سواءَ كانت اللغة ناقلاً شفيفاً لحال الواقع، وللمنظومة الرمزية والنفسية الجمعية لاجتماعٍ بشري ما، أم كانت تصنع واقعاً اجتماعياً لاحقاً؛ أي سواءَ اعتقدنا بسابقية اللغة على الواقع، أو سابقية الواقع على اللغة، فإنه لا شيء أكثر مشروعية في كلا الحالتين من التساؤل عن العلاقة بين اللغة والجنسانية بالمعنى الاجتماعي، وعمّا تعكسه لغةٌ ما في هذا الشأن: كيف تُغيِّبُ لغةٌ ما الجندر والجنسانية أو تُظهرهما، وكيف تتعامل معهما، كيف تنصف اللغة جنساً أو تُميّزُ ضده؟ ثم كيف تواكب اللغة متغيرات عالمية متسارعة مثل النظرية الجندرية؟ هل يمكننا القول إن لغةً ما ذكوريةٌ بنيوياً؟ وإن كانت كذلك، فهل ثمة إمكانية لتفكيك تلك الذكورية عبر الحقبات والطبقات المتقادمة؟
إلا أنه حين يتم التطرق للّغة والجنسانية وعلاقتهما ببعضهما، فكثيراً ما ينحو حدس عام ما إلى الخلط بين مستويين للمقاربة ليسا بالضرورة متقاربين، أولاً اللغة كمنظومة صوريّة قواعدية قديمة لا مدخل لإدراكنا الزمني لها، وثانياً اللغة كأداء مُترسّخ ومشروط بالاجتماع والاجتماع السياسي والنفسانية من جهة أخرى. بتعبير أبسط، حين يتداول الناس مقولات من قبيل: اللغة العربية لغة ذكورية كارهة للنساء لأن تأنيث «نائب» هو «نائبة»، والنائبة في اللغة تعني «المصيبة»، فإنهم لا يضيفون أي نقد أو تفكيك لذكورية اللغة، أو بتعبير أكثر جرأة، لقضيبيتها. ففضلاً عن أن المقولة مضحكة وغير دقيقة لغوياً، فإن النظام النيابي لاحقٌ لمعجمية «نائبة»، والجِناس موجودٌ في كل لغات العالم ومصادفاته غير المُحبَّذة لا تقتصر على هذا الاعتباط، ولا على اللغة العربية. ثم إنه إذا أردنا فعلاً أن نعطي للتأنيث، بمعناه النحوي/الصرفي، دلالةً ما، دلالةً ما فوق نحوية، أي دلالةً سيميائية مرتبطة بالواقع، فإننا سنندهش إلى أي حد هو مهم في هذه اللغة، وإلى أي حد هو غير متسق في مفاداته القواعدية النحوية الصرفية، فالتأنيث يفيد التصغير التحببي أو التحقيري كما هو معروف، ولكنه كذلك يفيد التعظيم أو إضفاء القيمة: رجل/رجال/رجالات، بيت/بيوت/بيوتات.
