطعان إلى الشاحنات، كما ذكر السهولة التي رشق بها كنديّون متحضّرون أحجاراً على النساء والعجائز في محمية أوكا في كيبيك عندما احتجّ السكان الأصليون على بناء ملعب للغولف.
لهذين المثالين صدى في رواية مانغويل الأولى هذه، فأعماله السردية متصلة بمقالاته وهي تضيء بعضها بعضاً، ويكاد يكون كل كتاب له خلاصةَ جميع كتبه، وما التأليف إلا تنويعات على كتاب وحيد يراجعه الكاتب وينقّحه طوال حياته.
يبقى الانحطاط سمة العصر، والتفاهة سيّدة الحلبات. نعلم بالطبع إن أنظمة الحكم الديمقراطية كافة في أوروبا وشمال أمريكا، بكامل عدتها من العقلانية، تستند في جزء منها على الأقل إلى النهب والتعامي واغتصاب الحقوق والتعذيب والاستعباد، وباتت المسافات التي تفصلها عن دكتاتوريات الماضي والحاضر تتقلّص شيئاً فشيئاً. يرى مانغويل إن «واجب الذاكرة» واجب حيوي في المجتمع، كيلا تتكرّر الأفعال الرهيبة، أو كيلا يدّعي مرتكبوها الجهلَ بفحواها وبكيفية حكم المجتمع عليها في المستقبل. ويتضمّن هذا الواجب واجب الذاكرة الفعّال، بوصفه طقساً مدنياً علمانياً للتكفير عن الذنوب، تُصاغُ فيه بالكلمات أفعال الماضي وآثامه لكي يسمعها الجميع. لكنه يشير، في الوقت نفسه، إلى أن الذاكرة قد تضلّلنا. ففي ستينيات القرن العشرين حدّد علماءُ النفس ظاهرة أطلقوا عليها اسمَ «المواظبة على الذكرى». إذ عندما ندرك إن واقعةً ما قد ثبُت بطلانها، فقد تكون القوة التي تلقّينا بها المعلومة للمرة الأولى عظيمة إلى حدّ تتغلّب فيه على معرفتنا الجديدة، وهكذا نستمرّ في تذكر «الواقعة» بوصفها صحيحة، على الرغم مما يُقال لنا خلاف ذلك، وهكذا تحول الذكرى المزيفة دون بقاء المعلومة الجديدة الصحيحة في ذاكرتنا. فإذن، لن نتفاجأ بأن واجب الذاكرة، على مستواه الجمعي، قد ينحرف عن مساره، وقد تحلُّ نسخةٌ منقّحة من الماضي محلَّ الماضي الذي يبرهن عليه المؤرخون بالوقائع. ولكن مهما عملت الحكومات والأنظمة على تشويه الذاكرة وتضليلها وتزييفها، تبقى هناك، إلى جوار المواظبة على التوثيق، مواظبةٌ أخرى بين الكتّاب قد تعادل الأولى من حيث القوّة، ويسميها مانغويل «المواظبة على الحقيقة».
*****
(ملاحظة: أعددتُ القسمين الأوّلين من نصوص ومقالات مختلفة لألبرتو مانغويل، أما ما يلي فترجمةٌ لواحدٍ من مقالاته قسّمناه هنا إلى مقطعين، وعنونّاهما عنوانين فرعيين غير موجودين في الأصل.)
الصديقة المفقودة
أعلن و.ه. أودن إن «الشعر لا يُحْدِثُ شيئاً». لا أعتقد بصحة تلك المقولة (ولا أظنه قد آمن بها على الأرجح). ليس كلُّ كتاب خارقاً، ولكن كم مِن مرة أبحرْنا مهتدين بصفحةٍ مضيئة أو بمنارةِ قصيدة. قد لا يتضح فوراً الدورُ الذي يلعبه الشعراء والقصّاصون في رحلاتنا المحفوفة بالمخاطر، ولكن ربما ثمة جوابٌ ما قد بزغ في أعقاب دكتاتورية معينة هي الدكتاتورية التي واكبتُ عن كثب سنواتِ حكمها الدمويةَ العشر.
