«أقلُ من خمسة أمتار في الدقيقة»، هو الشرط الذي وضعته آنا تيريسا ديكريسماكير ومجموعة من الراقصين الذين يعملون معها، للمشاركة في عرض «مشي بطيء» في باريس، الذي انطلقت فيه خمس مجموعات من الهواة والمحترفين في تمام الساعة الثانية عشرة ظهراً، مُتجهين من خمس شوارع مختلفة في باريس نحو ساحة الجمهوريّة.

هذا الأداء الذي يمتد لأربع ساعات، يهدف حسب مخرجته إلى «التأمّل»، وإعادة اكتشاف المدينة، والانتقال من النقطة أ إلى النقطة ب، دون أن يكون هناك هدفٌ اقتصاديٌ لهذا الانتقال. ويسعى أيضاً لمساءلة الفضاء العام العلنيّ، ومساحات الانتقال المخصصة للأفراد (الأرصفة) المبنية والمقننة رمزياً ومادياً وقانونياً لتخدم وظائف محددة، الذهاب إلى العمل، التنزه، الترصّد، الإعلان، وغيرها من الأنشطة التي تضبط كل واحدة منها «سرعة» ما، تتيح انسياب الكتل البشريّة وعدم عرقلتها. والأهم، أنه يوظف «علنيّة» الشارع والرصيف التي تتيح للمارّة أن يلتقوا بآخرين لا يشابهونهم، لكنهم يشاركونهم المكان ذاته، الذي يجتمعون فيه لـ«يظهروا» مصادفة أو عن قصد.

هذا «الظهور البطيء»، واختلاق قواعد تُميّز «المؤدين» عن المارّة، يمكن فهمه على مستويين؛ الأول أدائي، ويعني أن اجتماع الأشخاص علناً في الفضاء العام أمرٌ ذو معنى، وله أثر في الواقع، سواء كان هذا «الظهور» احتجاجاً أو احتلالاً أو مشياً. والمستوى الثاني سياسي واقتصادي، وهنا يبرز البُطء، بوصفه شكلاً مغايراً لأعراف الانتقال التقليديّة والقوانين التي تضبط «الحركة»، كونه يسخرُ من الزمن الاقتصاديّ، وجدوى سرعة الانتقال إلى مكان لآخر، ويجعل علاقة «المؤدين» مع المكان مختلفة عن علاقة غيرهم من المارة والراكضين والمتنزهين معه. بدقة أكثر، الأداء السابق، يحرر الفرد من زمن المدينة، نحو زمن جديد وقواعد «لعب» جديدة تميّزه عن «المُسرعين» المحكومين بقواعد السير ومواقيت العمل والتسليم والوصول.

المشي: المدينة ضدّ السكون

تسعى السلطات دوماً إلى استثمار وتوجيه «المشي»، سواء عبر تفعيله لمصالحها أو إيقافه حين يواجهها، مُوظِّفة تقنيات منع الحركة في المساحة العامة، سواء تلك القانونيّة كحظر التجول ومنع التجمع، أو المادية عبر تحويل الشارع والرصيف إلى مساحة عدوانيّة، تحوي عوائق للحركة، كالحواجز وأنظمة المراقبة التي تحدّ من تدفق الأفراد، وتصادر الحق الديمقراطي بالمدينة، جاعلةً الانتقال المرئي تهديداً للفرد أو الجماعة.

نظرياً، وفي مساحات ديمقراطيّة مثاليّة، يُحرِّرُ المشي مُمارِسه من قيد الفضاء الخاص، ويُنتِجُ الفردَ بوصفه موضوعة للاستعراض، فما يجعل المشي «ترفيهياً» أو «وظيفياً» هو وجود مكان محدد للنوم والحفاظ على الحياة، وهنا تظهر سياسات عدوانيّة ضد السكون، أي ضد أولئك الذين لا يمتلكون فضاء خاصاً، ويمشون دوماً في المدينة التي تنفيهم مراراً كونهم لا يمتلكون مكاناً للثبات، أولئك الذين يحملون متاعهم، مُهجَّرين ولاجئين ومشردين، والذين تسعى المدينة لطردهم من أحيائها وأرصفتها، لتتحول إلى مساحة لنفي من لا يمتلكون شروط «الاستقرار».

