في أيار 2014 قام الشاب إليوت رودجر بتنفيذ مجزرة في ولاية سانتا باربرا في الولايات المتحدة، حيث لقيَّ سبعة أشخاص حتفهم. وقد ترك رودجر فيلماً على يوتيوب يقول فيه إنها كانت عملية انتقام، لأنه تجاوز سنّ الثانية والعشرين دون أن يمارس الجنس مع امرأة. «في يوم الثأر سوف أدخل بيوت الطالبات في المدينة الجامعية، وأذبح كل قحبة شقراء مدللة ومتكبرة تعترض طريقي، كل الفتيات اللواتي طالما اشتهيتهنّ. جميعهنَ رفضنني كما لو كنت ناقصاً، وتكبّرنَ عليَّ عندما حاولت التغزل بهنّ. كم سأستمتع بقتلكنّ جميعاً. ستدركنَ أخيراً أني أنا المتفوق وملك الكائنات الحقيقي. يا فتيات، كل ما أردته هو أن تبادلنني الحب، وأحظى بصديقة وبالجنس. طلبتُ الحب والدفء وأن تَعبُدنني. بيد أنكنّ ارتأيتنّ أني لا أستحق ذلك، وهذه جريمة لن أغفرها. بما أنه تعذر عليّ امتلاككنّ، سوف أدمركنّ. لقد حرمتنّني من السعادة، وردّاً على هذا سوف أحرمكنّ الحياة. هذا هو العدل. كم أكرهكنّ جميعاً».
إليوت رودجر حالة متطرفة. غير أنه ليس الرجل الوحيد الذي عبّر عن إحباطه من خلال تنفيذ مجزرة في الولايات المتحدة، حيث يحتفظ الكثيرون بأسلحة في منازلهم. منفذو هذه العمليات هم دائماً من الرجال، والضحايا غالباً من النساء. وخلفية الحدث تشير عادةً إلى ذلك الإحباط الصبياني النمطي: إما أن تكون العلاقة العاطفية قد فشلت لتوها، أو أن الفتى غير قادر على المبادرة تجاه البنات، أو أنه يغضب عندما يتقرّب منهنّ ويُرفَض. إذا نظرنا إلى مجمل السكان الرجال، سنجد أن عدد هؤلاء الفتيان لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة. بيد أنهم يكشفون عن جزء من النفسية الكامنة: يتربى الفتيان على أنهم سوف يحصلون على الجنس والشريكة عندما يصلون إلى سن معين. المصطلح الذي يغطي المعنى هو«الاستحقاق»، أي أن يعتبر الفتيان هذه الأمور من حقهم. أما عندما لا يحصلون على ما يريدون، فسوف يشعرون بالإهانة الشخصية، وبالإذلال كرجل، ويرون أنه من حقهم أخذ ما يريدون امتلاكه أو معاقبة الذين رفضوهم بلا رحمة.
في سبعينات وثمانينات القرن الماضي صبّت الحركة النِسوية جلّ اهتمامها على النساء، أي ضحايا العنف. وفي 1974 تمّ وضع اليد على أول مبنى مهجور بغرض فتحه كبيت للنساء المُعنّفات. وسرعان ما امتلأ المكان بالنساء والأطفال الهاربين من رجل عنيف، مما أفضى لافتتاح مزيدٍ من الملاجئ للنساء وتخصيص خطٍ هاتفي للمغتصبات. كما صدر كتاب رينيه رومكنس عنف عادي؟، وهو عبارة عن بحث علمي حول العنف ضد النساء، فاكتشفت النِسويات أن العنف كان أفظع بكثير مما توقعن. وقد وُوجِه هذا البحث بكثير من التكذيب، وبخاصة عندما صدرت دراسة نيل دراير حول استغلال البنات جنسياً من قبل الأقارب. بتنا الآن ندرك أن الصبيان ضحايا أيضاً، وأن ثمة نساء يضربنَ أزواجهم. بيد أننا نعلم أن هذا يحصل أقل من العكس، وأن درجة سوء المعاملة أقل فظاعة. العنف داخل العلاقة العاطفية (أو ما يسمى خطأً بالعنف المنزلي) هو مشكلة الرجال بالدرجة الأولى. كم تأثرتُ عندما سمعتُ المحلل النفسي الشهير دريس فان دانتزخ يقول: «صحيح، لقد وقعت جرائم أمام أعيننا. وأعني التعذيب اليومي لآلاف من الأطفال من قبل البالغين المكلفين بالعناية بهم. كنا عميان بعيون مفتوحة». هذا رجلٌ يمتلك الشجاعة الكافية كي يعترف في نهاية مشواره المهني أن المساعدين المحترفين قد قاموا بأخطاء فادحة، ولم يفهموا حجم مشكلة استغلال الأطفال من قبل أفراد عائلتهم الذكور.
البُشرى السارة هي وجود اعتراف دولي بأن العنف (الجنسي) ضد النساء هو نوع من انتهاك حقوق الإنسان. وقد خصّص مجلس أوروبا معاهدةً (اتفاقية اسطنبول) أكد فيها على أن العنف شكل من أشكال العنصرية على أساس الجنس، ومن واجبنا النظر إليه كأحد أعراض اللامساواة المستمرة بين الرجال والنساء.
أما الخبر التعيس فهو أن المشكلة ما زالت قائمة ولم تتراجع خطورتها وإلحاحها إلى حدّ الآن. وقد أثبتت الدراسة الواسعة حول العنف ضد النساء، والتي تمّت بتكليف من الاتحاد الأوروبي، أن العنف الجسدي والجنسي ما زالا منتشرَين على نطاق واسع. ولا أقصد بالعنف صفعةً عارضة أو تصعيداً أثناء شِجار، وإنما عنف متعمَّد ومكرّر وقاس. العنف منتشر في هولندا أيضاً، حيث تعرضت نصف النساء الهولنديات (45%) إلى عنف جسدي أو جنسي اعتباراً من سن الخامسة عشر. جزء كبير من حوادث العنف يحصل من قبل شخصٍ تعرفه المرأة (80%). ولا يزال المنزل هو المكان الأكثر خطورة بالنسبة لها، ذلك أن واحدة من كل ثلاث أو أربع نساء تمّ ضربها من قبل شريكها، وواحدة من أصل عشرة أُجبِرت على ممارسة الجنس مع شريك (سابق)، و15% من النساء بين الـ 25 و 70 عاماً تعرّضن إلى عنف جنسي في حياتهنّ. بالرغم من أن الهولنديات يعشنَ في بلد يفخر بقيم ومعايير الـ«مساواة» السارية فيه، إلا أنهنّ ما زلن خائفات ومتوجسات دائماً: لا يمشين ليلاً في الشارع من دون مرافق، ويتجنبنَ بعض الأماكن والظروف. نصف النساء الهولنديات يشعرن أحياناً بعدم الأمان.