لا أستطيع أن أتذكر اسمها (لكم تنكث الذاكرة بوعودها)، ولكنها كانت متأخرة عني بسنة دراسية واحدة في المدرسة الوطنية في بوينس آيرس. التقيتُها في السنة الثانية من دراستي الثانوية، خلال واحدة من الرحلات التي كان مرشدونا المتحمّسون يحبون تنظيمها من أجلنا لنكتشف خلالها فنّ التخييم، ونختبر الولع بالقراءة حول النار ولغز السياسة. لم يُتَح لنا التحقّق مما كانت تعنيه السياسة بالضبط، إلا إذا استثنينا أنها كانت تعكس في ذلك الوقت، بطريقة استعراضية بعض الشيء، أفكارنا الضبابية حول الحرية والمساواة. قرأنا آنذاك (أو حاولنا أن نقرأ) كتباً جافة في الاقتصاد وعلم الاجتماع والتاريخ، ولكن «السياسة» ظلّت بالنسبة إلى معظمنا كلمة مفيدة نسمّي بها حاجتَنا إلى الروحِ الرفاقية وازدراءَنا للسلطة. كانت السلطة تتضمّن مديرَ المدرسة المحافظ؛ والمالكين البعيدين لمساحات شاسعة من باتاغونيا (حيث ذهبنا للتخييم أسفل جبال الأنديز، وحيث رأينا عوائل فلاحين يعيشون حيواتهم النائية التي كنا عاجزين عن تخيُّلها قبل ذاك)؛ والعسكرَ الذين رأينا دباباتهم في 28 حزيران/يونيو 1966 تجوب شوارع بوينس آيرس، في واحد من مواكب كثيرة مشابهة متجهة إلى القصر الرئاسي في بلاثا دي مايو [ساحة أيار]. كان عمرها ستة عشر عاماً في تلك السنة؛ ولم أرَها قط مرة ثانية بعد أن غادرتُ بوينس آيرس سنة 1969. أتذكر أنها كانت صغيرة القدّ، ذات شعر أسود جعد كان مقصوصاً في تسريحة قصيرة جداً. كان صوتها رقيقاً، ناعماً وصافياً، وكان بمستطاعي دائماً تمييزه على الهاتف قبل أن تكمل كلمتها الأولى. كانت ترسم، ولكن من دون اقتناع كبير بالرسم. كانت مجتهدة في الرياضيات. في سنة 1982، قُبيل اندلاع حرب المالبيناس ومشارفة الدكتاتورية العسكرية على نهايتها، عدتُ إلى بوينس آيرس في زيارة قصيرة. وحين سألتُ عن أخبار أصدقائي القدامى، وقد مات كثيرون منهم أو اختفوا في تلك السنوات المروّعة، قيل لي إنها في عداد المفقودين. اختُطِفت أثناء مغادرتها الجامعة التي انتسبت فيها إلى اتحاد الطلبة. رسمياً، لا توجد أية إشارة إلى اعتقالها، ولكنّ أحدهم رآها بكل وضوح في إل كامبيتو El Campito، وهو واحدٌ من معسكرات الاعتقال العسكرية، عندما رُفعِت للحظةٍ خاطفة القلنسوةُ التي تغطي وجهها من أجل إجراء فحص طبّي. كان العسكر عادة يغطُّون رؤوس سجنائهم لكيلا يتمكّنوا لاحقاً من تمييز جلاديهم.
في 24 نيسان/أبريل 1995، أجرت صحيفة لا برينسا، التي تصدر في بوينس آيرس، مقابلةً مع بيكتور آرماندو إيبانيث، وهو ملازم أرجنتيني خدم في حراسة إل كامبيتو. وفق إيبانيث، «أعدم» الجيش في إل كامبيتو ما بين 2000 و2,300 من المسجونين هناك، رجالاً ونساء، شيوخاً ومراهقين، خلال السنتين اللتين أدّى فيهما خدمته الإلزامية من عام 1976 إلى 1978. وعندما كانت ساعة السجناء تدنو، على ما روى إيبانيث للصحيفة، «كانوا يُحقَنون بدواء قويّ اسمه بانانوفال يفتكُ بهم في غضون بضع ثوانٍ. كان يؤدي إلى ما يشبه نوبة قلبية. [كانت الحقنة تُبقي السجناء على قيد الحياة ولكن غائبين عن الوعي]. ثم يُرمَون في البحر. حلّقنا على ارتفاع منخفض جداً. كانت رحلات طيران غير قانونية ومن دون تسجيل في أي مطار. وكان بمستطاعي أحياناً أن ألمح أسماكاً كبيرة جداً، كأسماك القرش، تلاحق الطائرة. كان الملاحون الجويّون يقولون إنها مسمَّنةٌ بلحوم البشر. أترك الباقي لمخيلتكم»، قال إيبانيث. «تخيّلوا الأسوأ».
كان اعتراف إيبانيث هو الاعتراف «الرسمي» الثاني. إذ قبل شهر منه، اعترف مقدّمٌ متقاعد في البحرية هو أدولفو فرانثيسكو سيلينيو (في صحيفة لا برينسا أيضاً) بالطريقة نفسها في «التخلص من السجناء». وردّاً على هذا الاعتراف، قال الرئيس الأرجنتيني كارلوس منعم إن سيلينيو «مجرم»، وذكّر الصحافة بأن الضابط المقدَّم في البحرية كان متورّطاً في صفقة سيارات مشبوهة، وتساءل كيف يمكن الأخذ بمصداقية ما يقوله لصّ. كما أمر سلاح البحرية بتجريد سيلينيو من رتبته العسكرية.