ما سبق يجعل المشي وسيلة لتجنب المُسائلة القانونيّة، فأنظمة المدينة تطرد مُشرديها دوماً، وهي إن لم تُحقّق ذلك بصورة مباشرة عبر أجهزة بشريّة، فإنها توظِّفُ سياسات ماديّة تُغيّرُ من تكوين الفضاء العام المعماريّ، فالكراسي على الأرصفة ضيقة لا تسمح بالنوم، والأرض قرب الواجهات المُظلّلة مدببة تمنع النوم أو الاستلقاء، وكأن المساحات الماديّة تضمن الظهور العلنيّ لكن بصورة مؤقتة فقط، فالشوارع والأرصفة حقٌّ للمارّة والعابرين بأشكالهم، وبمجرد ظهور «السكون» أو الرغبة به، تُفعَّلُ الأفخاخ والمصائد.

التنزّه: استعراض الاختلاف

ترافق ظهور «المُتنزِّه – «Flâneurمع تطور الفضاء العام في القرن التاسع عشر، والمُتنزِّه هو فرد يستعرض نفسه، ويستهلك ما حوله من إعلانات، وبسببه تتطور واجهات المحلات التي تسعى لاستهدافه. هو مهووس بأن يكون مرئياً، يُراقِبُ ويُراقَبْ، يرتدي الثياب الأنيقة، ويؤدّي في المدينة بوصفها مسرحه. وهو الذي يحرك جماليات العمران في المدينة لتتحول إلى عمل فنّي، نستهلكها باختبارها، و«يسحرنا» المرور فيها، فالمتنزِّه مُغامِرٌ من نوع ما، يبحث عن المصادفات والأحداث المفاجئة، كما أنه مؤدٍ شديد الالتزام بدوره، هو مرئيٌ دائماً، الفضاء العام والحركة فيه هي مساحات «حياته».

المُتنزِّه واحد من أعراض الحداثة، وصعود الطبقة البرجوازيّة، هو مستهلك ثقافيّ مثاليّ، يكتسب جاهه ومكانته واختلافه عن الآخرين عبر دوره وشكله. هو حسب شارل بودلير -الذي وظَّفَ المصطلح لأول مرة-، شاعر، ورسام ومثقف، وأناه العلنيّة ذاتها هي محط جهوده الجمالية والثقافيّة، و«يمكن مقارنته بمرآة بحجم الحشود، هو كزجاج فسيفسائيّ متغيرّ، كل واحدة من حركاته، تُمثِّلُ حيوات متعددة بكل عناصرها، هو أنا نهمة للـ«لا أنا»، والتي في كل لحظة، نراها حيّة أكثر من الحياة. هي أنا شرهة دوماً».

المُتنزِّه كالمتسوّل، الأول يبحث عن الراقي والثمين لاستعراضه أو تأمّله، والثاني يبحث عن الفائض والمجانيّ ليستمرّ. كلاهما وليدا الشروط الاقتصاديّة، فالمدينة تُقدِّمُ خدماتها للأول، وتسعى لنفي الثاني. وكأن الرصيف ديمقراطيٌ للأنيقين فقط، لمن هم حتماً مؤقتون في ظهورهم، ولا بدّ من تلاشيهم في لحظة ما.