بُوحي!
قالت الممثلة أنكه لاتيرفير إنه تمّ التحرش بها من قبل شخص تواعدت معه. تعرّفت عليه على أحد مواقع التعارف الإلكترونية واتقفا على اللقاء. أراد هو أن يتواعد في منزلها، أما هي فكانت تفضل مكاناً آخر. ومع ذلك قبِلت، لتكتشف لاحقاً أن هذا كان غباءً منها. جاء من أجل شرب شيء فقط، ولكنه راح يشدّ ملابسها، ولم يصغِ إليها حين قالت إنها لا تريد. عليكِ أن تتعاوني، قال لها. أصيبت أنكه بالفزع الشديد. وبعد عناء طويل نام الزائر على السرير، فاتصلت بأصدقائها الذين نصحوها بإبلاغ الشرطة. ولكنه غادر قبل مجيئهم.
بعد مرور فترة تساءلت أنكه لماذا لم تكن ردة فعلها على مستوى الحدث وكيف أوقف الهلع تفكيرها. يحصل هذا أحياناً كردة فعل طبيعية على حدث رِضّي. توجد ثلاثة أنواع لردات الفعل: القتال أو الهروب أو التجمّد. والأمر ليس خيارياً، فمعظم الناس يتصرفون في مثل هذه الحالة بشكل غريزي، مثل حيوان في خطر. بعد الحادث لم تتجرأ أنكه على المكوث في منزلها لوحدها، ولحسن الحظ كان لديها أصدقاء يهتمون بها. ولكنها انزعجت كثيراً من ردة فعل الشرطة عندما ذهبت لتقدم شكوى. من بين الأشياء التي قيلت لها: «ولكن ماذا تتوقعين عندما تُدخلين شخصاً إلى بيتكِ؟». لا يمكن اتهامه بانتهاك حرمة المنزل، لأنها هي التي فتحت الباب له. لم تتمكن من فعل شيء ضد المتحرش، ولا شك أنه سيحاول الشيء نفسه مع غيرها.
نساء كثيرات عانين من هذه التجربة بشتى أشكالها: مِن رئيس العمل الذي يضع يديه على ورككِ وهو يفرك قضيبه بمؤخرتكِ، ويتصنع أن الأمر كان مزاحاً حين تعترضين – لا تبالغي، لم أقصد شيئاً – إلى الاغتصاب الحقيقي. وثمة تدرجات كثيرة بين الحالتين. أعرف تلك القصص ولديَّ تجربتي الخاصة، ومع ذلك تأثرتُ عندما طلبت مديرة ندوة من النساء الحاضرات أن يرفعنَ أيديهنّ في حال لم يمررنَ بتجربة تحرش جنسي: ولا واحدة رفعت يدها. غالباً ما تكون العنصرية الجنسية مخلوطة بالعنصرية العِرقية. الرجل الذي تبرع بإيصال امرأة إلى منزلها وصعد معها لشرب فنجان قهوة، راح يتطاول عليها باللمس قائلاً: ألستنّ في غاية الشبق أيتها الخُلاسيات؟
أخبرتني ميمي (جمعية الأمهات الغاضبات) أنه يصعب على النساء الإفريقياتويُقصد هنا المهاجرات السوريناميات المقيمات في هولندا. وسورينام بلد في أمريكا الجنوبية ومستعمرة هولندية قديمة حصلت على استقلالها في سبعينات القرن العشرين. وتسمى هؤلاء النساء بالإفريقيات لأن أجدادهن وصلوا السورينام في سفن تجارة العبيد التي انطلقت من سواحل إفريقيا الغربية عابرة المحيط الأطلسي بقيادة التجار الهولنديين [المترجمة]. طرح موضوع التحرش الجنسي للنقاش. للقصة تاريخ طويل يرجع إلى زمن الاستعمار والعبودية حيث استُغِلّت النساء من قبل المستعمرين البيض وفي بيت العبيد على حد سواء. كان الجميع يعلم بذلك، وكم مرة حَبِلت امرأة من دون أن يفتح أحد فمه. تقول ميمي: «يبدو أن الناس ما زالوا يشعرون بالعار، لذلك نجدهم يفضلون التكتم. ولكن من سيصغي إلينا أصلاً؟ لم يصغوا لأنكه البيضاء، فهل تظنين أن أحداً سيصغي إلينا نحن الإفريقيات؟».
وأضافت الصحفية كلاريس خارخارد: «حتى أننا لا نتكلم ضمن نطاق الأسرة، فغالباً ما تعجز كلماتنا عن التعبير. فقط عندما تعيدين النظر، تكتشفين أحياناً بأنه كان تحرشاً جنسياً. والأمر يزداد سوءاً جراء تشييء النساء، وبخاصة السوداوات. انظري إلى لوائح الإعلانات التي تعرضها شركة سويت سابلاي، وإلى الرجلين اللذين يتزحلقان على ثدي امرأة عملاقة سوداء، ما معنى هذا؟». وتعبّر ميمي عن مدى انزعاجها من دخول هذه الصورة رأس ابنها ذي الخمس سنوات إلى الأبد.