قد يُدرَس هذا الجانب القواعدي الصرف لموضوع التأنيث ضمن كل مكونات اللغة، ابتداءً من الصرف الذي يجعل كلمات مؤنثة أو مذكرة، ولماذا؟ أو النحو الذي يجعل اللغة العربية مثل كثيرٍ من اللغات تُصرِّفُ مجموع الإناث والذكور كمجموع ذكور، أو الذي يجعل جمع غير العاقل بالعربية يُصرَّف كمفرد مؤنث. لا شيء سديدٌ في تلك المقاربة، إلا من وجهة نظر نضالية صِرفة، تبتغي قسر اللغة لإبراز وعدم تغييب الجنسانيات الأخرى، كحال المقاربة التي تتبنى الإملاء التضميني في اللغات الغربية، وأحياناً في اللغة العربية (إنكلوسيف) على سبيل المثال، حين يُجمَع التذكير والتأنيث في كلمة واحدة. لا شيء سديد، على الأقل في زمننا الحالي، في محاولة دراسة مرونة اللغة مع الجنسانيات بمقاربة كهذه. هذا لا يلغي أن أحدث الدراسات الألسنية حالياً تحاول أن تربط السمات القواعدية المجردة بعوامل اجتماعية وتداولية تاريخية، ولكن هذا المسار في الأبحاث جديد، وما زالت ثمراته بعيدة. مرة أخرى في هذا الصدد، فإن التأنيث في اللغة العربية هو الشكل الصرفي الأكثر كلفةً لمتكلم العربية ودماغه، أي أنه ليس الشكل الصرفي القاعدي، لذلك تغيب نون النسوة في معظم لهجاتنا المحكية، التي بسّطت العربية الفصحى عبر التاريخ باتجاه الأقل كلفة صرفية (ربما ما عدا اللهجة الجنوبية الحورانية، وبعض لهجات الجزيرة السورية والعراق ولهجات الخليج في المشرق العربي). الشكل القاعدي المبتذل هو التذكير. السؤال الآن: ما هو حكم القيمة الذي نعطيه للابتذال والسهولة من جهة، والكلفة الصرفية من جهة أخرى؟ أيهما أفضل؟ لا جواب على هذا السؤال، فهو سؤال غير معرفي، على الأقل تزامنياً. اللغة، كل لغة، تنتظم في جزء كبير من قواعدها، وهنا أؤكد أنني أتحدّثُ على المستوى القواعدي النحوي والصرفي، على الاعتباط والاستقلال عن الدلالة، ونحن هنا لا نعيد اختراع أي شيء، فهذا مبدأ أولي وبسيط في الألسنيات الحديثة.
في هذا الجانب التقني القواعدي الذي أتينا على ذكره، هناك وجهٌ واحدٌ قد يكون كبير الأهمية على المستوى الاجتماعي السياسي، وهو الجانب المفرداتي المعجمي. ما هي الدالّات التي يتم استخدامها واجتراحها للتعبير عن المدلولات والمُعاشات الجنسانية؟ قد تفيد هنا المراقبة والمقارنة بين اللغات، فمثلاً بينما تقتصر الدلالة على الجنس على الثنائية المطلقة: ذكر/ أنثى، في معظم لغات الفضاء المتوسطيّ الذي نعرفه، تستخدم لغات أمريكا الأصلية، «الكوشوا» مثلاً، خمس مفردات للدلالة على الجنسانية. بين ذكر وأنثى بالمعنى البيولوجي، هناك كثير من التنويعات بحسب مزاج الشخص وطبيعته وميوله الجنسية، كل ذلك بالتراكب مع جنسه البيولوجي. في مثال آخر، مثيرٌ للفضول أن نعرف متى توقَّفَ الاستخدام التحقيري المعادل لـ«سحاق» و«لواط» و«شواذ» في اللغات والثقافات الأخرى للتدليل على المثلية، علماً أنه كان موجوداً؟ هل المُعاش الجديد والجنسانيات الجديدة قادرة على إيجاد مفردات جديدة، هل النساء والفضاءات الكويرية قادرة على أن تجترح مفردات جديدة؟ هذا الجانب مهم لأن فعل التسمية بحد ذاته على قدر كبير من الأهمية، فعل التسمية فعل تملّك للسلطة، يقترب من السلطة الأدائية الإنجازية في فعل التعميد الديني، وبهذا المعنى اجتراحُ المفردات أداءٌ وفاعليةٌ سياسيان. هل الفاعلون في هذه الفضاءات مستقلون عن فاعلين دوليين، منظمات غير حكومية وغيرها، في فعل التسمية ذاك؟ وهل من الضروري أن يكونوا مستقلين في فضاءاتهم المحلية الثقافية أم أن النضال الكوني غير الثقافوي نضال موحد؟ وبالتالي فالتدليل على المفاهيم والمعاشات موحد وكوني؟ هل أن نقول «غيري» أو «مثلي» كمعادل مباشر للمعجمية اللاتينية هو تبعية لسانية لمركزية ما، هل الأمر نافلٌ ولا تهمّ التسمية؟ هذه الأسئلة جديرة بأن تُطرح ويُجاب عليها، وهي أسئلة معرفية لا علاقة لها بسؤال «النائبة» و«النائبات» الإيديولوجي السابق ذكره.
