قالت الشبكة السورية لحقوق الإنسان في تقرير لها، صدر بمناسبة اليوم العالمي للقضاء على العنف ضد المرأة الأحد الماضي، إن ما لا يقل عن 9906 نساء لا يزلنَ قيد الاعتقال أو الإخفاء القسري على يد أطراف النزاع الفاعلة في سوريا، منهنَّ أكثر من 8000 في سجون النظام السوري، والباقيات يتوزعنَ على سجون ومعتقلات فصائل معارضة وتنظيمات إسلامية متشددة والإدارة الذاتية. وبالإضافة إلى المعاناة الرهيبة التي يتعرض لها سائر المعتقلين والمعتقلات في السجون، فإن هناك معاناة خاصة بالنساء اللواتي تمّ إطلاق سراحهنّ، تندرج في إطار نوع آخر من العنف الذي تتعرض له النساء، غير العنف الجسدي المباشر.
تقول السيدة علياء الحسن (32 عاماً)، التي كُتِبَ لها عمرٌ جديدٌ بعد إطلاق سراحها، إن الظروف التي واجهتها بعد خروجها من المعتقل «وضعتها أمام كابوس جديد». وكانت علياء قد اعتُقِلَت على أحد حواجز النظام أثناء توجهها إلى مدينة حماة بغية الحصول على جواز سفر، وهي تعزو سبب ذلك إلى نشاطها في إحدى المنظمات الإغاثية في ريف إدلب. تروي علياء جوانب من ظروف اعتقالها للجمهورية: «كاد قلبي أن يتوقف حين مثلتُ أمام المُحقّق، الذي راح يصرخ ويتهمني بالتواطؤ مع من أسماهم بالإرهابين، ليأمر بعدها بسجني». وتقول إنها لم تكن في تلك اللحظة تعرف ما ينتظرها من تعذيب شديد تضمّنَ الشبح والضرب، قبل أن تُسجن في زنزانة ضيقة ضمت عشرات من النساء المعتقلات.
تنقّلت علياء بين عدد من المعتقلات والأفرع الأمنية، ليستقر بها الأمر في سجن عدرا بدمشق. وبعد قضاء أكثر من سبعة أشهر فيه، تم إطلاق سراحها بعملية تبادل للأسرى، لتعود وتجد أن ما تركته من حياة قد تغيّرَ إلى الأبد.
فوجئت علياء بانفصال زوجها عنها، وحرمانها من أولادها الأربعة، تقول: «أي ذنب ارتكبته لأواجه هذا المصير، لقد خسرتُ عائلتي، بل خسرتُ حياتي كلّها، التي لم يعد لها أي طعم أو معنى بعد اليوم». حاولت علياء المطالبة بأبنائها، غير أنها فشلت في إعادتهم إليها لعدم وجود محاكم منصفة في ظل ما تعيشه المنطقة من فوضى العسكرة.
دفعها كلّ ذلك إلى مغادرة البلاد والإقامة في تركيا، علّها تستطيع أن تمحو ما مرت به من ذاكرتها، ولكن دون جدوى: «تمنيتُ أن يكون كل ما عشته مجرد كابوس فأصحوا منه وأعود لحياتي الطبيعية التي حرمني منها نظام الأسد، ولكن هيهات».
يضعُ اعتقال النساء السوريات خطاً فاصلاً بين ماضيهن ومستقبلهن في حال إطلاق سراحهن، لأن تداعيات الاعتقال اجتماعياً وأسرياً كثيراً مما تتسبب لهنَّ بعزلة قسريّة، إذ يخشين الحديث عمّا جرى معهنّ، أو الإفصاح عن الانتهاكات التي تعرضنَ لها، خوفاً من وصمهنَّ مدى الحياة، وسط غياب أي مساعدة اجتماعية ونفسية لهؤلاء الناجيات، اللواتي لا ينتهي كابوسهنَّ حتى بعد الخروج من المعتقل، بل تبدأ كوابيس جديدة.
اعتُقلت رهام (22 عاماً) على أحد حواجز النظام أثناء عودتها من جامعة حلب أواخر عام 2013 بتهمة دعم الإرهاب، وذلك للضغط على أحد إخوتها المنضم آنذاك لإحدى الكتائب المناوئة للنظام. تعرضّت داخل السجن لكثيرٍ من الضغوط والعنف الجسدي والنفسي، ثم تمّ إطلاق سراحها بعد مضي سنة وثلاثة أشهر، لتُفاجئ بإصرار أهلها على تسفيرها إلى تركيا حيث تقيم عمُّتها. كان قد شاع خبرٌ عن وفاتها في السجن، حتى غدت متوافاة بنظر جميع من يعرفها، وهو ما حاول أهلها تأكيده حين قاموا بإقصائها فور خروجها السجن.
تقيمُ رهام اليوم في إحدى مخيمات اللاجئين في تركيا، وتعاني مشاكل نفسية كثيرة، تتجلى في شعورها الدائم بالخوف نتيجة حالة الشتات والضياع التي تعيشها في منفاها، الذي فرضه عليها أهلها ومجتمعها.
من جهتها، تحاول المعتقلة المُحرّرة لمياء (28 عاماً) التأقلمَ مع وضعها الجديد، فالسنتان اللتان قضتهما في سجون النظام على خلفية مشاركتها في المظاهرات السلمية، أحدثتا تغيّراً عميقاً في نظرة أهلها والمجتمع لها، خاصة بعد انفصال زوجها عنها، الذي لم يُرِد الاستمرار معها بعد إطلاق سراحها. تعمل لمياء متخصصة اجتماعية اليوم، وهي تحاول أن تساعد النساء اللواتي تعرضن للعنف القائم على أساس النوع أثناء الحرب الدائرة في البلاد، تحاول حسب استطاعتها مساعدة مَن «ظَلَمتهنَّ الحياة» على حد وصفها.
«ثمة مشاكل نفسية عديدة تعاني منها المعتقلات بعد الخروج من السجن»، توضح المرشدة النفسية فاتن السويد للجمهورية، وتضيف أن التعقيدات والآثار النفسية تتفاوت بين معتقلة وأخرى، لكنها تشملُ في معظم الأحيان القلق واليأس واضطراب ما بعد الصدمة والاكتئاب.
تأسفُ السويد لكون المجتمع السوري لم يغيّر موقفه حيال قضية المعتقلات، اللواتي من المفترض أن يجدنَ في مجتمعهنَّ وعائلاتهنَّ رعاية ومساعدة تعطي الإحساس بالأمان، وتُسهّل الطريق أمام تأهيلهنَّ نفسياً بعد كل ما واجهنَهُ من ظروف كارثية وراء قضبان الزنازين. لكن في الواقع، فإن ما يلقينه من مجتمعهنَّ هو العكس: «يتم الإفراج عن المعتقلة السورية، فتضطر للسفر خارج البلاد مباشرة خوفاً من مجتمعها ومن وصمة العار التي ستلحق بأهلها بحسب اعتقادهم، واعتقادها أحياناً».
يواجه الناجون من معتقلات النظام صعوبات كثيرة للعودة والتأقلم مع الحياة بعد خروجهم، خاصةً بعد الظروف بالغة القسوة التي يواجهونها خلال الاعتقال، لكن في حالة النساء، فإن الصعوبات مضاعفة، لأن عادات المجتمع المحافظة تتحوّلُ إلى سجن جديد لا يسمح باستعادة الحياة الطبيعية. هو ظلمٌ مُركّب، لم يترك فرصة لعلياء أو رهام أو لمياء لاستعادة حياتهنَّ وامتلاكها من جديد.