كما تؤكد خديجة المرابط أمازيغية الأصل (من ريف المغرب)توجد جالية مغربية كبيرة في هولندا، منهم العرب ومنهم ذوو الأصول الأمازيغية. الجيل الأول منهم جاء في سبعينات القرن العشرين في إطار هجرة العمل التي تمت برعاية الشركات الهولندية التي كانت بأمس الحاجة للأيادي العاملة الرخيصة [المترجمة]. أن ثقافتها لا تسمح بطرح الموضوع. لقد حاولت الحديث مع خالاتها وجدتها اللواتي يعرفنَ ما هو الاغتصاب ويرفضنَ مع ذلك الكلام عنه. ولقد حصل مرّة أن كانت خديجة في طريقها إلى منزلها بعد خروجها مساءً من نادي الرياضة، فجاءها رجل من الخلف وأمسكها. ظنت لبرهة أن أحد معارفها يريد مداعبتها. ولكن عندما أحست بيده بين ساقيها، شرعت بالصراخ وركضت هاربة. لحسن حظها أن الشرطة الهولندية صدَّقتها، ذلك أن الرجل كان مطارداً جرّاء اغتصابه لعدة نساء. لم يحصل معها ما حصل مع امرأة أخرى عندما توجهت إلى الشرطة وقالوا لها: «مظهركِ يوحي أنك تمارسين الجنس كثيراً». ولكن هل يخفف هذا من وطأة الحدث؟
ولم تستسلم أنكه لاتيرفير، ذلك أنها أطلقت في تشرين الأول 2015 حملة #بُوحي بمشاركة مجموعة من النساء. وقد أفضت حملتها إلى آلاف الردود والحوارات واللقاءات التلفزيونية والمقالات. يبدو أن مسألة العنف والتحرش الجنسي دخلت جدول أعمالنا من جديد. الشيء نفسه حصل في بلجيكا، حيث أطلقت ياسمين سخيلبيكس حملة #نحن لا نبالغ!
ثقافة الاغتصاب
في الولايات المتحدة يستخدمون مصطلح «ثقافة الاغتصاب»، أما في هولندا فليس لدينا تسمية معينة. ثقافة الاغتصاب هي أن يفكر (كثيرٌ من) الرجال بالجنس كما لو أنه أحد حقوقهم. لا يستغربون عندما تمانع المرأة قليلاً، فهي برأيهم تريد، وبخاصة عندما تسهر معك وتسمح لك بدفع ثمن مشروبها وإيصالها إلى منزلها بعد المشوار ودخولك بيتها لشرب فنجان قهوة.
ثقافة الاغتصاب هي ألا تتردد بإطلاق النكت الجنسية، وملامسة النساء ومسكهنّ لترى إلى أي حدٍّ يمكنك الوصول قبل أن يعترضن، وأن تضحك عندما يرتبكنَ أو يغضبن.
ثقافة الاغتصاب هي عادة تشييء المرأة ولوائح الإعلانات التي تعرض المرأة كسلعة للاستهلاك.
ثقافة الاغتصاب هي موسيقى البوب المليئة بالعنف تجاه النساء – الشمطاوات – والتي تقوم بتطبيع عدوانية الرجال الجنسية.
ثقافة الاغتصاب هي أن تتعلم البنات الإغراء في سن مبكر.
ثقافة الاغتصاب هي أن تتعالى أصوات الرجال وهم يشجعون بعضهم بعضاً على تقييم النساء وفيما إذا كنّ ملائمات لتلقي الجنس: «يا ليتني فوقها»، أو آخر صرخات العصر «يجب وضع القضيب فيها!».
ثقافة الاغتصاب هي فكرتنا أن طبيعة الرجال تمنعهم عن السيطرة على رغباتهم الجنسية والتستسترون، وأن النساء هُنَّ المسؤولات عن عدم سيطرة الرجال على أنفسهم: كان ينبغي ألا يلبسنَ مثل هذه الملابس، أو ألا يشربنَ الكحول، أو ألا يُدخلنَ رجلاً إلى البيت.
ثقافة الاغتصاب هي أن تتحمل النساء مسؤولية منع اغتصابهنّ، وأن نعفي الرجال منها، فنسمح لهم بتجاوز أبعد الحدود. ثقافة الاغتصاب هي ألا نتعامل بجدية مع المرأة بحجة أنها لم تقاوم بما فيه الكفاية.
ثقافة الاغتصاب هي أن نضحك على كلام عضو مجلس الشيوخ الأمريكي القائل: «إن لم أغتصب زوجتي، فمن سأغتصب إذن؟».
ثقافة الاغتصاب هي إنكاره، واتهام المرأة بالمبالغة أو بتمثيل دور الضحية، أو بأنها نِسوية متعففة لا تملك حسّ الفكاهة.
يتحججون باسم الثورة الجنسية، وباسم الحرية. ويتهمون كلّ من تخالفهم الرأي بأنها تبالغ. والمحصلة هي هذه الآراء الشائعة التي تحضّ على اغتصاب النساء. هنالك أربع وعشرون شكوى اغتصاب أسبوعياً في هولندا. لا،لا، الأمر ليس بسيطاً إلى درجة أن نؤمن أن الفتى الذي يرى نساءً نصف عاريات في مجلة، يخرج مباشرة للبحث عن ضحية يغتصبها.
وقد قالت لاوري بني: «ما زالت ثقافتنا ترفض الاقتناع أن معظم حالات الاغتصاب قام بها رجال عاديون، رجال لديهم أصدقاء وعوائل، رجال من المحتمل أن يكونوا قد أنجزوا أموراً عظيمة في حياتهم. نرفض الاقتناع أن الرجال اللطفاء قادرون على الاغتصاب، وأنهم يفعلون ذلك كثيراً. أحد أسباب عدم اقتناعنا هو ذلك الألم الذي يصاحب الفكرة. تصديق أن المغتصبين هم الأشرار فقط، وأنهم عنيفون أو صعاليك ذُهانيون ذوي شوارب ويمسكون بسكين ليترقبوننا في زقاق ضيق، أسهل من الاعتراف أن رجالاً عاديين جداً قادرون على تلك الفعلة. رجال قد يكونون أصدقاءنا أو زملاءنا أو أشخاصاً نكنُّ لهم التقدير. لا نعترف بهذه الحقيقة. لا، لا نريد أن يكون هذا صحيحاً، لذلك نتصرف كما لو أن شيئاً لم يكن.