منذ انتخابه سنة 1989، لم يتوقف كارلوس منعم عن مساعيه في التقليل من شأن السؤال الكبير حول جنايات العسكر خلال «الحرب القذرة» المزعومة التي استباحت الأرجنتين من سنة 1973 إلى 1982، وقُتل في غضونها أكثر من ثلاثين ألف شخص. مستهجناً تاريخَ الموعد النهائي لرفع الدعاوى ضد العسكر (كان سلفه راؤول ألفونسين قد حدّده بالثاني والعشرين من شباط/فبراير 1988)، منح منعم في السادس من تشرين الأول/أوكتوبر 1989 عفواً رئاسياً خاصاً شمل معظم العسكريين المتورّطين في انتهاكات حقوق الإنسان. وبعد سنة، عقب عيد الميلاد بثلاثة أيام، أصدر منعم عفواً رئاسياً عاماً شمل جميع المتورّطين في الأحداث التي استنزفتِ البلد تسعَ سنين طوالاً. واستناداً إلى ذلك العفو، أطلِقَ سراح الجنرال خورخه بيديلاي مقابلة صحافية مع خورخي بيديلا، أثناء ترأسه المجلس العسكري الأرجنتيني، طُرح عليه سؤال حول مصير آلاف المخفيين قسرياً في البلاد، فأجاب: «ليس بمستطاعنا اتخاذ أي إجراءات خاصة للكشف عن مصيرهم ما داموا مختفين. إنهم إشارة استفهام. ليسوا موجودين. لا هوية لهم ولا وجود. ليسوا أحياء ولا أمواتاً. ببساطة، إنهم مختفون». (الذي اعتُقل من جديد في وقت لاحق) والجنرال روبرتو بيولا، وكان كلٌّ منهما قد عُيّن رئيساً للبلاد من قبل الطغمة العسكرية الحاكمة، الأول من سنة 1976 إلى 1981 والثاني لعشرة شهور سنة 1981. في الاصطلاحات القانونية، لا ينطوي العفو الخاص على معنى التبرئة أو إخلاء السبيل وإنما تخفيف العقوبة فحسب. أما العفو العام (كمثل ذلك العفو الذي منحه العسكر لأنفسهم عن الجرائم التي ارتكبوها في سنة 1982، ثم ألغاه ألفونسين) فهو إقرارٌ بالبراءة يمحو أي اتهام بالجريمة. وبعد تصريحي إيبانيث وسيلينيو، وفي اقتضابٍ شديد، توعّد الرئيسُ منعم العسكرَ بسحب العفو الصادر سنة 1990.
لم تكن السلطات العسكرية الأرجنتينية قد اعترفت بارتكاب أي اعتداء في عملياتها المزعومة ضد الإرهاب، حتى الاعترافين اللذين أدلي بهما سنة 1995. فالطبيعة الاستثنائية لحرب العصابات اقتضت، على حدّ قول السلطات، تدابير استثنائية. وكانت في هذا التصريح قد أخذت بالنصيحة. ففي سنة 1977، إثر تقرير مشترك أصدرته منظمة العفو الدولية ومكتب حقوق الإنسان في وزارة الخارجية الأمريكية يتّهم قواتِ الأمن الأرجنتينية بالمسؤولية عن مئات الاختفاءات، استعان العسكر بشركة أمريكية مأجورة للعلاقات العامة اسمها برسون-مارستيلر، لتخطط لها الأجوبة. تضمنتِ المذكَّرة ذات الصفحات الخمس والثلاثين التي قدّمتها برسون-مارستيلر توصية للعسكر «باستخدام أفضل المهارات الإعلامية الاحترافية لنقل جوانب من الأحداث الأرجنتينية تُظهر أن المشكلة الإرهابية قيد المعالجة على نحوٍ صارم وعادل، بما يضمن الإنصاف للجميع». تلك مهمة شاقة، لكن تنفيذها ليس مستحيلاً في عصر الدعاية والإعلان. فقد اقترحت برسون-مارستيلر أن يلجأ العسكر إلى «الحثّ على آراء وتعليقات إيجابية» لدى كتّابٍ «ذوي قناعاتٍ محافظة أو معتدلة». وأثمرتْ حملتهم عن تصريح رونالد ريغان في مجلة ميامي نيوز، عدد 20 تشرين الأول/أكتوبر 1978، القائل بأن مكتب حقوق الإنسان في وزارة الخارجية الأميركية «قد أخلَّ بعلاقاتنا مع سابع أكبر بلد على سطح هذا الكوكب، الأرجنتين- فهي أمّة يجب علينا الاحتفاظ بصداقة وثيقة معها».