المُتنزِّه «قرينٌ» مُشّوَه لرجل الأمن، فالأخير يراقب المارّة، ويلتزم بدوره للأقصى أيضاً، يراقب حركة وتدفقَ الجموع والأفراد. لكن ما يميز رجل الأمن قدرته في لحظة على كسر دوره، هو متنكّر ليشبهنا، مؤد ساخر، لا يؤمن بما يراه وما يقوم به ويستهلكه في الفضاء العام. هو يبحث عن الأخطاء، واللبس وسوء الفهم ليكسر دوره. هو الذي لن يستمع لموسيقيين في الشارع، بل يراقب من يمكن أن يخلخلوا «الأمن العام». هو أكثر المُتنزهين إيماناً بأن المكان العام انعكاسٌ لسلطته وسلطة من يمثلهم. هو ضابط الأدوار وإيقاع الحركة، لا يتحكم دوماً بتدفق البشر، لكنه يراقب أسلوبهم، يراهن على الحس بالخطر لدى العابرين كي يلتزموا بـ«السيناريو»، وما يميزه أنه غير مرئي أحياناً، مُشابِهٌ لكلّ المارة بأنواعهم المختلفة.

الركض: السعي نحو الاختفاء

يثير استغرابنا أي فرد يركض في الشارع دون زيّ رياضي، وهناك دوماً دهشة أو ضحك أو تسامح مع الراكضين، الهاربين من شيء ما أو الساعين إليه. أما أصحاب الثياب الرياضيّة فلا يثيرون التعاطف، لكنهم أحياناً محط السخرية.

نراهم على الأرصفة من حولنا، مجموعات أو أفراد بثياب مطاطيّة ضيقة يركضون، ويضبطون سرعتهم ويتابعون دقات قلوبهم. هم لا يتمرنون على لعبة ما، وظهورهم غير سياسي، بل نوع من «المتعة». هم ينتقلون عشوائياً لأسباب ذاتيّة، هم أصحاب وقت الفراغ المُقننّ، ومن يخالفون زمن المدينة الاقتصادي ويهرولون بيننا، نحن المدخنين والمختنقين بغازات العوادم والمسرعين نحو المكاتب والورشات والدوائر الحكومية. هؤلاء الراكضون، يبحثون عن سحر وهمي بالانعتاق من قيود الزمن الاقتصاديّ، هم الساعون لصحة «أفضل»، يختلفون عن إيميل زاتوبيكعدّاء تشيكوسلوفاكي، كتب عنه الفرنسي جان اشنوز سيرة ذاتية روائيّة بعنوان «ركض» نُشرت عام 2008.، الذي يركض على المضمار كأنه «يحفر… بعيداً عن أي عناية بالرشاقة، يتقدم ثقيلاً، لا مترابطاً، مشوَّهاً، لا يُخفي عنف جهده الذي يُقرَأ على وجهه المنقبض الجامد الملويّ دائماً بتكشيرة تُضني من يراها».

يركض عداؤو المدينة وهواة غابات الإسمنت، لحرق السعرات الحراريّة، ولخلق الاختلاف عنا بأنهم «أصحاء»، سيحيون أكثر، لن تنقطع أنفاسهم فجأة، هم من يصدقون فعلاً أن هناك احتمالاً للنجاة مما يحدث.

تتحول الحركة المرئية في ظل الخطر إلى تهديد بالموت، وهنا يوظَّفُ الركض بوصفه ليس فقط مهارة للنجاة، بل لإعادة فهم الفضاء العام بوصفه حلبة أو مساحة للصيد لا بدّ من «الاختفاء» ضمنها. فإن كُنّا محتجين، علينا أن نظهر ثم نركض ونتلاشى، وهذا ما رأيناه في المظاهرة الطيارة في سوريا، أو ما يقوم به فنانو الغرافييتي، فهم مارّة عاديون، مشاة أو مُتنزِّهون، فجأة يجتمعون، مرئيين يقولون رسالتهم، ثم يركضون بهدف الاختفاء، سواء كان الأخير مادياً أو رمزياً.

الركض السابق لعبة، وتوظيفٌ للمكان والزمان للاحتجاج، ولا يهدف لتمييز «الراكضين» عن أقرانهم، بل لجعلهم متماثلين مع الآخرين في لحظة السكون أو المشي، للاضمحلال ضمن الجموع وكأنهم جزءٌ من النسيج المتجانس، وكأن الركض سعيٌّ للوصول إلى لحظة مناسبة يكون «الكُلّ» فيها متشابهين، محتجين ومتنزهين ورجال أمن ومشاة.