تكمن الصعوبة في المنطقة الرمادية بين العنف والتحرش الجنسي بالمعنى القانوني للكلمة، وبين تجاربَ مع رجل يحاول معكِ ويسهل طرده، ولكن ليس من دون تعكير المزاج بينكما واحتمال عدم استلطافه مدى الحياة. هذا ما يجعل النساء غير واثقات من دورهنّ، ويشجع الرجال على التلاعب: أنتِ التي استدرجتني أو كان عليكِ منعي. وكما حصل مع أنكه لاتيرفير بعد الحادثة، فالنساء يشعرنَ بالغباء والسذاجة والعار.
حصل (أيام شبابي) عدة مرات أن دخلتُ الفراش مع رجل دون أن يكون لدي أدنى رغبة، ولكني لا أقول إنه كان اغتصاباً. نعم، كان عليَّ أن أرفض. ولكن لماذا لم أفعل؟ لأنه نظراً للظروف كانت الموافقة أسهل، كي أنتهي من الموضوع بسرعة. إذ أني تدربت جيداً أثناء زواجي القصير على الرجل الذي يعتقد أن من حقه ممارسة الجنس ثلاث مرات في الأسبوع. وقد كان يكتفي بذلك، وكنت أتعاون معه كي لا تزداد الأمور سوءاً. ولم أنزعج إلا بعد أن طلب مني أن أتصنع الرغبة، وإلا لن يعجبه الحال.
الزميل الذي لم يلحق القطار الأخير إلى مدينته واضطر أن يبات عندي، وصديق صديقتي الذي سهر معنا واستصعب قطع المسافة إلى بيته بالدراجة الهوائية، والناشط الذي لم أرغب برفضه لأنه أسود ولأني ما زلت بحاجة إلى إثبات أني لست عنصرية بحق، والولد الذي كنت أعرفه أيام المدرسة وألحَّ كثيراً إلى درجة لم أتمكن التخلص منه إلا بالقبول – كل هذه التجارب لا أسميها اغتصاباً. ولكنها تعبّر عن تقبّلي للوضع كما لو أنه أمرٌ واقع، إذ لا مفر من رغبات الرجال، حتى ولو كنتِ لا ترغبين. ألم نعلن لتوِّنا عن الثورة الجنسية؟ وألا يعني هذا أن نتعامل بحرية أكبر بخصوص الجنس؟ لم يخطر على بالي طبعاً أن هناك رجالاً سوف يستخدمون الحرية لأخذ كل ما يرغبونه، دون أن يفهموا أن تقول امرأة لا.
عنف «عادي»
نعلم إذن أن العنف ضد النساء منتشر في جميع أنحاء العالم إلى درجة مرعبة. ويزداد احتمال حدوثه في المجتمعات التي تعتبر النساء أقل قيمة من الرجال، أي في المجتمعات الأبوية والتقليدية. في جميع المجتمعات، الرجالُ مطالبون بحماية نسائـ«هم»، ولكن غالباً من الرجال الآخرين فقط. وقد يفضي ذلك إلى تقليص حرية حركة النساء، ذلك أن هناك بلدان لا تخرج المرأة فيها إلا بمصاحبة رجل، وقد تتلوث سمعتها وسمعة أهلها إن فعلت. ولكن هذه الحماية مشروطة دائماً، لأن هؤلاء النساء مطالبات بتلبية رغبات أزواجهنّ. في تلك المجتمعات التقليدية يتعين على المرأة أن تكون متوفرة جنسياً، وقد يلوح خطر العنف في حال قصّرت من هذه الناحية. ويتراجع الخطر في البلدان التي تعترف بتساوي الرجال والنساء من حيث المبدأ ويحق فيها للمرأة أن تنفصل، إلا أنه لم يزُل تماماً كما رأينا. إذ حتى في ثقافتنا المتقدمة ما زال قسم من الرجال يعتقدون أن النساء في خدمتهم. ويزداد العنف في جميع أنحاء العالم حين تتحرر النساء ويشعر الرجال أنهم مهددون ومهانون ولا حاجة إليهم. دعونا ننظر إلى حالات قتل الشريك. تتعرض المرأة إلى أشد الخطر حين تهدد بترك شريكها أو تهجره فعلاً. ولكن في المرات النادرة التي تقتل فيها المرأة زوجها، فهي تفعل ذلك لأنها لم تجد سبيلاً آخر للخلاص منه، ويحصل هذا غالباً بعد سنوات طويلة من سوء المعاملة.
لا يستخدم جميع الرجال العنف، ولا يفرض جميعهم ممارسة الجنس. لذا من المفيد أن نكتشف أيّ الرجال ميّالون للعنف ولماذا. العنف هو طريقة الرجال لممارسة سلطتهم، بيد أن العلاقة بين العنف والسلطة ليست بتلك البساطة. وقد أصابت الفيلسوفة حنة أرندت حين قالت: «السلطة والعنف لا يتطابقان، بل هما ضِدان. يأتي العنف عندما تكون السلطة في خطر».
في الفترة الأخيرة بدأنا نهتم بالفاعل إلى جانب اهتمامنا بالضحية. وقد شاركتُ لبضعة سنوات في دورات تدريبية في يوغسلافيا ما بعد الحرب. عملتُ على وجه الخصوص في صربيا وكرواتيا من خلال منظمات نسائية ومع مساعدين محترفين. كنا نعلم أن العنف المنزلي يزداد في فترة ما بعد الحرب (وأيضاً بعد الأبارتهايد في جنوب إفريقيا حيث كنت أعمل سابقاً)، وكنا نرغب بمعرفة السبب وفيما إذا كان هذا سيمكِّننا من فهم العنف في بلدنا بشكل أفضل.