سلطة الذاكرة
بمرور السنين، لبّى آخرون نداء أصحاب الإعلان. ففي سنة 1995، بعد وقت قصير من اعترافات إيبانيث وسيلينيو، ظهرت مقالةٌ في الصحيفة الإسبانية إلباييس El País بقلم ماريو بارغاس يوسا. تحت عنوان «اللعب بالنار»، جادل بارغاس يوسا بأن الرؤى التي سيقدّمها ليست جديدة على أحد، على الرغم من فظاعتها المحتملة، فهي مجرد توكيدات على حقيقة «شنيعة وتثير الغثيان في كلِّ مَن لديه نصفُ ضمير». وكتب قائلاً: «سيكون رائعاً بالتأكيد لو اقتيد كلُّ المسؤولين عن هذه الفظائع التي لا تُصدَّق إلى القضاء وعُوقِبوا. ولكنّ هذا مستحيل، لأن المسؤولية تتجاوز إلى حدّ بعيد نطاقَ العسكر وتستدعي طيفاً واسعاً من المتورّطين في المجتمع الأرجنتيني، بما فيه عدد لا بأس به من أولئك الذين يصيحون اليوم بإدانة العنف وهم يسترجعون وقائعه، فقد ساهموا فيه أيضاً، بطريقةٍ أو بأخرى».
«سيكون رائعاً بالتأكيد»: هذه هي المحاكاة البلاغية للأسف المزيّف، دالةً على التحوّل من السخط العامّ على الوقائع «الشنيعة والمثيرة للغثيان» إلى الإدراك الأكثر رصانة لمعناها «الحقيقي»- ألا وهو استحالة الوصول إلى الهدف «الرائع» للعدالة المنقوصة. حجة بارغاس يوسا حجةٌ مغرقةٌ في القدم، تعود جذورها إلى مفاهيم الخطيئة الأصلية: لا يمكن لأي روح أن تتحمّل المسؤولية حقاً لأن كلَّ روح مسؤولةٌ «بطريقةٍ أو بأخرى» عن جرائم الأمّة، سواء ارتكبها الشعب نفسه أو ارتكبها زعماؤه. قبل أكثر من مائة عام، عبّر نيكولاي غوغول عن هذا العبث نفسه بعبارةٍ أرشق: «فتّشوا عن القاضي وفتّشوا عن المجرم، ثم أدينوا كليهما».
مستخدماً مثال بلده كدرسٍ في التاريخ، يختتم بارغاس يوسا بصرخةٍ من القلب cri de coeur: «إن ما جرى في البيرو مثالٌ عن ديمقراطيةٍ شوّهها الشعبُ البيروفي- بسبب عنف الجماعات المتطرّفة، وكذلك بسبب العمى لدى قوى سياسية معينة وديماغوجيتها- وتركها ترتمي كثمرة ناضجة بين أذرع السلطة العسكرية وأفرادها، وهذا مثالٌ ينبغي أن يفتح عيون أولئك المتهوّرين الذين ينشدون العدالة ويستغلّون السجال في الأرجنتين حول القمع أثناء السبعينيات ليلهثوا وراء الانتقام ويثأروا لمظالم قديمة، أو ليواصلوا بوسائل أخرى الحربَ المجنونة التي بدأوها ثم خسروها».
ما كان لشركة برسون-مارستيلر أن تعثر لقضيتها على خبيرٍ إعلامي أكثر كفاءة منه. ماذا سيستنتج القارئ العادي، الواثق من بارغاس يوسا كمرجعية فكرية؟ عند المقارنة بين الأرجنتين والبيرو التي تمادت في الاحتجاجات، على ما يبدو واضحاً وضوحَ الشمس (حيث خسر الروائيُّ الذي صار سياسياً خسارةً مدوية في الانتخابات الرئاسية)، ربما سينتقل القارئ إلى جدال أدقَّ بكثير: هؤلاء «الذين ينشدون العدالة«، الذين ينشدون تلك العدالة المُشتهاة، وإن كانت طوباوية وفق بارغاس يوسا- أليسوا في الواقع منافقين يجدر بهم أن يحملوا قسطهم من الذنب في وقوع الفظائع، لا بل يجب أن يُلاموا أيضاً لأنهم بدأوا حرباً خسروها فيما بعد؟ فجأة ينقلب ميزان المسؤولية لترجح كفّةُ الضحية. فالأمر الواضح هو أن ما يقود هؤلاء الأدعياء الذين ينشدون العدالة ليس الحاجةَ إلى العدالة ولا دافع الاعتراف الرسمي بالأخطاء، وإنما شهوة الانتقام أو ما هو أسوأ- الحقد المحض. ثلاثون ألف مختفٍ ما رثاهم أحد؛ لأنهم هم الذين افتعلوا المشاكل وبدأوا هذه المسألة برمّتها. وأما أولئك الذين نجوا- أمهات بلاثا دي مايو [ساحة مايو]خلال السنوات السبع لحكم المجلس العسكري في الأرجنتين، الممتدة من عام 1976 حتى 1984، تعرّض عشرات الآلاف من الأرجنتينيين للاعتقال والاختطاف، وبينهم مئات الأطفال، ولا يزال مصير كثيرين منهم مجهولاً حتى الآن. في تلك الفترة السوداء، تمت