الشنفرى: الهَربْ من عين القاتل

نقرأ في سيرة الشاعر الجاهليّ الشنفرى الأزديّ، أنه كان من العدّائين واشتهر بقفزاته الطويلة، هو منفيّ طريد مكروه خليع، «عدوٌ» لا بد من قتله، وكانت قفزاته وسيلة نجاته كي لا تطاله السيوف. القفز هنا معادلُ اللاثبات، وتفادٍ لتقنيات الصيد التي تستفيد من أشكال الانتقال التقليديّة لنصب الأفخاخ.

لم يمت الشنفري إلا حين كان ساكناً، «حين دنا من ماء ليشرب»، فأعينُ الموت تترصده، كمن يعلم أن هناك قناصاً بانتظاره، يتفادى طلقاته لا مشياً ولا ركضاً ولا تنزهاً، بل قفزاً بين الاتجاهات. يُشكّكُ في تنبؤات القاتل حول لحظة السكون، ينفي أعراف الحركة ضمن المكان، ويقفز. وكأن لحظات «الطفو» في الهواء، والانعتاق لأجزاء من الثانيّة، تحقيقٌ لنبوءة «الحياة» مُعلَّقاً.

الشكل المعاصر لتجربة الشنفرى ضمن المدن يشابه الجري الحرّ، أو الباركور، حيث تتحول المدينة بأكملها إلى عقبة، إذ ينفي ممارسو هذه «الرياضة» مسارات التنقل الرسميّة، ويقفزون من مكان لآخر دون انتظام. «طريقُهم» غير متوقع، ولا يمكن التنبؤ به، فنحن لا نشاهد فقط استعراضاً للمهارة، بل أداءً لتجاوز تصميم المدينة ذاته، وتحدٍّ لقياساتها المثالية التي تسعى للتنبؤ بكل أشكال الحركة لنفي بعضها واحتواء بعضها الآخر. هو مواجهةٌ لتقنيات النمذجة الجسديّة التي يوظفها الفضاء العام، عبر القفز والالتفاف وأحياناً السقوط.

يدعونا الركض الحر لإعادة النظر في التكوين المادي للمدينة، بوصفه يُرسّخ شكلاً جسدياً محدداً، ويعيق تطور مهارات الانتقال غير الرسميّة، فالقفز بين الأسطح خَطِرٌ وممنوع، لكنه أسرع وأشد فعاليّة. تمنعُ الحواجز بين الحديقة والرصيف الدخولَ إلا من مكان محدد، وذلك بهدف منع المتشردين ليلاً من «النوم»، وهنا تبرز سياسيّة «الركض الحرّ»، كونه يُتيح اكتشاف أماكن المنع والاستثناء القانونيّة في المدينة.

السّحل: الانتقال عنوةً

أشد أشكال الانتقال قسوة، تلك التي تُطبَّقُ على الفرد ضدّ رغبته، وتنتجُ عن مقاومته للحركة، ثم استعراض «انتقاله» عقاباً له، كالسحل، الذي يتبنى رغبة الفرد بالالتصاق بالأرض، ثم يضعه تحت عنف خارجيّ يحركه عنوة في استعراض علنيّ للقوة.

السحل أقسى تجليات الهزيمة، حيث نرى أجساد المسحولين علناً تتحرك في الأماكن ذاتها التي نمشي ونتنزه فيها. هو برهانٌ وحشيٌ ومرئٌي على سطوة السلطة وهيمنتها على الجسد عبر نفي الحقّ بالسكون، هو هزيمة لديمقراطيّة التنقل وإنسانيته، ودلالة ماديّة مباشر على عنف السلطة ضد من يعيقون «الحركة»، إذ نرى رجال الشرطة يسحلون محتجين رفضوا التحرك، يجرّونهم عنوة كونهم عوائق لتدفق «المواطنين». السحل المعاصر يختزن تقنيات إعادة التوازن للفضاء العام، وإزالة «العقبات» للسماح للآمنين والمسالمين بمتابعة «مشيهم»، ضماناً لانصياعهم للسيناريو العلنيّ للأداء.