وقد اكتشفنا عدة عوامل تساعد على ارتفاع معدل العنف:
أولاً: يزداد العنف في العوائل التي تعاني من مشاكل كثيرة. على سبيل المثال، بعد الحرب يكون كل شيء محطماً وجميع أفراد العائلة مرضوضون. كما يحصل هذا في البلدان التي لا تمر حالياً بحرب، ولكن مواطنيها يعانون من المشاكل المادية والديون والبطالة والإدمان على الكحول والمخدرات. هذه الأمور تجعل أفراد الأسرة يشعرون بالإحباط ويلومون بعضهم بعضاً على الركام.
ثانياً: لم يمضِ وقتٌ طويلٌ على الاعتراف بأن الفاعلين مرضوضون أيضاً. إذ غالباً ما يكون الرجال العائدون من الحرب مشوشين تماماً لفترة طويلة، فضلاً عن وجود خلل في تنظيم عدوانيتهم. ينامون بشكل سييء ويعانون من الكوابيس ويفزعون بسهولة ولا يستطيعون التركيز ويعجزون على التواصل الودّي مع أسرهم. والمحصلة هي إدمان العائدين من الحرب على حياة المخاطرة، كما حصل مثلاً بعد الحرب في فيتنام، حيث كان عدد الجنود المنتحرين أعلى من أولئك الذين قتلوا أثناء المعارك. والنتيجة هي أن هؤلاء الرجال غالباً ما ينفجرون غضباً أمام الأشخاص الأقرب والأعز عليهم.
ثالثاً: يزداد العنف عندما تميل كفة السلطة لصالح المرأة. نساء كثيرات اضطررن أثناء الحرب إلى تدبير أمورهنّ بأنفسهنّ، بينما كان الأزواج غائبين أو أسرى حرب. ولما عادوا اكتشفوا أن العلاقة قد تغيرت، وأن النساء تعلمنَ الوقوف على أرجلهنّ وبات الأطفال يتقبلون سلطتهنّ. لم تكن جميع النساء مستعدات للرجوع إلى أدوارهنّ الدونية السابقة، ولا كان الرجال قادرين على تحمّل ذلك. ونرى ردات الفعل ذاتها أيام السلم حين تخرج النساء للعمل أو يفقد الرجل عمله ونفوذه.
النساء اللواتي لا يملكن شبكة اجتماعية جيدة يعانينَ أكثر من غيرهنّ. على سبيل المثال، الجيل الأول من المهاجرات اللواتي ليس لديهنّ أهل يعتمدنَ عليهم، فلا يتوقعنَ التفهم من أحد ولا يجدنَ من يلجأنَ إليه عندما يُضربنَ في المنزل.
كما أن طلب المساعدة ليس بذلك الأمر البسيط بالنسبة لنساء «الأقليات» التي لا نفوذ لها، أو تلك التي تعاني من الأحكام المسبقة والعنصرية. اكتشفنا في صربيا وكرواتيا أن الغجريات المعنّفات لا يلجأنَ أبداً إلى الشرطة. وهذا لأن الغجرية لا تضمن أن تصدقها الشرطة، كما أنها متأكدة من أن زوجها سوف ينال أشد العقاب في حال تمّ القبض عليه. تريد الغجرية أن يمتنع زوجها عن الضرب من دون أن يختفي في السجون أو تضطر هي للانعزال عن محيطها الذي تحتاجه بشدة.
وغالباً ما تفتقد النساء اللواتي مررنَ بتجارب عنف في طفولتهنّ إلى قدرة الدفاع عن أنفسهنّ، أما الصبيان الذين كانوا شاهدين على سوء معاملة والدتهم فهم أكثر ميلاً إلى استخدام العنف. كما أن النساء المُعنّفات أكثر قسوة على أطفالهنّ من غيرهنّ.
هناك شخصية معينة تنطبق على الفاعلين دون سواهم، إذ لا يلجأ جميع المرضوضين أو المعنَّفين في الطفولة، أو الذين يعانون من فقدان وجاهتهم إلى الضرب. وقد درس دونالد دوتون أنواع الفاعلين، واكتشف نوعاً من الشخصية «ضد- الاجتماعية» التي تمارس العنف داخل المنزل وخارجه على حد سواء، وتميل إلى العدوانية والإجرام بشكل عام. يبدو الأمر كما لو أن أولئك الرجال يفتقدون الضمير أو الشفقة على ما يفعلونه بالآخرين. وثمة نوع آخر من الرجال المعتلّين نفسياً (السايكوباتيين) الذين يدركون تماماً ما يفعلونه بالآخرين، غير أنهم يستمتعون بالعنف والسلطة. يهددون زوجاتهم ويعنفونهنّ كي يُحكموا القبضة عليهنّ. بيد أن الجزء الأكبر من الرجال يستخدمون العنف في حالة العجز والإحباط. سلوكهم متكرر بطريقة دورية: في البداية توتر وإحباطات متراكمة، وبعدها انفجار مفاجئ يتبعه غالباً ندم وتأنيب ضمير ووعود بألا يتكرر الضرب. وقد يلعب الكحول دوراً ما في هذا العنف.
السؤال الذي يطرح نفسه على كثيرٍ من المساعدين المحترفين وعلى أهل المرأة وأصدقائها هو لماذا لا تهجر المعنّفة الرجل العنيف أو تعود إليه بعد فترة. يمكننا تصور السبب في حال كان الفاعل من النوع الذي يضرب ويندم. إذ تشعر المرأة أحياناً أنها تتعامل مع رجلين مختلفين، وأنها تحب الرجل النادم وليس ذلك الذي يظهر بعد الشرب. كما ينتابها الإحساس أن الرجل يحمل في داخله طفلاً مجروحاً يخطف قلبها. هذا الطفل يبحث عن محبتها ويحتاجها. ويتطابق هذا إلى حدٍّ بعيد مع الصورة الجندرية في رأسها: هو يحتاجني، وإذا أغدقت عليه حبي، ستسير الأمور على ما يرام. الحب الحقيقي ينتصر على كل شيء.