تصفية المعارضين السياسيين، طلبة جامعات ومثقفين وناشطين ميدانيين، وأجبِر الكثير منهم على الهرب خارج البلاد. خلال سنوات دكتاتورية بيديلا (1976– 1981)، شكّلت أمهات المفقودين جمعية «أمهات ساحة مايو»، الناشطة حتى يومنا، وقد اجتمعن في ساحة مايو مقابل القصر الوردي، مقرّ الرئاسة الأرجنتينية، وهنّ يضعن على رؤوسهن مناديل قطنية بيضاء باتت رمزاً لهنّ، ويدُرن اثنتين اثنتين حول النصب الهرمي في الساحة، لأن الأحكام العرفية آنذاك كانت تمنع تجمّع أكثر من ثلاثة أشخاص في الأماكن العامة.، الآلاف الذين أجبِروا على الذهاب إلى المنفى، مئات المعذَّبين والمعذَّبات الذين تعجُّ بهم صفحات تقرير عن المفقودين سنة 1984 أصدرته اللجنة الوطنية للمفقودين، مع قصصهم الواقعية عن عذاباتٍ تتخطّى حدود أي وصف- فلا ينبغي لهم التطلُّع إلى الإنصاف خشيةَ أن يتمّ استدعاؤهم هم أيضاً إلى المحاكمة. وعلاوة على ذلك، لقد انصرمتِ السبعينيات منذ وقت بعيد… أليس خيراً لهم أن ينسوا؟
لحسن الطالع، كان هناك قرّاء لم تكن ثقتهم بماريو بارغاس يوسا كبيرة. فقد أُعيد نشر مقالته في صحيفة اللوموند في 18 أيار/مايو 1995. وبعد أسبوع (في 25 أيار/مايو)، نشر الكاتب الأرجنتيني خوان خوسيه ساير ردّاً في الصحيفة نفسها. وبعد تصويبه لعددٍ من الأخطاء الفادحة الواردة في مادة بارغاس يوسا-كتسميته رئاسة إيزابيل بيرون بـ «الحكومة الديمقراطية»، متجاهلاً حقيقة أن الأرجنتين بين عامي 1955 و 1983 ما حظيت إلا بستة أعوام من حكم زعماء فازوا في انتخابات حرّة- يلاحظ ساير إن حجج بارغاس يوسا تتفق بحذافيرها مع حجج الزعماء العسكريين أنفسهم الذين جادلوا بأن الاستراتيجيات الرسمية للقتل والتعذيب لم تكن خيارهم هم، بل خيار المحتجّين الذين قاموا باستفزازهم فأرغموهم على اللجوء إلى «تدابير صارمة». كما ينوّه ساير بأن فكرة بارغاس يوسا حول «المسؤولية الجمعية» قد تضع بارغاس يوسا نفسه في زاوية حرجة، إذ واصل الروائيُّ البيروفي بملء إرادته نشرَ مقالاته على صفحات الجرائد الأرجنتينية الرسمية في الوقت الذي كان فيه المثقفون الأرجنتينيون يتعرّضون للتعذيب أو يُجبرون على الهروب إلى المنفى.
تناول ساير دور بارغاس يوسا، متهماً إياه بأنه الناطق الرسمي باسم العسكر، فرفضَ أو تجاهلَ حججه التي تقوم على عددٍ من الفرضيات الملفَّقة. ومع ذلك تستحقُّ هذه الحجج تمحيصاً متأنّياً في اعتقادي، لأنها حتماً، بفضل براعة بارغاس يوسا، أبلغُ ما خطّه المدافعون عن العفو الذي يشمل العسكريين.
– إن فكرة الذنب المشترك بين الحكومة العسكرية التي تبوّأت السلطة بالقوة واستخدمتِ التعذيب والقتل في الهجوم على معارضيها، وبين الضحايا الذين يتضمنون مقاتلي حرب العصابات والمعارضين السياسيين والمدنيين العاديين الذين ليست لهم أية صلة بالسياسة، هي فكرة مضلّلة. فإذا ما سلّمنا بأن جيش المتمرّدين والجيش الأرجنتيني الرسمي كانا قوتين متكافئتين (نسبة المقاتلين المتمردين، قياساً إلى جنود الجيش، تعادل واحداً مقابل ألف)، فما مِن حجّة تستطيع أن تبيّن لنا توازن القوى بين القوّات العسكرية النظامية وبين المثقفين والفنانين وزعماء النقابات والطلبة ورجال الدين الذين جاهروا جميعاً بمعارضتهم لنظام الحكم. إن المدنيَّ الذي يعلن معارضته لأفعال الحكومة ليس مذنباً بأية جريمة؛ على العكس، إن ملاحقة المجرمين واجبٌ مدنيٌّ جوهري في أي مجتمع ديمقراطي، ويجب أن يكون كلُّ مواطن جاسوسَ الله، إذا جاز مثل هذا التعبير. يقول الملك لير: «وسنأخذُ على عواتقنا غوامضَ الأشياء، كأننا جواسيس الله؛ ولسوف نهلكُ/ في سجنٍ مسوَّر، زمراً وأحزاباً من وجوه القوم/ يُرخي القمرُ مدَّ حظوظهم ويحسره».