اللغة بالمعنى الاجتماعي والرمزي والسياسي
أما المستوى الآخر الذي يفيد رصده في اللغة وكيفية عكسها لواقع جنساني اجتماعي فهو التداولية، والألسنية الاجتماعية، أي خصائص اللغة التي يحكي بها النوع الاجتماعي وما تقوله من موقع وسلطة ومعاش وعلاقة أو تبعية مع الجنس الآخر. إن اللغويين، وللمفارقة، لم يشتغلوا كثيراً على الجندر. أولى المحاولات لمقاربة كهذه كانت إشكاليةً لأنها كانت لتؤدي إلى مكان جوهراني، بمعنى أنها كانت محاولة لتوصيف كلام ولغة النساء وكأنها قضية ثابتة ومنتهية لا تخضع لمتغيّر الزمن، دون أي ذكر للتنشئة الاجتماعية والأسباب السياسية التاريخية. يسبرسون (1922) كان أول من التفت لذلك، وكان يتحدث عن أن لغة المرأة أقرب للنواة المركزية للغة لا تتجرأ، ولا «تشطح»، لا تقترب إلا فيما ندر من الغرائبي، أي ببساطة أن لغة المرأة غير مبدعة. ثم جاء عالم اللغة الاجتماعي لابوف، وتكلّمَ عن المغايرة أو التنوع في مقامات الكلام، ومن بين التنوعات والمغايرات تكلَّمَ عن لغة المرأة. كانت عيّنتُهُ حيُّ هارلم الشهير في نيويورك ذي الأغلبية السوداء، وأوردَ في ملاحظاته أن لغة المرأة تبتعد عن الأشياء الهامشية مثل البذاءة أو تحريف اللغة أو «السلانغ»، أو تحريف الأصوات التي يتفنن بها الشباب المتمردون، إلخ.
طبعاً هذا مثالٌ عن أدبيات عالمية معروفة، ولكن الملاحظات تبقى سديدة في السياق العربي. ففي دراسة اطّلعتُ عليها مؤخراً عن صوت «القاف» في فلسطين، وهو صوت ريفي تعريفاً، نجد أن النساء، والبنات خاصة، حتى الريفيات منهن يتجنبنه، ليقتربنَ من أشكال معيارية مدينية أكثر. المرأة بالعموم تقترب من الحالة المعيارية بحثاً عن الشرعية والقبول، ولكن أيضاً بسبب هشاشة أمانها الاقتصادي والاجتماعي، المعيارية والاقتراب من مراكز السلطة الاجتماعية تزيد من فرص العمل، وتُقلِّلُ بالتالي من انعدام الأمان، كما تزيد أيضاً من فرص الزواج الأفضل خارج الجماعة الأهلية الضعيفة. وهنا نتذكر بأن تَشرُّبَ لغة القوي كأمر متناسب طرداً مع الضعف الاجتماعي الاقتصادي السياسي هو أمر لا يقتصر على النساء، بل ينطبق على كل فئة مستضعفة اجتماعياً. في السياقات ثنائية اللغة كبعض القرى الحدودية بين هنغاريا والنمسا حيث تُحكى الألمانية والهنغارية، يورِدُ اللسانيون أن النساء يَمِلنَ إلى التحدث بالألمانية الفصيحة كلغة أرفع مقاماً في سياقهنَّ الاجتماعي. دراساتٌ أخرى تتحدث عن أن المرأة في السويد تتحصّنُ في سويدية عالية لغوياً حين تبتغي الإقناع والمحاججة أو فرض توجيه أو تعميم ما، ولا يشعر الرجل بنفسه مضطراً دائماً إلى ليونة لغوية مُرهِقة كهذه.