لا ينفع العلاج مع الرجال ذوي الشخصية ضد-الاجتماعية أو السايكوباتية. أما الرجال ذوو السلوك الدوري، فقد علمتنا التجربة أنه من الممكن مساعدتهم. في الحقيقة هم لا يرغبون بتحطيم أعزّ ما لديهم، ويفهموننا أحياناً حين نقول لهم أن الرجل الحقيقي لا يحتاج إلى ضرب المرأة. وقد يتحسنون عندما يتعلمون رصد عدوانيتهم واستخدامها لغايات أخرى. أتذكر ذلك الرجل الذي لم يعِ فعلته إلا أثناء الجلسة التدريبية. كان قد ضرب زوجته أكثر من مرة، فأخذت الأطفال وتركته. يرغب باسترداد أسرته ويعي في الوقت نفسه أن الزمن لن يعود إلى الوراء. ليس فقط لأن زوجته لم تعد تحبه، ولكن لأن أطفاله باتوا يرفضون رؤيته خوفاً منه. فجأة، وفي صالة صامتة كالموت، اجتاحته موجة من الحزن والندم والصراخ من الألم.
الشياطين والملائكة
كُنّا في غزّة عندما قام صديقي وزميلي يان أندريا بتنظيم ورشة لتدريب القياديين في شتى القطاعات: الصحة والإعلام والجامعات والشرطة والمنظمات النسائية. وقد طلب مني يومها أن أتكلم عن العنف داخل الأسرة. لم يتمكن يان من تبرير طلبه، ولكن بما أني كنت أثق بفطرته إلى أبعد الحدود، شرعتُ بالتحضير لندوة حول ارتفاع معدل العنف حيال المرأة والأطفال (هذا ما سمعته من المنظمات النسائية). حاولتُ الحديث عن الحقائق من دون توجيه اللوم إلى أحد. قلتُ إن هذا ما يحصل في المجتمعات المرضوضة واليائسة: العنف الخارجي ينتقل إلى الأسرة. ولكن بينما كنت واقفة هناك أنظر إلى الوجوه المهتمة، أدركتُ ماذا يتعين عليّ قوله: «افهموني جيداً، أعرف أنكم مسلمون وأن الأسرة مقدسة بالنسبة لكم. وأعرف أيضاً أن القرآن يقول إن النساء لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهنّ، وأن عليكم مساندة بعضكما بعضاً». وهنا رأيت عيون بعض الرجال تغرورق بالدموع. كما توجه ثلاثة رجال إلى يان ليتكلموا معه أثناء الاستراحة: اثنان منهما كانا يضربان الزوجة والثالث يضرب أطفاله، وجميعهم أرادوا معرفة ماذا يتوجب فعله كي يضعوا حداً لهذا الوضع.
أفضل طريقة هي الإجبار من جهة وتقديم المساعدة من جهة أخرى. حين نكتفي بالتعاطف مع الفاعل (بعضهم يتقنون جيداً العزف على أوتار الشفقة في أنفسنا)، لن يتغير شيء. ولن يتعاون الفاعل عندما نؤنبه ونرفضه فقط. كما أننا نعلم أن معظم الرجال لا يزدادون لطافة بعد خروجهم من السجن. لقد تعلّمتُ الكثير من المعالِجة النفسية فيرجينيا جولدنر التي اشتهرت بإشرافها على أشدّ حالات العنف بين الزوجين. علمتني جولدنر أنه يجب أن نقول للفاعل: نحن نرفض فعلتكَ، ولكننا مستعدون للتعاون معك. وقد حكت لي كيف تعلمت ألا تنسى أنها تتعامل مع رجل مجرم وطفل مرضوض في آن: «عندما أعالج رجلاً عنيفاً، أضع ملاكاً على كتفي وشيطاناً على كتفي الآخر. وحالما يجهش الرجل بالبكاء جراء ما أصابه في طفولته وأرى الطفل المجروح أمامي، يقول الشيطان لي: انتظري، لو ضرب هذا الرجل شخصاً في الشارع بدلاً من زوجته، لكان الآن في السجن، ولم يُحوَّل إلى جلسة علاجية». أما عندما تقسو عليه قائلة إن العنف غير مقبول وإنها ستبلغ الشرطة في حال استمر في سلوكه العنيف، تتذكر أن الرجال وُلِدوا لطفاء وتتساءل ماذا أصاب هذا الرجل كي يضرب أعز إنسان على قلبه؟ هذا هو أهم ما تعلمته من جولدنر: التفهم لا يعني تقديم الأعذار.
الرجولة والعنف
دعونا نتصور شاباً صغيراً تعلّمَ أن يتعامل بعنف ولا مبالاة، لأنه يحب استعراض رجولته على أترابه الذكور. غير أن هذا لم يعطِ مفعوله مع الصبايا اللواتي يميل إليهنّ. يحاول معهنّ ويُرفَض، مما يجعله يستشعر عاراً وغضباً قديماً. ها هي تذهب مع رجل آخر. يبدو أنها تفضّل الرجال الأكثر وجاهة، والأكبر سناً، وأولئك الذين يكسبون مالاً طائلاً ويملكون سيارة. وبدلاً من أن يعترف بالخذلان، يعتبرها عاهرة أو سخيفة ومعقدة ومتعجرفة تعطي لنفسها قيمة أكبر من حجمها. وقد يتحوّل الشاب إلى كره النساء إن تكررت الحالة معه أكثر من مرة، مع أنه لن يتخلى عن حاجته إليهنّ. يقول دونالد دوتن إن هؤلاء الرجال مجبولون على العنف، ولن تنقذهم أي امرأة، حتى ولو كان هناك من ستحاول.
تقول نانسي شودورو في كتابها الكره والإهانة والذكورة إنه لا يمكن إنكار أن الجزء الأعظم من العنف الشديد يقوم به الرجال. الأمر بغاية البداهة إلى درجة أننا نادراً ما نتطرق للموضوع. نقرأ في الجريدة أن الصرب يقتلون المسلمين في البوسنة، ولكن لا أحد يذكر أبداً أنهم رجال صربيون. وقد قام الطالبان بشن هجوم ما، وكذلك الفلسطينيون، كما هجم المستعمرون الإسرائيليون على قرية، ولكن لا أحد يقول الحقيقة: الرجال. (بالمناسبة، الفكرة التي عرضتها لتوي ليست محاولة مني لجعل النساء يظهرنَ كصانعات سلام بريئات).