لكن القمع غمر بطوفانه حتى عالم المعارضة المدنية. إن اللجنة الوطنية للمفقودين، التي ترأسها الروائي إرنستو ساباتو، اختتمت تقريرها في أيلول/سبتمبر 1984 بما يلي: «في وسعنا أن نعلن جازمين- خلافاً لمزاعم الأشخاص المنفّذين لهذا المخطّط الخطير- إنهم لم يلاحِقوا فقط أعضاء المنظمات السياسية الذين نفّذوا أعمالاً إرهابية. فهناك بين الضحايا آلافٌ من الذين لم يكن لهم أي ارتباط بمثل هذه الأفعال إطلاقاً، ومع ذلك خضعوا لتعذيب مروّع لأنهم عارضوا الدكتاتورية العسكرية، أو شاركوا في فعاليات نقابية أو طلابية، أو كانوا مثقّفين معروفين أشهروا أسئلتهم حول إرهاب الدولة، أو ببساطة لأنهم كانوا أقرباءَ شخصٍ محسوب على المخرِّبين أو أصدقاءَه أو تصادف وجود أسمائهم في دفتر الهواتف والعناوين خاصته».
– إن أي حكومة تستخدم التعذيب والقتل في فرض القانون تبطل حقَّها في الحكم وتبطلُ القانونَ الذي تفرضه في آنٍ معاً، لأنّ إحدى الركائز القليلة الأساسية لأيّ مجتمع ينعم فيه المواطنون بحقوق متساوية هي قداسة حياة الإنسان. كتب ج. ك. تشسترتن: «طبعاً، لا يمكن أن ينعم بالأمان مجتمعٌ تُعتَبر فيه ملاحظة قاضي القضاة، التي تقول إن القتل خطأ، بمثابة حكمةٍ أصيلة ومدهشة». أية حكومة لا تعترف بهذه الحقيقة، ولا تقوم بمحاسبة أولئك الذين يقومون بالتعذيب والقتل، لا يمكنها أن تدّعي العدالة. لا يجوز لأي حكومة أن تحتذي بأساليب مجرميها، فتأتي استجابتها مخفّفة حيال شيء حريٌّ بها أن تحاكمه كإجرامٍ مرتكب ضد قوانين الأمة. لا يجوز أن يقودها أيُّ منطق فردي للعدل أو الثأر أو الجشع. يجب أن تحتوي جميع هذه التصرفات الفردية لمواطنيها، ضمن المعايير التي يؤسّسها دستور البلاد. يجب أن تعزّز القانون بالقانون، وضمن نطاق القانون. أما بتجاوز القانون، فلا تعود الحكومة حكومة، بل نظاماً اغتصبَ السلطة، وينبغي أن تُحاكَم على هذا الأساس.
– الثقة بالسلطة المطلقة للقانون شدَّتْ من أزر الكثير من ضحايا الدكتاتورية العسكرية خلال تلك السنوات الرهيبة. فعلى الرغم من الألم والذهول اللذين تسبّبت بهما الانتهاكات المرخَّصة رسمياً، بقي الإيمان بأن هذه الأفعال في مستقبلٍ ليس بالبعيد ستخرج إلى النور وتُحاكَم بمقتضى القانون. لا بدّ أن الرغبة في تعذيب الجلاد وقتل القاتل هي رغبةٌ كاسحة، ولكنّ الأقوى منها هو الإحساس بأن أفعال الانتقام هذه ستختلط بالأفعال التي أدّت إلى الانتقام فيتعذّر التمييز بينهما، ولسوف تنقلب، بطريقة تثير الاشمئزاز، نصراً للمجرمين. عوضاً عن ذلك، واصل الضحايا وعوائلهم الإيمان بشكل من المحاكمة الدنيوية الممكنة في النهاية، وفيها سيبادِر المجتمعُ الذي أحاق به الظلم إلى إحضار المذنبين ومقاضاتهم وفق قوانين ذلك المجتمع. لقد آمنوا بأن بلادهم قد تحظى بفرصة أخرى، استناداً إلى تطبيق مثل هذه العدالة وحدها. لقد حرمهم عفو كارلوس منعم من تلك الإمكانية التي انتظروا تحقّقها طويلاً.