فيما بعد جاء ألسنيون آخرون ليشتغلوا على تحليل خصائص كلام النساء من وجهة نظر نسق آخر، وهو نسق السلطة وموازين القوى والشرعية، أشهرهم لاكوف، وهي لسانية بدأت كنحوية ومن بعدها اهتمت باللسانيات الاجتماعية واشتغلت من منظور تداولي وتحليلي على المحادثات والتبادلات اللسانية، كما تحدثت على بعض خصائص لغة النساء المرتبطة بطبيعة مكانتهنَّ وسلطتهنَّ في المجتمع. فعلى سبيل المثال، المقاطعة أثناء الكلام التي تتعرض لها المرأة بكثافة، واستخدامها للصيغ التشكيكية الملطفة وتجنبها للصيغ التقريرية واستخدامها كلمات مبالغة فارغة المعنى واستخدامها الأسئلة التخفيفية، كل هذه تُعرِّضُها لأن لا يجيبها الرجال على أسئلتها، بينما يشعرون بأنفسهم مضطرين للإجابة على أسئلة الرجال. هذه الملاحظات المتعلقة بإعطاء خصائص لكلام أو لغة النساء، تنسحب على لغة الأقليات الجنسانية الباحثة عن شرعية.
إن اعتبرنا أن هذه المسائل هي «هابتوسات» [استعدادات؟] لغوية متجذرة في ممارسات النساء، شبه حتمية لا يمكن تغييرها نتيجة نظم بطريركية ألفية، فما الفائدة من ذكرها؟ هل يمكن تغييرها؟ على الأقل فيما يتعلق بالمقاطعة أثناء الكلام فهناك معركة متاحة، معركة سياسية ومعركة تربوية. لا زلتُ أذكر السجالات الإعلامية التي كانت تدور في فرنسا إبّان إصدار القانون الذي يمنع الحجاب والرموز الدينية في المدارس بين عامي 2003 و2004، كانت تُدعى النساء المحجبّات للمشاركة في النقاشات العامة المتلفزة، دون أن يُتاح لهنَّ إنهاء جملة مفيدة متكاملة. في مقامات أخرى، قد يحرص مُجمّعٌ من الرجال المهذبين على عدم مقاطعة المرأة أو النساء المُجالسات، إلا أنه في لحظة معينة حين يحمى وطيس المحادثة سياسياً أو فكرياً وتُستثار لديهم المشاعر الدفّاقة، لا مفرَّ من أن يذوي الرجال عشقاً ببعضهم بعضاً لينسوا المرأة المُجالسة، ينظرون إلى بعضهم وحسب، في وله ذهني متبادل لا تَلِجُ المرأة إليه، لا يعودون يسمعون من بعدُ إلا بعضهم. ضمن كل هذا تتراكب وتتداخل شيفرات ورموز طبقية واجتماعية. الشيفرة الطبقية تبقى حاضرة ومتقدة ومراقبة لسير الحديث رغم بحر الهيام الذكوري. يحرص الرجال على توجيه بعض النظرات رغم كل شيء لامرأة ذات يُسر، أو في موقع نافذ.