غالباً ما يكونون رجالاً أولئك الذين يملكون دافعاً شخصياً للقيام (أو لتنفيذ أوامر القيام) بالمجازر السياسية أو غير السياسية، والهجمات الإرهابية، والاغتصابات الجماعية الثأرية. تقول شودورو إن الكلمة الجوهرية التي تفيدنا في فهم هذا النوع من العنف المتطرف هي «الإهانة». إذ يحصل أن تُترجَم الإهانة التي تتلقاها جماعة أو قومية معينة إلى تمارين فردية ثأرية وعدوانية بغية معالجة الأنا المجروحة. حتى ولو كانت الإيديولوجيا الجماعية جاهزة، سوف يتطلب الأمر تنفيذاً فردياً أولاً. وعندما يقول فرويد إن المرض يرتبط دوماً بما نعتبره طبيعياً، أتساءل ما هو السر في تكوين الرجولة والذي يجعل كل هؤلاء الرجال مستعدين لممارسة العنف. أفهم طبعاً أن العنف لا يأتي من تلقاء نفسه، وأرى كيف يتم تحضير الشبان الصغار من أجل القتال في سبيل الوطن. كما أن ثمة أنظمة عنيفة تحاول تربية الرجال ليكونوا آلات قتالية مستعدة للموت وتنفذ الأوامر من دون تذمر. ليست صدفة أن الجنود يغتصبون في أرض العدو أكثر مما يفعل المدنيون. فقد تعلموا الحطّ من شأن إنسانية الآخر، وتدربوا على قمع إحساسهم بالهشاشة إلى درجة فقدوا معها جزءاً من إنسانيتهم.
تعرفتُ مرة على قاضٍ مختص بقضايا القاصرين في كرواتيا. كان يُنهك نفسه بالعمل إلى حدّ الاحتراق النفسي. من خلال محاضرته التي ألقاها لأول مرة تبيّن أنه لا يزال غير قادر على النوم من دون كوابيس. كان وجهه شاحباً كالموت وملامحه مشدودة حين وقف يحكي لنا كيف قتل عدداً من رجال العدو الصرب. قام بتمثيل الدور أمامنا: عندما نفذت رصاصات مسدسه، قام بطعن ضحاياه بالسكين، هكذا، من الأسفل إلى الأعلى. كما أنه يتذكر كيف راح الدم يقطر منه. ولكنه عندما رجع إلى العالم المأهول بالناس، لم يستوعب كيف انقلب الرجل المتحضر إلى وحش. هذا القاضي يعمل الآن ليلاً ونهاراً من أجل هداية الشباب الصغار إلى الطريق الصحيح، ولكي يكون قادراً على تحمّل نفسه.
وإن تمكن هذا القاضي من مواجهة ما اقترفت يداه، فهو استثناءٌ على القاعدة. أما الرجال الذين يحاولون حماية حدود أناهم، فيلجأون غالباً إلى ما يسمى في علم النفس بـ «الانفصام»تعبر كلمة الانفصام هنا عن انشطار أو انقسام، وتختلف في معناها عن لفظ الفُصام schizophrenia الذي يعني حرفياً انشطار العقل. أما الانفصام splitting كما جاء في وصف كلاين (1882-1960) فهو آلية الدفاع التي تقسم العالم إلى أشياء جيدة وأخرى بغيضة مع تقاسم مشاعر الحب والعداء نحوها [المترجمة].: يعكسون الشر إلى الآخر الفرد (المرأة) أو الآخر الجماعة (الإسلام). أنا جيد، نحن جيدون، هم الأشرار. الخوف من الانتقام هو أحد الأعراض الجانبية لذلك الانفصام، فالآخر «الشرير» قد يشكل خطراً يجعل استباق العنف يبدو دفاعاً عن النفس. ولذلك يتعين ردع الخطر الإسلامي قبل أن يستلم زمام الحكم ويحطم ثقافتنا. لا أجد صعوبة بالعثور على أمثلة عن رجال (أفراد أو ضمن جماعة) تعتمد نفسيتهم بشكل رئيسي على مشاعر التهديد والخطر النابع دائماً من الآخر.
وتؤكد شودورو على أن الرجولة أكثر من مجرد عدم التشبه بالنساء، ذلك أنها تتشكل أيضاً ضمن علاقات الرجال فيما بينهم. وتُعتبر علاقة الإبن بأبيه النموذج الذي يؤثر على علاقته مع الرجال الأطول والأقوى والأكبر سناً. كم مرة أحسّ الطفل بالإهانة في صغره أو أصابه الشك بقيمته؟ الأشياء التي يُعلّمها الأب لإبنه تتعلق بثقته بنفسه كرجل. والرجل الذي لا يزال يخاف من صفاته «الناعمة» و«الأنثوية» يقسو على ابنه، وقد يظن، عن لا وعي أحياناً، أنه يقدم خدمة من خلال تعليمه الخشونة ومعاقبته على السلوك البنّاتي. يرسله إلى معترك الحياة مُحمِّلاً إياه شعاره: «لا تدع أحداً يضايقك». يورّثه الخوف من أن يكون ليناً ويتجلى ذلك الخوف في عبادة ما يسمى بالأبطال والجبابرة. أنظروا معي إلى محتوى ألعاب الكمبيوتر التي يحبها الصبيان: جميعها تروي حكاية بطل وحيد يصدّ بعنف هجمات الرجال والوحوش والكائنات الفضائية، ليخرج سليماً من المعركة. لا أثر للوجع والخوف في تلك الألعاب، والهدف هو حصانة خيالية قلّما تثير اهتمام الفتيات. هؤلاء يفضلنَ الحب على تلك الحصانة الباردة.