– لقد تجلّى «غياب العدالة» هذا، باتّساقٍ مروّع، في تكتيكات «الإخفاء» التي انتهجها العسكر، وبوساطتها –عبر الخطف والتعذيب والرمي من الطائرات والطمر في قبور مجهولة- لا يُقيَّد الضحايا رسمياً كأموات بل هم مجرد «غائبين»، ولم يتركوا للعوائل المفجوعة جثماناً يبكون عليه. في حديثٍ له سنة 1981، وصف خوليو كورتاثار منهجَ الدكتاتورية بهذه الكلمات: «من جهة، هناك خصمٌ حقيقيّ أو افتراضّي يُقْمَع؛ ومن جهة أخرى، تُخلق الظروف الموائمة لإرغام عائلات الضحايا وأصدقائهم على البقاء صامتين غالباً، فالتزام الصمت هو الإمكانية الوحيدة للحفاظ على حياة أحبّتهم لأن قلوبهم لا تتحمّل أن يتخيّلوهم موتى». وأضاف: «إذا كان موتُ كل إنسان يليه غيابٌ لا يُعوَّض، فماذا سنقول عن هذا الغياب الآخر الذي يستمرّ كشكلٍ من الحضور المجرَّد، كهذا الحرمان العضال من غيابٍ نعلم أنه الغيابُ النهائي؟» وبهذا المعنى، ما داوى عفو كارلوس منعم مرضَ الماضي- بل أطال هذا المرض لا غير، وصولاً إلى الحاضر.
– المسعى الإنكاري لكارلوس منعم ليس الأولَ في بابه. فأحد الأمثلة الأولى عن النهوض بالحاضر إلى الكمال عبر محو الماضي وجرائمه، يعود إلى سنة 213 قبل الميلاد، عندما أمر الإمبراطور الصيني شي هوانغدي بإحراق كل الكتب في إمبراطوريته لتمحق النارُ كافةَ الآثار التي تدلُّ على زنا أمّه (كما تقول إحدى الأساطير). ولكن لا يمكن أبداً إزالة أية فعلةٍ بعد اقترافها، سواء أمهولةً كانت أم تافهة- حتى لو اقترفها إمبراطور صيني، فما بالكم برئيسٍ أرجنتيني. هذا هو قانون حياتنا الذي لا يسقطه التقادم. إن رسوخ الماضي الذي لا يمكن زحزحته لا يستند إلى جعجعات الحكومة، ولا إلى شهوات الانتقام أو الدبلوماسية. لا يمكن التراجع عن أية فعلة. قد تُغْتَفر هذه الفعلة أو تلك، ولكن يجب أن يأتي الصفح مِن المجنيّ عليه لا مِن أي شخص آخر سواه، إذا كان هذا الصفح يتوخّى أي مصداقية. لا شيء يتغيّر في الفعلة نفسها بعد الصفح: لا ظروفها ولا جسامتها ولا جُرمها ولا جُرحها. لا شيء باستثناء العلاقة بين الجلاد والضحايا، عندما يستردّ الضحايا سيادتهم، «لا برجحان فضائلنا، بل بالصفح عن جناياتنا»، كما يقول كتاب الصلوات العامة. الصفح حقٌّ مقصور على الضحية وليس حقَّ الجلاد- وليس خافياً أن حكومة كارلوس منعم ومسانديها، أمثال بارغاس يوسا، قد تناسوه.
– الصفح الذي تمنحه الضحية –الرحمة التي تتنزّل- لا يؤثّر على آليات سير العدالة. لا يغيّر الصفح ولا يلطّف الفعلةَ التي سيمتدّ ظلها مترامياً، إلى أبد الآبدين، في كل حاضر جديد. الصفح لا يمنح النسيان. ولكنّ المحاكمة بمقتضى قوانين المجتمع قد تجعل للفعلة الإجرامية سياقاً على الأقل، فيستطيع القانون أن يحجر عليها في الماضي، إذا صحَّ القول، بحيث تكفُّ عن تدنيس المستقبل، وتبقى على مبعدةٍ كأنها تذكير أو تحذير. ثمة شبهٌ غامض بين تطبيق قوانين المجتمع والفعل الأدبي: إنه يقيّد الفعلة الإجرامية في صفحة ويعرّفها بالكلمات، كما يضع سياقاً- لا لذعر اللحظة المحض بل لذكريات تلك اللحظة. لقد خرجتْ سلطة الذاكرة من أيدي المجرمين، فالمجتمع هو الممسك بزمام تلك السلطة الآن، مدوّناً تاريخَ ماضيه المقيت، وهو القادرُ أخيراً على إعادة بناء نفسه، فلا يبني على فراغ النسيان، بل فوق صلابة الوقائع المسجَّلة لتلك الفظاعات التي ارتُكِبت. هذه المسيرة طويلةٌ حزينةٌ مخيفةٌ مضنية، وهي المسيرة الوحيدة الممكنة. هذا النوع من الشفاء يخلّف ندوباً على الدوام.