الكلام كصولجان في يد المرأة
بعض الأحداث العابرة بسرعة في بحور أحداثنا السورية تستحق الكثير من التأمل، حين توفيت إحدى المناضلات السوريات البارزات في صيف 2017 في منفاها الباريسي كان من أبرز الرثائيات الامتداحية التي وجّهها لها الجلّادون من «معارضي المعارضين» حصراً هو لوذها بالصمت بعد خروجها من بلدها سوريا. طبعاً الصمت على العموم مطلوب لأنه شكل الشرعية الوحيد المسموح به في المطحنة السورية، ولا مكان متاح لارتكاب الأخطاء وسوء التقدير على مستوى الخطاب، سواء كان الراغب بالكلام رجلاً أم امرأة، إلا أن الملفت في حالة المرأة هو تماهي الصمت مع شيء من العفّة أو الكرامة المُصانة، بمعنى أن المناضلة المذكورة لم تتلوث بالدم السوري وربما (أو على الأرجح) ليس بغيره من الملوثات في ذلك المخيال الجلّادي (إن صح اشتقاق نسبة من جلاد)، وخير دليل على عدم تلوثها هو الصمت. في أحيان كثيرة أخرى، حين تتكلم المرأة ببلاغة وسدادة وتمكُّن معرفي من الكلمات، فإن أول ردة فعل عفوية، لاحظتُها شخصياً على وسائل التواصل الاجتماعي، هو عدم الفهم تقصداً أو دون وعي، بمعنى أن الكلمات الكبيرة الخارجة من فم المرأة هي حكماً غامضة ولا تتحلى بالوضوح وغالباً مدعّية ومتعالمة. المرأة المتكلمة متعالمة لا عالمة. عندما كنتُ أضع الرتوشات الأخيرة لهذا المقال في ملف الجمهورية، وهو مقالٌ غير ذاتي، «ناشفٌ» نوعاً ما، لكنه ليس كذلك مقالاً أكاديمياً معمقاً بقدر ما هو مقال تعريفي للحساسيات اللغوية في مجال السلطة، كانت «رواقيبُ» من كل نوع تحكم النظرة الأخيرة للكتابة: هل هو واضح؟ فإن لم يكن واضحاً فأنا غير مُتمكّنة مما أعرف. هل هو بسيط بما يكفي؟ إن لم يكن تبسيطياً فسأُتَّهم بالتعالم. في مبحث التداولات والمحادثات، هناك ردات فعل أكثر تهذيباً وعفوية وليس أقول ذكورةً يمكن رصدها، الكلمات الكبيرة الخارجة من فم المرأة تُستقبل باندهاش يشبه الاندهاش قبالة فقمة تلعب بالكرة ببراعة المتدرب في سيرك، ولكن تُخشى هفوتها الآتية لا محال، فالهفوات هي حال الحيوانات التي لا رِباط على سلوكها. تلك الخشية نراها في محاكاة المخاطب لكلمات المتحدثة على شفاهه، وهو كما نفعل حين يبدأ الطفل بنطق كلماته الأولى، ننطق معه دون صوت لنتأكد أنه يقول ما ينبغي أن يُقال ونرفع حاجبينا ببراءة المُندَهش.
في حالات أكثر تعقيداً مثل حالة اللغة العربية مزدوجة الأداء بين الفصحى والعامية، بين السلطوي والحميمي، فإنه من الصعب أن تُقنِع المرأة بعربيتها الفصحى، وإن تمكنت منها فهي تفقد هويتها الأنثوية. معبّرٌ جداً في هذا السياق ما تم تداوله في وسائل التواصل الاجتماعي السوري بُعيدَ اجتماع القبيسيات في الجامع الأموي ضمن احتفاليات «الحملة الانتخابية» لبشار الأسد في تموز 2014. بعيداً عن آرائنا في الموقف السياسي للقبيسيات من النظام الحاكم، فإن الخُطَبَ التي ألقتها الداعيات في ذلك اليوم كانت ملفتة في تمكُّنها اللغوي من الفصحى، لقد خلت تقريباً من الأخطاء النحوية المتكررة في الخطب السياسية من هذا النوع. كثيرٌ من التعليقات كانت تتكلم عن استرجال الداعيات ومثليتهن الغامضة فيما بينهن، ربما لو لم يكنَّ محجبات لكانت التعليقات لتحكي عن عاهرات بدل مسترجلات. في المخيال القديم والشعبي لكثير من الحضارات، تتمثل فاعلية وأدائية المرأة في صمتها، فكلامها غير شرعي خارج الحيز الخاص الحميمي أو المخصص للدهاء والتلاعب بُغية النجاة.