من شروط نجاح الرجولة الغيرية أن «تمتلكَ» امرأة أو عدة نساء. أتعجّبُ أحياناً من الصبيان المتسكعين الذين يعجبهم أن يشتموا المرأة بأنها قحبة، وأتساءل إلى أي درجة حقدهم نابع عن الإهانة التي يستشعرونها جراء امتلاك الرجال الأكبر سناً لتلك الفتيات والنساء. التستسترون يخفق في عروقهم، ولكن الفتيات يتعالينَ عليهم لأنهم ينتمون للمرحلة العمرية الخطأ والخلفية الإثينة الخطأ ولا يملكون شيئاً يقدمونه. لذا نجدهم يداوون أناهم المجروحة عبر التنافس فيما بينهم، مما لا يتسبب بالضجة والعنف فحسب، بل قد يفضي أيضاً إلى تشكيل عصابات خطيرة. بعض الفتيان يُفلِتون من هذا المصير حالما يرتبطون لأول مرة بعلاقة حب مع فتاة، ويبقى آخرون عالقين في هذا المطب. وهكذا يصبح المثليون من أهداف تلك العدوانية، فهم رجال خائنون عبروا إلى الضفة الأخرى، وقد يشكلون عبر اللاوعي إغراءات مرفوضة.
كولن و«ثقافة» العنف الجنسي
في زحمة احتفالات مدينة كولن الألمانية برأس السنة 2015 تمّ التحرش بعدد من النساء وسرقتهنّ. وقيل إن الفاعلين هم رجال ذوو مظهر «شمال إفريقي». وقد أدت هذا الحادثة إلى جدالات حادة في الإعلام، حيث استخدمها اليمين الشعبوي كحجة جديدة لصدّ موجة اللاجئين: ها هي «قنابل التستسترون» تدخل البلد على شكل شباب عرب. ومع أنه لم يحدث شيء في هولندا يشبه كولن، وبتنا نعرف أن مجموعة من المجرمين استخدموا التحرش الجنسي كوسيلة لسرقة حقائب النساء، إلا أن النقاشات كانت تدور بشكل رئيسي حول أهمية الخلفية الإثنية للفاعلين.
ثمة اتجاهان لهذه النقاشات. الأول يذكرنا بأن التحرش الجنسي منتشر في هولندا، وأن الإحصاءات ترجع إلى ما قبل مجيء اللاجئين. وسوف نلامس الحقيقة لو قلنا إن المشكلة تكمن في الرجال الذين يعتبرون العنف رجولياً أكثر من الرعاية. من ناحية أخرى يمكننا الاعتراف بأن عواملَ ثقافية قد تلعب دوراً أيضاً، لأن الأفكار حول الرجولة والأنوثة تشكل جزءاً مهماً من الثقافة في كل مكان. في تلك الحالة سوف نمنح أنفسنا حرية التطرق للجوانب الإشكالية للثقافة العربية، حيث يحصل كثيراً أن تُعرِّض «الفلتانات» واللواتي لا يخضعن لحماية أبٍ أو أخٍ أو زوج أنفسهنّ للتحرش بخروجهنّ إلى الأماكن العامة من دون مرافق. ما أريد قوله هو أنه حين نعترف بدور الثقافة، سيتوجب علينا طرح التساؤل حول العناصر في الثقافة الهولندية التي أدت إلى تعرّض 45٪ من الهولنديات تحت سن الخامسة والعشرين إلى شكل من أشكال السلوك الجنسي العنيف، من التحرش الجاد إلى الاغتصاب.
أستخدمُ دائماً كلمة «ثقافات» وليس «ثقافة»، لأني أرى أنه لا في البلدان العربية ولا في هولندا ثمة موجة ثقافية موحدة بخصوص الجندر. باختصار: لا شك أن هناك بذرة من الحقيقة في ما يقال عن الثقافة العربية والأفكار التي يتعلمها الرجال حول «الفلتانات» اللواتي يسعينَ بأنفسهنّ للوقوع ضحية التحرش، لأنهنّ لسنَ سوى ضرب من «الشرموطات»، ولا شك أن هذه الأشياء تلعب دوراً عندما يأتي المهاجرون الذين لم يتخلصوا من تلك الأفكار إلى هولندا. ولكن هذا يحتم علينا التساؤل لماذا لم تتخلص ثقافتنا الهولندية الفخورة بحرية نسائـ«نا» من ازداوجية المعايير الجنسية إلى حدّ الآن. هذا هو الأهم.
رجال ضد العنف
في كانون الثاني 2016، أي بعد حادثة كولن، لبِس عدد من الرجال تنانير قصيرة وراحوا يتمشون في قلب مدينة أمستردام. كما رفعوا لافتة مكتوب عليها: التحرش الجنسي مشكلة رجالية. أرادوا أن يلفتوا الانتباه إلى أن ثمة رجالاً يناهضون العنف الجنسي، وأنه حان الوقت كي ننظر إلى أنفسنا. لديّ صديق أُحبُّ الحديث معه عن تحرر الرجل والمرأة يدعى ينس فان تريخت، وهو مدير منظمة تحرير الرجل، ويعمل كإنسان مثالي حسب قوله. أتفق معه على الخطوط العريضة: الرجال يحتاجون لعملية تحرر خاصة بهم، كما أنهم سوف يكسبون الكثير في حال تخلوا عن أن يكونوا «رجالاً حقيقيين». وكلانا ندرك أن الرجال ليس لديهم مشكلة فقط، ولكنهم يسببون المشاكل أيضاً. يقوم فان تريخت حالياً بتنظيم دورات تدريبية يحثّ فيها الرجال على النظر في الصفات التي يعتبرونها عن غير وجه حق «أنثوية». وقد قال في حوار أُجرِي معه: «غالباً لا يعرف الرجال كيف يعبرون عن أنفسهم، لا يعرفون شيئاً عن السبل المختلفة للتعبير عن الأحاسيس. لديهم كثيرٌ من المواهب المقموعة، لذلك من المتوقع أن تكون مكاسبهم عظيمة في مجال التطوير الذاتي. على سبيل المثال، على مستوى العناية بالأطفال والرعاية الذاتية والعمق في الصداقات. نعم، مشروع تحرر الرجل يحتاج إلى نفَسٍ طويل».
لحسن الحظ يوجد رجال كثيرون يناهضون العنف ضد النساء في جميع أرجاء العالم.