– العفو العام لكارلوس منعم، المنصاع لمطالب القتلة والجلادين المعروفين، قد أخّر الشفاء في المدى المنظور إلى أجلٍ بعيد جداً. وكما نرى اليوم، ولأن جميع القتلة والجلادين في نظام الحكم العسكري لم يمثلوا أمام القضاء، فإن الأرجنتين بلدٌ محروم من الحقوق: حقّه في العدالة الاجتماعية مشجوب، حقُّه في التعليم الأخلاقي معطَّل، حقُّه في السلطة الأخلاقية مصادَر. لقد تذرّع كارلوس منعم وخلفاؤه وورثته بالحاجةِ إلى «مواصلة المسيرة رغم العقبات»، والحاجةِ إلى «رأب الخلافات»، والحاجة إلى «إتاحة الفرصة لازدهار الاقتصاد من جديد»، كأسبابٍ مقنعة للغفران والنسيان. ليس خافياً أن كارلوس منعم قد اعتقد بإمكانية أن يرشو التاريخ أو يصرفه من الخدمة، مُؤيَّداً فيما ذهب إليه بأصواتٍ أدبية مثل بارغاس يوسا؛ واعتقد بإمكانية ترك ذكرى آلاف الناس كمثل ذكرى صديقتي في أيام المدرسة تصفرُّ على الرفوف المنسية في عتمات المكاتب البيروقراطية؛ واعتقد بإمكانية استرجاع الماضي من دون بذل أي جهد، من دون تعويضات رسمية، من دون وفاءٍ بوعد الخلاص.
وفي أثناء انتظارهم أن تأخذ مجراها العدالةُ التي حُرموا منها، لا يزال بوسع ضحايا الدكتاتورية العسكرية في الأرجنتين أن يأملوا بشكلٍ آخر من العدالة أقدمَ عهداً- أقلّ وضوحاً ولكنه أبقى في النهاية. فالعقل السياسي في متاهاته لا يفي بوعد الخلاص إلا نادراً، أما المتاهة في عقل الكاتب الموهوب فتكاد تنبني على مثل هذا الوعد وحده و -خلافاً لمقولة و. ه. أودن- لا تسمحُ بأي نسيان.
قد يعلم الجلادون وضحاياهم أنهم لم يكونوا وحدهم في ذلك الخفاء وكأن لا شيء سيهتك سترهم، والفضل عائدٌ إلى كتب معينة (لا يمكن إدراج فهرسها هنا لطوله وخصوصيته البالغين). إن العدالة، بعيداً عن مقتضيات الضرورة الأدبية التي تطالب بنهاية سعيدة، هي جوهرياً ميثاقُنا الإنساني، وهي ما نستطيع جميعنا قياس أنفسنا على مسطرتها. وكما يقول القانون الإنكليزي القديم، لا ينبغي الاكتفاء بتطبيق العدالة، بل يجب التحقُّق بأمّ العين من تطبيقها.
إن ثقة و.ه. أودن المزعزعة بمقدرة الكاتب على تغيير العالم هي تصور حديثٌ واضحُ الحداثة. لاحظ روبرت غريفز أن الإيرلنديين والويلزيين قد حرصوا على التمييز بين الشعراء والهجّائين: كانت مهمة الشاعر خلّاقةً أو شافية، بينما مهمّة الهجّاء هدّامة أو مؤذية، وكلاهما يغيّران مجرى الأحداث في العالم. يُقال إن الطبيعة بحدّ ذاتها قد انحنتْ أمام كلمات أورفيوس؛ واستحضر شكسبير سلطان الشعراء الملحميين الإيرلنديين، ومقدرتهم على «قتل الجرذان بالقوافي»؛ ففي القرن السابع، عند اكتشاف العظيم شنتشاون توربايشت إن الجرذان قد أجهزتْ على عشائه، أردى عشرة منها على الفور بإلقاء قصيدةٍ هذا مطلعها:
تجبنُ الجرذانُ عن القتال
رغم خطومها الحادّة.
سيّانِ ضد الجرذان أو ضد الطغاة، بمستطاع الكتّاب اجتراحُ شكلٍ غير مطروقٍ من العدالة في دورهم كجواسيس الله. كتب هوراس في القرن الأول قبل الميلاد: «كم مِن رجلٍ شجاع عاش قبل عهد أغاممنون، ولكنّ الليلَ الطويل غطاّهم جميعاً، مجهولين لم يشيّعْهم أحد، لأنهم كانوا يفتقدون شاعراً». نحن أوفرُ حظّاً، إذا أخذنا بما تضمره كلماتُ هوراس. القصائد والقصص التي ستحرّرنا (أو التي سنعثر فيها على نوعٍ من الخلاص) تُكْتَبُ الآن، أو سوف تُكتَب، أو قد كُتِبت وهي في انتظار قُرّائها، لتتولّى عبر امتداد الزمن، المرة تلو الأخرى، القول إن عقلَ الإنسان أوسعُ حكمة على الدوام من أفظع أفعاله، لأنه يستطيع تسميتها؛ وإن ثمة شيئاً في الكتابة الجيدة التي تصف أفظع أفعالنا يكشفُ عن شناعة تلك الأفعال فلا تبدو منيعةً عصية على الاختراق؛ وإن الكاتب الملهَم، رغم هشاشة اللغة واعتباطيتها، يستطيع أن يروي ما هو عصيٌّ على القول ويمنحَ شكلاً لما هو عصيٌّ على التفكير، بحيث يخسر الشرّ بعضاً من سطوته الغامضة ويقف مختزَلاً إلى بضع كلمات لا تُنسى.