لا أملُّ تكرار ملاحظة محببة إلى قلبي ذكرتَها إحدى اللسانيات حول هذه النقطة حين درسَت قصص أندرسون وغريم وغيرها من قصص الأطفال التي أصبحت كونية، وعرفها أبناء جيلي كإرثٍ عالمي. في تلك القصص يُتَوّج أداء المرأة كصبر وصمت بإنجاز ما، إلا أن إنجازها لا يمكن أن يتم عبر الكلام. في مقارنة بين قصة البجعات السبعة وقصة الخياط الصغير نجد أن الفتى الخياط يحقق مراده بمجرد النطق بسبع كلمات ووضع يده على حزامه، بينما وقعَ على كاهل الأميرة الصغيرة التي تحوَّلَ أخوتها السبعة إلى بجعات بفعل لعنة ساحرة، وقعَ على كاهلها أن تحيك قمصاناً من الكتان الشائك غير المتواجد إلا في القبور، بشرط ألا تنبس ببنت شفة لمدة سبع سنوات. تغييرُ المصائر والتمكُّنُ منها عبر الكلام غير متاح للنساء لأن كلامهن غير شرعي، اللهم إلا إذا مرَّ عبر الرجل، أو اكتسبنَ الشرعية من موقع تحكّمِهنَّ القدري أو الاقتصادي أو الوراثي بمصائر رجال آخرين، وهنا من نافل القول أن نذكر تراكب عدم شرعية المرأة الجوهرية مع عدم شرعية سلطة الفقيرة أو غير المتمكنة اقتصادياً. في بلادنا أصبح من المعروف أن مثلث امرأة/ مسنّة/ فقيرة هو مثلث القاع في موازين القوى الاجتماعية. ترتبط بالمرأة الصالحة سمات الصبر وطول النَفَس، بينما سمات الانبثاق والتفتح الآنية أقرب إلى الرجولة، هذا ما يبرر أن الصفات التي تُستخدم لنعت المرأة العالمة هي «مجتهدة» و«شغيّلة» و«صبورة» و«درّيسة»، في حين تُستَسهَلُ صفات مثل «نابغة» و«عبقري» و«ذكي» أكثر حين يكون المنعوتُ رجلاً. والنَفَسُ الطويل يوحي بالثقة عند المرأة، ونتوجّسُ من انبثاقاتها اللحظية التي تستدعي صور هستيريا أنثوية لا يمكن التنبؤ بنتائجها. ما أخلص اللغة في نقل كل ذلك.
مع حرصي على الابتعاد عن الوصايا والوصايا النضالية على الخصوص، وفهمي أن الاجتماع والواقع المعقدين لا يتغيران برغبويات وطفرات نضالية طارئة، إلا أني أعتقد أن من أهم ما يمكن فعله في مجال النضال النسوي اللغوي هو السعي إلى تشجيع انخراط النساء في الخرق والإخلال بالسلطات الأدائية اللغوية. والإخلالُ هنا يعني الاقتراب والتمكّن من السلطات الأدائية، دون أن يبدو ذلك محاكاة ساخرة «باروديا» سلطوية (أو ربما ليبدو «كباروديا»). حثّهنَّ على الإمامة والفتوى والاجتهاد الديني والقضاء وكتابة وروي التاريخ باللغة العاميّة الحميمة التي من المفترض أن تبقى مقتصرة على المنازل، وعلى السخرية والسخرية السوداء والأدبيات البوليسية، وكل ما لا يخطر على بال «النائبات» فعله. أن يهزأن بوصية الفرزدق القائلة بذبح الدجاجات المتجرّئة على الصياح تشبُّهاً بالديوك، وأن يصحنَ شِعراً ورغبات ونصوصاً تعبّر عن أجسادٍ تستبدنُ معنى السلطة والقمع لحماً وشحماً.